دفاع مجيد عن «ألف ليلة وليلة»

 دفاع مجيد عن «ألف ليلة وليلة»
        

          الطريف أن القاضي محمد الحسيني هو نفسه الذي حكم بمصادرة «ألف ليلة وليلة»، حوالي أربع مرات، أما قاضي الاستئناف الذي حكم بتبرئتها في كل مرة فهو الأستاذ سيد محمود يوسف ومعه القاضيان مصطفى مصطفى عطية، وعبدالله لبيب خلف وهي الهيئة القضائية التي ينبغي تسجيل اسمها بأحرف من نور في تاريخ الاستنارة المصرية المعاصرة، والواقع أنه لولا القاضي سيد محمود يوسف لكنا حرمنا من كتاب يزهو به التراث العربي والعالمي، وقامت بعد مصادرته ضجة هائلة، كما أوضحت، شملت العالمين العربي والأجنبي على السواء.

          يبدو أن ثقافة القاضي سيد محمود يوسف العميقة هي التي هدته إلى معرفة قيمة المادة موضوع النزاع ومكانتها في التراث، وأتصور أنه لابد أن يكون قد تأثر بحملات الرأي العام، التي تشكلت دفاعا عن «ألف ليلة وليلة» وضمت عددا من رجال الدين المستنيرين في مصر، فضلا عن رجال الدين المسيحي، الذين قام بتمثيلهم البابا شنودة نفسه، وقد دافع عن «ألف ليلة وليلة» دفاعا يزيد في أهميته وتأثيره على دفاع د.إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية ونائبه د.مهدي علام وأضف إليهم كبار المثقفين والمبدعين من رسامي الكاريكاتير الذين لم يتخلفوا عن الركب، وتركوا لوحات ساخرة، خصوصا ما خطته ريشة أو قلم الفنان المبدع صلاح اهين.

          ومهما يكن من أمر، فإن الدفاع عن «ألف ليلة وليلة»، في محكمة الاستئناف، استند إلى تقريرين أولهما تقرير الخبراء الذي صاغه عدد من كبار علماء التراث ومحققيه، المشهود لهم بالخبرة، والذين ينظر إليهم الجميع باحترام وتقدير، وذلك لمكانتهم العلمية المستندة إلى إنجازات مرموقة وسمعة علمية لا تشوبها شائبة. وكان الثلاثة هم على الترتيب التالي إبراهيم الإبياري، فتحي أبو بكر، محمد محمود حمدان وكان تقريرهم عن «ألف ليلة وليلة وطبعاته المختلفة في مصر والأقطار العربية» علميًا هادئًا ومحايدًا، ويلتزم بموضوعه، ويقدم حقائق دامغة تنسف أهم الأسس التي انبنى عليها حكم الإدانة، ومن ثم تقدم للدفاع مسوغات بالغة الأهمية في بناء دفاعه، مستندا إلى حكم خبراء، في مواجهة حكم لم يقم إلا على تقرير ضبط، قام به ضابط آداب محدود الثقافة والخبرة التراثية، وبلاغ أو أكثر من بعض أولياء الطلبة الذين كان الكتاب أحد مراجعهم في الدراسة، وأخيرا أحكام متطرفة دينيا، لا تعرف سماحة تراثها الإسلامي العظيم الذي تقبل ما هو أخطر من «ألف ليلة وليلة» فيما يتصل بالعبارات الجنسية التي أهاجتهم، أو الأفعال التي تسببت في ثورتهم.

أثمن كتب التراث

          ويقوم تقرير اللجنة الثلاثية التي أعدت كتابها على أربعة أركان متعاقبة، الركن الأول يبين قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» وكيف أن الكتاب يعتبر أثمن ما وصل إلينا من كتب التراث العربي، ويرجع تاريخه إلى القرن الرابع الهجري، فقد أشار إليه المسعودي المؤرخ المتوفى سنة (346هـ) ، كما أشار إليه ابن النديم في كتاب «الفهرست» سنة (385هـ) ومحصلة هذا الركن أن الكتاب قديم ومعروف في التراث، عرف الجميع قيمته، وتداولته الأجيال عبر القرون من غير حساسية أو اعتراض أو اتهام، والمعنى الضمني أن هذه الأجيال العديدة لم تكن أقل إسلامًا من الأجيال الحديثة، وأنها كانت تضم من الفقهاء الأتقياء ومن أئمة السنة من لم يثرهم الكتاب أو يغضبهم، فيدفع المتزمتين منهم إلى الأمر بحرقه كما فعلوا في كتب لم يكن لها علاقة بالأدب، بل بالعقيدة، أما الأدب فقد كانت الحرية معترفا بها لمبدعيه، وذلك بمبررات عديدة متوازية.

