بين أيام طه حسين وأيام أبنائنا

بين أيام طه حسين وأيام أبنائنا

قد يقول قائل: إن المفارقة بين أيام طه حسين التي عاشها منذ بداية القرن العشرين، وبين أيام أبنائنا الذين يعيشون في بداية القرن الحادي والعشرين ظالمة، فإن قرنا من الزمان يكفي لتغيير نسق الحياة، تاريخا وجغرافيا، عادات وقيما وتقاليد، سياسة واقتصادًا واجتماعًا، فضلا عن الثورة التكنولوجية التي فجرت براكين في دول وأوطان كثيرة. وقد يقول قائل:
إن أبناءنا خلقوا لزمان غير زمان طه حسين، وإنه - بسبب هذا - لا سبيل إلى المقارنة. 

وأقول: إننا لا نقارن بين الأزمان والأماكن، ولا أي من المفردات السابقة، ولكن المقارنة هي في كيف يواجه الإنسان ذاته؟ وكيف يتعامل مع بيئته وأهله وأساتذته؟ وكيف يبني نفسه وعقله وروحه؟ وكيف يتصرف في شئونه؟ وهي أسئلة مشروعة في كل زمان ومكان، لأنها تتصل بالكيفية التي يتم بها بناء الإنسان لذاته.
ولنبدأ بالحديث عن أيام أبنائنا، إذ يستيقظ الواحد منهم على مناغاة أمه أو مناجاة أبيه. وبعد محاولات قد يستيقظ ليجد فطوره المعد من أصناف من الطعام يعجز عن عدها، لكنه يتأفف منها ويعرض عنها ولا تجدي محاولات الأبوين في فتح شهيته.. فإذا جاء دور الملبس يخير الجميل في ما يريد أن يلبسه اليوم لكنه يتناول أقربها إلى يده متثائبا ومتثاقلا، فهي جميعا في نظره سواء، بل لعله يكرهها جميعا، لأنها تذكره بهذا المكان الكريه الذي يضطره إلى أن يستيقظ من نومه اللذيذ لكي يذهب إليه كل صباح .. وما إن يتهيأ الجميل حتى تكون الحقيبة جاهزة، ليست حقيبة الكتب، ولكن حقيبة الطعام المزودة بأنواع السندوتشات وأكياس كثيرة متنوعة، وثمار فاكهة .. وفي اللحظة ذاتها تكون السيارة التي ستقل الجميل جاهزة لتنقله من باب الشقة إلى باب الفصل الدراسى حتى لا تتلوث قدمه بالمشي في الشوارع القذرة.. وما إن يصل الجميل إلى الفصل حتى يكتشف أن المدرس غائب، فيخبره المدير بأنه لم يكن ثمة داع لأن يتعب نفسه، وأن يكلف خاطره بالاستيقاظ المبكر والذهاب إلى المدرسة، وعليه أن يستريح في بيته، ولا بأس أن يظل قريبا من حضن أمه، وأن المدرس سيصل إليه حتى غرفة نومه، ويأتي المدرس الذي يحرص - أول ما يحرص - على مراعاه شعور الجميل والالتزام بعدم جرحها، فيستأذنه في أن يوافق على أن يدردش معه لمدة دقائق، فإن وافق التلميذ شكر المدرس له وأخذ يداعبه ويلاعبه حتى يقبض ثمن هذه الدعابة وينصرف باحثا عن تلميذ آخر.