          أما الركن الثاني فيتصل بأن الكتاب تناوله، في العصر الحديث، الكتاب والمؤرخون من الشرق والغرب بالدراسة والتحليل. ولا تنسى اللجنة الإشارة إلى الدراسة المستفيضة التي وضعتها عن هذا الكتاب د.سهير القلماوي باعتبارها أولى الرسائل الجامعية التي قُدِّمت لكلية الآداب بجامعة القاهرة وقد نشرت الرسالة في كتاب بعنوان «ألف ليلة وليلة» أصدرته دار المعارف بمصر سنة 1956 «مكتبة الدراسات الأدبية» وتنقل اللجنة عن تقديم طه حسين للكتاب وكان المشرف على الرسالة قوله: «تأتي البراعة في هذه الرسالة من موضوعها، فهو ألف ليلة وليلة، هذا الكتاب خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب قرونا طوالا، ونظر الشرق إليه على أنه متعة ولهو وتسلية، ولكن على أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعا صالحا للبحث المنتج والدرس الخصيب» ومعنى هذا الركن أن كتاب ألف ليلة ليس كتاب جنس وإنما هو كتاب أدب رفيع، جمع بين المتعة والفائدة، التسلية والجد، الخروج على الأخلاق ظاهرا، بينما يعمد في الباطن إلى إثبات أهمية القيم الأخلاقية، ويصل بين الحقيقة في الوقت الذي يطلق سراح الخيال ليحلق بلا حدود بما يغني الجانبين الوجداني والعقلي للإنسان، ويضم من عيون الشعر ما يصل العظة والعبرة بمتعة التسلية التي تجم القارئ ليقوى على مواصلة الحق الذي هو مأمور به، وأخيرا يؤكد أن الله خلقنا قبائل وشعوبا لنتعارف، وأن التقوى هي التي تحدد مكانة كل إنسان من البشر ولذلك فهو كتاب ينطوي على كنوز لا تقدر كما يقول طه حسين، ويظهرها للقارئ بما يشوقه في التماسها من مصادرها، فيقرأ «ألف ليلة وليلة» في أوقات الجد وأوقات الفراغ جميعا والكتاب بعد ذلك ينتسب إلى الأدب الشعبي، عاش في الأمم الإسلامية القديمة فتأثر بحضاراتها وبيئاتها، واكتسب من خصوصية كل بيئة ما تراكم على غيره في طبقات تثري العقل والوجدان والخيال، ولذلك يكتسب القدرة على مخاطبة كل البيئات لأنه يتجه إلى جوهر الإنسان في الشرق الذي قدره واحتفى به، والغرب الذي وضع الكتاب بين آثار العالم الرفيعة، فتبارى مترجموه في ترجمته إلى أهم لغاته.

تصحيح لطبعات الليالي

          أما الركن الرابع من التقرير فيشير إلى طبعات الكتاب، بادئا بطبعاته الأوربية بلغته الأصلية، جاعلا أولاها طبعة كلكتا في الهند، وثانيتها طبعة برسلاو والحق أن العكس هو الصحيح، فقد ظهر الجزء الأول من طبعة برسلاو أولا (راجع الطبعة التي أشرفت على إعادة إصدارها من دار الكتب، عندما عملت رئيسا لها لثمانية أشهر)، أما الطبعة المصرية الأولى فهي طبعة المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1252 هـ (1836 م) وقد قام بتصحيحها، فيما يقول التقرير، الشيخ محمد قطة العدوي مصحح دار الطباعة الكبرى ببولاق كما كانت تسمى في ذلك الحين وهذا كلام غير دقيق، فالصحيح أن طبعة مطبعة بولاق الأولى صدرت سنة 1251 هـ (1835م) وقد صححها الشيخ عبدالرحمن الصفتي في مجلدين، وذلك في زمن محمد علي باشا، كما سبق أن أوضحت، أثناء تناولي لطبعات ألف ليلة وليلة، أما الطبعة الثانية فقد أشرف على إصدارها وتصويبها الشيخ محمد قطة العدوي سنة 1279 هـ (1862م) وكانت المطبعة البولاقية قد آلت إلى عبدالرحمن رشدي، في عهد عباس الأول، قبل أن يسترجعها إسماعيل باشا، ويعود بها إلى اسمها القديم «مطبعة بولاق الأميرية»، وقد قسم الشيخ محمد قطة العدوي طبعته إلى أربعة أجزاء، وهي الطبعة التي شاعت وتوارثها الناشرون في مصر، وضبطتها شرطة الآداب في مكتبة صبيح، وصادرتها، وصدر الحكم بتغريم صاحبها، قبل أن يقوم القاضي الجليل سيد محمود يوسف بالحكم ببراءتها ورد الاعتبار إليها.