ليست هذه صورة كاريكاتورية لما يحدث في مؤسساتنا التعليمية. .. فكلنا يعلم أن أبناءنا
لا يذهبون إلى المدارس لأن المدرسة كانت مؤسسة انتهى زمانها، والمدرسة الحقيقية الآن هي في بيوت التلاميذ، أو في تلك البوتيكات التي فتحها المدرسون لاستقبال زبائنهم المحتاجين لبضاعتهم.. كلنا يعرف هذا، وزراء ووكلاء ومدراء وموجهون ومدرسون وأولياء أمور وتلاميذ، وتعايشنا مع هذا الواقع الفانتازي ولم نعد نرى فيه غرابة أو شذوذا. ويمضي العام دون أن يتعلم الجميل شيئا أو يقرأ كتابا، أو يفكر في حل مسألة أو مشكلة ؛ لأن كل المسائل والمشكلات تأتي إليه جاهزة ومحلولة، فلماذا يتعب نفسه في التفكير والتدبير، وقد كفاه المدرس مئونة كل هذا، وبحسبه أنه قد تعلم كيف يصطاد الدرجة .. وهو بالفعل قد حصل على درجات عالية آخر العام.
ويظل الجميل يتدحرج من سنة إلى سنة ومن مرحلة إلى أخرى حتى يجد نفسه وقد حصل على الليسانس أو البكالوريوس .. وساعتها يكتشف – في أول لقاء له مع الحياة – أنه لم يتعلم شيئا، لأن ما تعلمه هو – بتعبير طه حسين – العلم الكاذب، أي التعليم الذي لم يمنح التلميذ إلا شهادة أو رخصة يعلقها على حائط غرفته، لكن لا شيء قد علق بعقله أو بنفسه إلا ذكرياته مع أقرانه، وسندوتشات أمه.
***
هذه باختصار قصة التعليم الكاذب التي عشناها لنصف قرن مضى، والتي ترعرع أبناؤنا في مناخاتها الفاسدة فتخرجوا في جامعاتهم مبتسرين علميا بعد أن قضوا سنين دراستهم سجناء حضانات يرضعون فيها من الدروس الخصوصية.
***
لعل آباء وأمهات ومدرسي هذه الأيام يطالعون أيام طه حسين ليكتشفوا أنهم ساروا في الطريق الخطأ في تربية الأبناء. إن الأهوال التي صادفت طه حسين في رحلته العلمية هي التي صنعت منه هذا العقل الجبار الذي قهر الظلام وأزاح الضباب الكثيف الذي كان يكتنف حياته وحياة مجتمعه. لقد أثبت طه حسين في أيامه عقم جميع النظريات التربوية والنفسية ولو أننا طبقنا هذه النظريات على إنسان تعرض لما تعرض له طه حسين لكانت النتيجة هي إنسان فاشل معقد مكبوت ضعيف الإرادة، تابع خاضع مذبذب مرتعش كاره للناس وحاقد على مجتمعه، ولكن إرادة طه حسين أطاحت بجميع النظريات الآنفة، وكانت أيامه هي النظرية الحية التي ينبغي أن تصحح هذه النظريات التربوية والنفسية نفسها طبقا لها.. إن العقل الكبير نتاج تجارب يومية متراكمة مشتبكة مع الشقاء، مأكلاً وملبسًا ومسكنًا، حياة شقاؤها أكثر من نعيمها، وهل هناك طفولة أشقى من طفولة طه حسين؟
قضى حياته في الأزهر لا يعرف من الطعام إلا طبق الفول والمخلل، ولا من المشروب إلا كوب الشاي الذي كان يشتهيه في كثير من الأحيان عندما لا يجده. أما غرفته فقد «كثرت في جدرانها الشقوق، وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان. وكانت هذه الحشرات وهذه الصغار من الحيوان كأنما وكلت بالصبي إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده في ذلك الركن من أركان الغرفة ؛ فهي تبعث من الأصوات الضئيلة. وتأتي من الحركات الخفيفة السريعة حينا والبطيئة حينا آخر ما يملأ قلب الصبي هلعا ورعبا (120 – 121).
أما الغرفة المجاورة لغرفته فكان يسكنها عشرون طالبا حتى يتسنى لكل منهم أن يدفع قرشا واحدا في الشهر إيجارا للشقة (ص143) ولعل أدق صورة لحياة طه حسين هي تلك التي رواها لابنته بعد أن انتصر على الصعوبات التي واجهته، ولعله كان يرويها سعيدا بما أنجز وبما تجاوز ؛ يقول لابنته «عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء، لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا، ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى» (89).
وهو يكشف عن هذه الحياة البائسة حين يسافر إلى فرنسا ويعيش حياة الرخاء في مدينة «مونبلييه»، وهناك «كان يكفيه أن يفكر في صباه ذلك البائس الذي قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقى نفسه في الأزهر ويشفي نفسه وجسمه في حوش عطا، حياة مادية ضيقة عسيرة كأقصى ما يكون الضيق والعسر، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية، ثم يوازن بين حياته تلك وبين الحياة الجديدة التي أخذ يحياها في هذه المدينة الفرنسية» (286). لكن ما كان يلوح له من فتات الأمل هو الذي كان يهون عليه أهوال ما يلقى، ذاق الشقاء، لكنه لم يحرم من السعادة، وصحيح «كانت حياته المادية شاقة، ولكنه احتمل مشقتها في شجاعة ورضا وسماح» (308)، ورغم العناء فإنه لم يضق بحياته ولم يتبرم بها، ولكنه مزج بين الجد الصارم والهزل الضاحك ليتعايش مع الحياة، حلوها ومرها، قسوتها ولينها، وكثيرا ما كان يسعده لقاؤه بالأصدقاء والاستماع إلى عبثهم وما يدور في حواراتهم .. ولم ينزلق الفتى إلى ما انزلق فيه أستاذه أبو العلاء ليصبح مثله رهين المحبسين كارها للدنيا وللناس، تفنى الأماني في نفسه وتظل أحداث الزمان متربصة به، ولم يتحول إلى زاهد كبير في الناس عندما اطلع على خفاياهم، وظنهم هباء، ولم يفقد أمله في وفاء النجل بحجة أن الغدر شيمة الأب، والحياة لم تكن تعبا كلها، ولم يستنجد بالموت لينقذه من الحياة: «فيا موت زُر إن الحياة ذميمة..».
كان يمكن أن يتحول طه حسين إلى نسخة جديدة من أبي العلاء، لاسيما وقد وجد في صحبته غناء واكتفاء، غير أنه وإن كان قد تأثر بجسارته العقلية، إلا أنه لم يسايره في جسارته النفسية المرتبطة بالاستغناء وإلزام النفس بما لا يلزم. لم يدر الرجل ظهره للحياة، بل أصاب القدر المتاح من طيباتها، ولئن كان قد استمتع بصحبته في الأزهر، فإن فرصة الاستمتاع في باريس كانت أكبر، سواء تلك المتع العقلية أو المتع المتصلة بما أتيح له من طعام طيب وشراب رائق، أو المتع العاطفية، وكما انفتح قلبه في مصر متأثرا بصوت «مي» في صالونها، فإنه انفتح في باريس أمام صوت آخر يصفه بقوله: «كأنه تلك الشمش التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضا، والذى كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقًا ورعًا. وإذا المدينة تصبح كلها إشراقًا ونورًا» .. فقد كان الصوت يصحبه دائمًا لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة وسرورًا. (ص 291 - 292).
ثم هو يقترن بصاحبة هذا الصوت ويجد في حضنها الأمن والملاذ والدفء والسعادة وتكون هي «المرأة التي أبصر بعينيها» 
(ص 317).