          والحق أن الخطأ الذي وقعت فيه اللجنة خطأ يغتفر، ربما لأنها لم تطلع على كل الطبعات المتاحة في دار الكتب المصرية، والتي كان من السهل لي الاطلاع عليها بحكم عملي المؤقت رئيسا لمجلس إدارة الدار، ويشكر للجنة، على أي حال، جهدها الذي لم يكن مقصودا منه الاستقصاء الدقيق، وإنما إظهار حقيقة بالغة الأهمية أمام محكمة الاستئناف، ومؤداها أنه كما تقبلت أجيال القراء القدامى كتاب «ألف ليلة وليلة» على مر القرون ابتداء من القرن الرابع، تقبلت أجيال القراء المحدثين الكتاب الذي طبعته المطبعة الأميرية التي أنشأها محمد علي، وتعاقبت على طباعته المطابع الخاصة ابتداء من مطبعة عبدالرحمن رشدي، مرورا بالمطبعة الشرقية، ثم مطبعة آل الحلبي (مصطفى وبكر وعيسى) ثم مطبعة صبيح الكبير التي توارثها أولاده إلى أن أغلقوها، وعنهم أخذت المطابع اللبنانية والعراقية وغيرها على امتداد الأقطار العربية وكل هذا ولم يعترض أحد رغم وجود الطبعة الأصلية مع وجود ثلاث طبعات مهذَّبة على الأقل ما بين لبنان ومصر، ولم تعترض الدولة ولا القراء، ولم تعدم الموجود من النسخ القديمة في دار الكتب، أو تمنع الجمهور من الاطلاع عليها، ولم يعترض مجلس الشعب كما فعل مع «الفتوحات المكية» التي توقف طبعها لسنوات قليلة، قبل أن تعود طباعتها إلى ما كانت عليه، دون اعتراض، والمغزى المضمر هو السؤال لماذا تقوم مباحث الآداب، وحدها، أو بناء على بعض الوشايا أو الشكاوى، أو حتى مقال متزمت، بمصادرة الكتاب وتقديمه إلى المحكمة بواسطة النيابة، متجاهلة التاريخ المجيد لكتاب، وصفته اللجنة بأنه «أثمن ما وصل إلينا من كتب التراث العربي»؟

النسخة المهذبة

          ونأتي إلى الركن الرابع، وفيه مقارنة بين العبارات في النسخ التي كانت توزعها دار الكتاب المصري - اللبناني وبقية الطبعات الأصلية، ويتضح بجلاء أن الطبعة التي توزعها دار الكتاب المصري أكثر الطبعات تهذيبا في الحديث عن الجنس وذكر الأعضاء بالقياس إلى الطبعة الأصلية لدار الكتب ويكتمل هذا الركن بما يحسم الأمر تماما، ويوجه ضربة قاضية ماحقة لأساس الاتهام ولحكم المحكمة الابتدائية على السواء، وهو منقول من عدد محدود من الأشعار التي وردت في «الأغاني» و«مختار الأغاني في الأخبار والتهاني» اختيار ابن منظور محمد بن مكرم، من الجزء الثالث فقط الذي حققه عبد العليم الطحاوي من سلسلة «تراثنا» التي كانت تصدرها الدار المصرية للتأليف والنشر، وعرضتها على الجمهور سنة 1966، وهي دار مملوكة للدولة، ولم يعترض على نشر ما ورد من أشعار جنسية في المطبوع لأبي نواس وغيره وهو الأمر نفسه الذي تكرر في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بإشراف وتحقيق إبراهيم الإبياري، الذي اشترك في كتابة التقرير، وصدر المجلدان المقتبس منهما سنة 1979 من غير اعتراض أحد ولا تدخل شرطة الآداب، ولا حتى أية جهة رقابية.