وفى أثناء ذلك لم يكن يحرم نفسه من المتع الصغيرة، لكنها كانت تعطي للحياة مذاقها، وبحسبه كوب شاي لكي ينعشه ويفرفشه، وحسبنا هنا أن نتوقف عند وصفه هذا المجلس الذي كان يجمعه بشباب الأزهر ليأكلوا حتى تمتلئ بطونهم، ثم يتهيأون لصنع الشاي، وليس أبدع من أبي نواس وهو يصف المجلس الخمري بكل ما يدور فيه من طقوس إلا طه حسين وهو يصف جلسة مجلس الشاي، ولن تغنينا تلك العبارات المجتزأة من سياقها المسهب للدلالة على ذلك: «وإذا هؤلاء الشباب قد تحركوا حركة الطرب، ثم انفتحت أفواههم في وقت واحد عن كلمة يقولونها في صوت هادئ متصل مستقر وهي «الله» يمدون بها أصواتهم مدا كأنما أشاعت الطرب في نفوسهم موسيقى حلوة تأتيهم من بعيد. ولا غرابة في ذلك ؛ فقد سمعوا أزيز الماء وهو يدور من حول هذا الموقد الذي تضطرم فيه تلك الجذوة الهادئة الصافية. وقد فرغ لأداة الشاي صاحب الشاي، فجعل يتبعها بقلبه وعينه وأذنه، حتى إذا استحال أزيز الماء غليانا ... فإذا ملئت الأكواب وأديرت فيها الملاعق الصغار، فسمع لها صوت منسجم لا يخلو من جمال وحسن الموقع في الأذن يأتي من هذه المداعبة الخفيفة الهادئة بين المعدن والزجاج، رفع القوم أكوابهم إلى أفواههم، فجروا الشاي منها بشفاههم جرا طويلا يسمع له صوت منكر يناقض صوت الملاعق حين كانت تداعب الأكواب. ومضوا في شربهم لا يكادون ينطقون إلا بهذه الجملة التي لم تكن تتغير، ولم يكن بد من أن ينطق أحدهم بها ويقره عليها الآخرون: «هذا هو الذي سيطفئ نار الفول». فإذا فرغوا من هذه الدورة ملئت لهم الأكواب مرة أخرى وقد أعيد إلى أداة الشاي ما فقدت من ماء، ولكن القوم ينصرفون الآن إلى شايهم عن هذا الماء المسكين الذي ترسل النار عليه حرارتها فيئن ثم يتغنى شاكيا، ثم يجهش بالغليان باكيًا ولكن القوم لا يحفلون به ولا يطربون لغنائه ولا لبكائه، فقد شغلوا عنه بالشاي وبدورته الثانية خاصة ؛ فقد كانت الدورة الأولى مطفئة لنار الفول، فأما الدورة الثانية فقد جعلت تخلص لهم ولأعصابهم وجعلوا يجدون لها بعض اللذة في أفواههم وحلوقهم ورءوسهم أيضا. حتى إذا فرغوا من هذه الدورة ثابوا إلى عقولهم أو ثابت عقولهم إليهم، فهذه ألسنتهم تتحرك، وهذه شفاههم تبتسم، وهذه أصواتهم ترتفع(113).

من الجامع إلى الجامعة:
ولئن كان الفتى قد ضاق بجمود بعض أساتذة الأزهر، فتحول عن المعممين منهم إلى المطربشين، إلا أن عقله قد انفتح مع قلبه ليتلقى بحب وحدب كتب قاسم أمين وأثار الأستاذ الإمام محمد عبده، ولطفي السيد، وعبدالعزيز جاويش، ولعل ضيقه بالأزهر هو الذي أغراه بالتقدم للانتساب إلى الجامعة المصرية لينتظم في دروس الأزهر صباحًا وفى دروس الجامعة مساءً. 
وفى حين بدأت الخيوط التي تربطه بالأزهر تضعف وتهن، فإذا بها مع الجامعة تقوى وتشتد ؛ إذ رأى في أساتذتها ما يختلج في نفسه من ميل إلى التجديد ونفور من التقليد، لكنه استفاد على أي حال من تلك الفترة التي عاش فيها موزعا بين كرسيين: كرسي الأزهر بأصالته، وكرسي الجامعة بنضارته. غير أن جاذبية الكرسي الأخير تملك على الفتى قلبه وعقله، فيحسم هذا الصراع القائم في نفسه بين الجامع والجامعة فينحاز للجامعة بعد أن استقر في نفسه أن للمجد مكانا آخر غير الأزهر.