قداسة التراث

          وكان يمكن للجنة أن تشير إلى عشرات الكتب الأخرى، ومنها الحكايات التي يضمها كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه» وأمثاله من كتب عديدة، لا أجرؤ على أن أنقل منها شيئا، كما لم أجرؤ على الاستشهاد بأشعار أبي نواس التي استشهدت بها اللجنة في تقريرها وكان واضحا، في النهاية، أن اللجنة كانت تريد توجيه رسالة محددة إلى المحكمة، مكونة من عدة نقاط، أولاها أن قيمة الكتاب الذي تحاكمه أجلّ من أن يضعه ادعاء جاهل في قفص الاتهام، وثانيتها أن كتب التراث لا ينبغي أن تمس، أو يعبث بها عابث بالحذف تحت دعوى التهذيب، وذلك بحجة بسيطة مؤداها أنه إذا سمحنا لجيل لاحق بحذف ما قد لا يروقه، فسيأتي يوم لن نجد من كتب التراث شيئا، فالتراث شيء مقدس، لا ينبغي المساس به مثل الآثار سواء بسواء ولا يعني هذا عدم إصدار طبعات مختصرة، أو مهذبة، فهذا أمر لا مشكلة فيه وقد حدث أكثر من مرة، وفي كل الآداب، منها الأدب الانجليزي الذي نجد فيه الأعمال الكاملة لشكسبير مصانة، محافظا على كل ما فيها، إلى جانب طبعات مختصرة أو ميسرة أو بإنجليزية معاصرة لكن لا يجرؤ كائن مهما كان أن يمس النص الأصلي في طبعاته التي أصبحت ملك الإنسانية كلها، ولذا قامت قيامة العالم كله، وتدخلت اليونسكو بقوة بإيقاف «طالبان» من استكمال تدمير تماثيل «بوذا» الضخمة الموجودة في أفغانستان، وكانت حملة عالمية، شارك فيها علماء المسلمين، خصوصا كبارهم من العقلاء، وأرسلت مصر شيخ الأزهر الأسبق، لإقناع أمراء «طالبان» بالتوقف عن ارتكاب هذا الجرم، والحق أني أقرأ في تقرير اللجنة معنى من معاني الحفاظ على التراث القديم في كل مجالاته، ومنها الآداب على وجه التحديد وهو الأمر الذي يجعل جوهر ما في هذا التقرير الدفاعي يصلح لأن يقف حائط صد في وجه متزمتي هذا العصر الذين سمموا الهواء النقي للتذوق الأدبي والفني على السواء.

          وبالتأكيد، فإن تقرير هذه اللجنة، من كبار علماء التراث ومحققيه، قد مهد الطريق أمام الأستاذ صبري العسكري المحامي القدير، الذي قدّم مذكرة دفاع تستحق الإشادة، سواء في جوانبها الفكرية أو القانونية، أما الجانب الفكري فقد سبق أن أشار إليه في دفاعه أمام المحكمة الابتدائية التي لم تقبله للأسف، ربما بسبب التكوين الفكري المحافظ للقاضي الذي انفرد بالحكم الرافض للدفاع، ولذلك بدأ بإعادة الأساس الفكري لدفاعه، مؤكدا أن دعوى مصادرة «ألف ليلة وليلة» من الدعاوى التي تحسب في التاريخ والتي يتحسب لها التاريخ، فهو لم يكن مغاليا، فيما يقول، حين أكد في دفاعه الأول أنه لا يتناول الدعوى بوصفها دعوى ضد مستورد أو موزع للكتب، نسب إليه أنه خالف القانون في حكم من أحكامه إنما هي دعوى تتصل بحرية التفكير والتعبير في مجتمع تتصارع فيه الأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما تتصل بقضية التراث الذي هو عنصر تكويني بالغ الخطورة في بناء وعي المجتمع سلبا أو إيجابا، فمن يملك حق إصدار القرار بنشره أو عدم نشره؟ وكيف ينشر؟ وما السلطة القادرة على وضع الضوابط لذلك؟ ويمضي صبري العسكري قائلا: لم يكن اختيارنا لهذا المنهج في تناول الدعوى من شأنه استفزاز النيابة العامة التي ادعت، وعلى صفحات الصحف (أخبار اليوم 25 / 5 / 1965) متهمةً الدفاع بأنه يحرّض على إفساد الأخلاق بدعوى الدفاع عن التراث، والحق أن الدفاع يضرب صفحا عن هذا الاتهام، مذكرا النيابة العامة بمواقفها الإيجابية التي اتخذتها عبر تاريخ طويل، يبدأ من تبرئة طه حسين مما نسب إليه سنة 1926، ولا ينتهي سنة 1984، عندما أكدت «أن القصد الجنائي لا يتوافر فيما ينشر ضمن المؤلفات العلمية من أمور، لو نظر إليها في ذاتها وعلى حدة لاعتبرت منافية للآداب، وكذلك الشأن في الأعمال والصور التي يقصد بها أداء رسالة الفن وخدمته، وأن القول بغير ذلك يؤدي بالنسبة لذوي المواهب والمتخصصين إلى الانغلاق الفكري والفني والتخلف عن مواكبة كل ما هو جديد»، والرأي الذي لا يجوز الاختلاف حوله أن النيابة العامة لا ينبغي لمواقفها أن تتجزأ أو تتناقض زمانا ومكانا.

مكانة عالمية

          وينتقل الدفاع بعد ذلك إلى الموضوع، فيتحدث، أولا، عن ما يثبت المكانة العالمية لـ «ألف ليلة وليلة» بالإشارة إلى إقامة معرض لها، أخيرًا في إحدى ضواحي باريس للتعريف بالكتاب، وما ورد عنه بمجموعة «أعظم الكتب العالمية» Great Books، ودائرة المعارف البريطانية، ومثل ذلك من إشارات تؤكد القيمة الإنسانية للكتاب، أما النقطة الثانية، فتشير إلى أن كتاب ألف ليلة وليلة ليس كتابا في الجنس لأنه يجمع بين أغراض متعددة، والجد هو السائد فيه وليس التحميض الذي يجم النفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق، وما فيه من إشارات جنسية قليل لا يسيء إلى مضمونه العام، الأمر الذي لا يوقعه تحت طائلة المادة «178عقوبات»، خصوصا أنه لا يتوافر فيه ركن القصد الجنائي للناشر أو الحائز أو الموزع، ويؤكد ذلك، ثالثا، أن هناك العديد من كتب التراث وغير التراث تضم من عبارات الجنس ما يفوق في الكم والنوع ما ورد في ألف ليلة وليلة، وإقبال دور النشر الكبرى على نشر أمثال هذه الكتب التي توافق عليها الدولة وتطبعها المؤسسات الرسمية دون اعتراض، والواقع أن هذه الكتب تسير على سنن العرب في الكتابة التي لا تتعرض للجنس في ذاته «كموضوع أساسي للعمل وهو أمر لم يعرفه العرب في تاريخهم القديم» وما بين علامتي التنصيص من كلام الأستاذ صبري العسكري بنصه، وهو كلام غير دقيق، والعكس هو الصحيح، فما أكثر الكتب التي تعالج الجنس في ذاته، سواء على سبيل العلاج الجنسي، أو الاستملاح، أو التحميض مثل «رجوع الشيخ..» و«الروض العاطر..» وكتب التيفاشي والسيوطي وغيرها من كتب الجنس الخالص». أما كتب المعارف العامة فيرد فيها الجنس على سبيل التمليح، والهزل الذي يريح هونا من الجد على طريقة الجاحظ الذي لم يكن يعنيه هجوم مدعي التنسك والزهد وهو نفسه الذي قال، في كتاب مطبوع رائج: «...وإنما وضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألا يلفظ بها ما كان لأول كونها معنى، ولكان في التحريم والصون للغة العرب أن ترفع هذه الأسماء والألفاظ منها»، ولا يقلل هذا التعليق من قوة المحاجة الفكرية لمذكرة دفاع الأستاذ صبري العسكري بوجه عام، وإنما يسندها بما أشار هو إليه عن التحميض الذي هو سبيل لإراحة الذهن بعد الإرهاق، فيما كان يرى كثير من المصنفين القدماء.

حيثيات قانونية

          ولذلك ينتقل الدفاع من هذه الجوانب التراثية إلى تعداد الحيثيات القانونية التي تبطل الحكم الابتدائي أو المستأنف، فيبدأ، أولا، بتوضيح أن الحكم قطع الصلة بين الكتاب ومضمونه وما ورد فيه من ألفاظ قد تكون خادشة في ذاتها، وذلك ما توضحه مذكرة الدفاع بالإشارة إلى الحكم المستأنف الذي قرر، أيا كان الرأي في «ألف ليلة وليلة» وقيمتها الأدبية، فإن ذلك يخرج عن اختصاص المحكمة ويتجادل فيه أصحاب الرأي ويكون مجاله الندوات الأدبية، أما اختصاص المحكمة فيتحدد بما إذا كان الكتاب يحتوي على عبارات وألفاظ منافية للآداب العامة»، والحق أن هذا رأي لو عملنا به لصادرنا ما يزيد على نصف التراث الأدبي عند العرب، بل حجرنا على الكتب المقدسة والمعاجم اللغوية التي تحوي ألفاظا وعبارات من الممكن وصفها بالخروج على الآداب العامة. ويضيف الأستاذ صبري العسكري، بذكاء لافت، التماثيل العارية الفرعونية وغير الفرعونية التي تحافظ عليها الإنسانية كلها، بوصفها جزءًا عزيزًا نفيسًا من تراثها الذي تفخر به. ويقول إن «الصحيح في هذا الخصوص ومن المستقر عليه في الفقه والقضاء أنه لا يجوز الفصل بين العبارات الخادشة للحياء بذاتها وقيمة الكتاب الذي يتضمنها والغرض منها، فعرض صورة عارية لا جريمة فيه إذا كان الجو الذي يحيط بهذا العرض جوا علميا أو فنيا يقتضيه أو يبرره، ولا يتحقق القصد الجنائي فيما ينشر في المؤلفات العلمية من أمور لو نظر إليها، في ذاتها وعلى حدة، لاعتبرت منافية للآداب «كذلك الشأن في الأعمال والرسوم والصور التي يقصد بها تأدية رسالة الفن وخدمته» عن كتاب «في جرائم النشر» للدكتور محمد عبدالله (طبعة 1951 ص:518 ، 522). ويضيف أيضًا الأستاذ صبري العسكري أحد أحكام محكمة النقض البلجيكية ما ينتهي إلى النتيجة السابقة نفسها، وهو حكم منقول عن المرجع نفسه (هامش ص: 522 523)، ويضيف إلى ذلك ما يذكره المرجع ذاته عن أن المشرع الفرنسي (الذي نقلت عنه المادة 178عقوبات) قد احترز، واشترط في تعديل لاحق، ألا ترفع الدعوى العمومية في مثل هذه الحالات إلا بعد أخذ رأي لجنة مختصة، تشكل بمرسوم، وهذا لم يحدث في الحكم الابتدائي، ولا وضعته اللجنة في اعتبارها.

          وتنتقل مذكرة الدفاع، بعد ذلك، إلى تأكيد وإثبات أن الاختلاف فيما بين طبعات الكتاب ليس تزويرا، وإنما هي أمور ترجع إلى اختلاف النساخ والروايات، كالفارق الذي يعرفه المختصون بين طبعة بولاق وطبعة الهند، واختلافهما معا عن طبعة محسن مهدي أو برسلاو، بل كالفارق بين الطبعة التي صححها الشيخ عبد الرحمن الصفتي ومحمد قطة العدوي. ولا تنسى مذكرة الدفاع تأكيد أنها ليست ضد تنقية التراث أو تهذيبه في طبعات خاصة بالنشء، ولكنها ضد مصادرة الأعمال الأصلية. وتضيف المذكرة إلى ما مضى أن القصد بتوافر قصد جنائي لدى الناشر أو الموزع، لا محل له من الإعراب ما ظل الكتاب يتم نشره وتوزيعه في إباحة ظاهرة وعندما تنتفي القصدية الجنائية في فعل النشر، في سياق من المحاجة المقنعة للعاقل، ينتفي بالضرورة قصد الاتجار بوصفه ركنا من أركان الجريمة، وتضيف المذكرة إلى ذلك كله أن الموافقة الرقابية على استيراد الكتاب بقصد توزيعه إنما هي موافقة دائمة وليست مؤقتة كما زعمت النيابة في المحاكمة الأولى، ودليل ذلك أن ترخيص الاستيراد لم تقم الجهات الرقابية بإلغائه، ويقود هذا كله إلى نتيجة أصبحت، بعد الحيثيات السابقة، مفحمة، ومؤداها أن الحكم المستأنف مشوب بفساد الاستدلال ويتعين إلغاؤه.

          وتبقى الدفوع التي لا غنى عن ذكرها، وأولها أنه ليس من اختصاص شرطة الأحداث مصادرة الكتاب إلا إذا كان توزيعه في نطاق الأحداث وهو أمر لم يحدث، والدليل هو أن محضر الضبط والتفتيش الذي قام به أحد رجال شرطة الأحداث لم يثبت أن الجريمة وقعت على حدث، ولما كان هذا الأمر لم يحدث فإن الضبط والتفتيش باطلان، فلا جريمة وقعت على حدث، ولا حتى إمكان التأثير السيئ في حدث أو أحداث، ولا تنسى مذكرة الدفاع بعد عرض مكانة الدار التي استوردت الطبعة اللبنانية في ألف ليلة وليلة، الأثر الذي أحدثه الحكم المستأنف فور صدوره من أثر بعيد في أرجاء المعمورة، حيث كتبوا عنه مستنكرين في فرنسا وألمانيا وأمريكا واليابان وجميع البلدان العربية ولكن المذكرة تؤكد، في النهاية، ثقتها في القضاء المصري الذي كان، ولايزال، وسوف يكون، المدافع الأصيل عن وجه مصر الحضاري لا في مصر والعالم العربي فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.

          وبناء عليه، تصمم مذكرة الدفاع على قبول الاستئناف شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف وببراءة المتهمين حسن لبيب الزين ومحمد محمود رشاد من الاتهام المنسوب إليهما، وهي خاتمة قوية مليئة بالثقة من قوة حججها الفكرية وحيثياتها القانونية، ولا شك في أنها مذكرة تدل على الجهد الاستثنائي والخبرة القانونية وروح العناد في الإلحاح على ما يعتقده الدفاع أنه حق وهو على حق بالفعل، ويستحق الإشادة بكل ما فعل، فهو لم يدافع عن ألف ليلة وليلة فحسب، وإنما عن حرية الفكر والتعبير، وعن ضرورة احترام التراث وعدم المساس به، دون أن يعني ذلك منع الجهات المختصة من تهذيبه أو تنقيحه أو حتى تبسيطه.

          ويبقى أخيرا الجانب الخاص بالدولة المدنية الحديثة وقوانينها التي تقوم على احترام الإبداع بوجه عام، والتراث بوجه خاص، وتأكيد نظرة التسامح إليه، وضرورة التعمق في درسه وتحليله، وحماية تياراته العقلانية، وإبداعاته المدنية من هجمات المتزمتين والمتعصبين الذين لا يتكاثرون إلا مع ارتفاع أصوات الدعوة إلى الدولة الدينية واتساع نطاقها لتخترق حتى القضاء، وذلك إلى الدرجة التي دفعت وكيل النيابة إلى المطالبة بإحراق الكتاب في ميدان عام، كما لو كان يعود بنا إلى محاكم التفتيش التي اقترنت بأسوأ صور الدولة الدينية عبر عصور التعصب وضيق الأفق والانحطاط، ولكن لحسن الحظ، فإن في الكنانة رجالا يراعون الحق ويدافعون عنه في مواجهة تيارات الإظلام والتعصب والإرهاب الديني، ولايزالون يقومون بهذه المهمة المقدسة رغم كل الصعوبات والتحديات إلى اليوم، وهو أمر يجعلنا نذكر بالعرفان والتقدير كل الذين تصدوا لموجة الإظلام التي هبت على «ألف ليلة وليلة» منذ ما يقرب من ستة وعشرين عاما.

 

 جابر عصفور