كان الفتى يرى حياته في الجامعة عيدًا متصلاً، عيدًا تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل ؛ إذ كان يملأ رئتيه بالهواء الطلق وعقله من العلم الطلق بما يمكنه من أن يخلق نفسه خلقا جديدا يساعده في هذا احتكاكه بالأساتذة، مصريين وأجانب، وهم جميعا نفخوا في روحه مجددا علمه بالحياة وشعوره بها وفهمه لقديمها وجديدها .
فيزمع السفر إلى باريس ليتعلم مع الفرنسيه اللاتينية واليونانية، وهو في هذا كله لم يكن يضيق صدره لفقره، بل ربما أيقن أن الثراء والسعة تعوق عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للكد والاجتهاد، كما أيقن «أن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال» (ص 219) .
وكان على الفتى أن يتعلم اللغة الفرنسية تنفيذا لما كانت تفرضه الجامعة على طلابها من ضرورة إتقان لغة أجنبية، وكان دائما جاهزا لتحدي العقبات، سواء فيما يتصل بتعلم اللغات الأجنبية، أو ما يتصل بما اشترطته عليه الجامعة من ظفره بشهادة العالمية «الدكتوراه» ليوفد إلى أوربا وقدم رسالته في تاريخ أبي العلاء، ثم في علمين إضافيين هما الجغرافيا عند العرب والروح الدينية للخوارج وتفوق فيها جميعا، فدعته الجامعة للمثول بين يدي الحضرة الخديوية في الإسكندرية، وكان عليه أن يبحث عن ثياب تناسب المقام، وكان عليه أيضا أن يتعلم ماذا يفعل على مائدة الأمير التي دعي إليها ليتسلم جائزة تفوقه، وهو الذي لم ينس ما قاله أبو العلاء من أن العمى عورة. ولم يضيع الفتى وقته في باريس وكانت خطبته لفتاته معينة له على درسه «وانظر إلى فتاة وفتى في أول عهدهما بالخطبة ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى. فإذا جاء وقت الغداء ألما بالمائدة فأصابا شيئا من طعام ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرآ منه ماشاء الله أن يقرآ، فإذا كانت الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسى فقرآ منه ماشاء الله أن يقرآ، كذلك لا ينصرفان عن القراءة إلا ريثما يخرجان للتروض خارج القرية التي يعيشان فيها ينفقان في تروضهما ذاك ساعة أو أقل من ساعة، ثم يعودان إلى المائدة فيصيبان شيئا من طعام، ثم تجتمع الأسرة كلها إلى كتاب يقرؤه عليها ذلك الصوت العذب (319 - 320).
ويتزوج الفتى، وها هو في شهر العسل يعد نفسه ليكون جاهزا لامتحان تحريرى سوف يسأل فيه عن التاريخ القديم والوسيط والحديث والجغرافيا والفلسفة ولغة أوربية غير اللغة الفرنسية. وعكف مع هذا كله على إعداد رسالته «وما أكثر ما كان يملي فصول هذه الرسالة وصبيته بين ذراعية يمشي بها في غرفته الضيقة ممليا وقارئته تسمع منه وتكتب عنه! وربما طلبت إليه أن يريح نفسه من الإملاء ويريحها من الكتابة دقائق، وأخذت منه الصبية فحملتها ومشت بها في الغرفة وغنت لها بعض ما يغنى للأطفال، وأتاحت له بذلك أن يجلس ويستريح، وزوجه في أثناء هذا كله في مطبخها مقبلة على تهيئة الغداء أو العشاء» (ص 339).
وهو في هذا كان دائم التنصت على ما يحدث في مصر، ويسعد بأي أخبار تصله بأن مصر تغضب لأبنائها إذا ما تعرضوا لأذى، وهو في هذا يتمنى أن يكون بلده مثل البلاد التي رآها تقدس الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وحين تصله أخبار وصول سعد زغلول إلى باريس يحرص على لقائه ولقاء أستاذه أحمد لطفى السيد وصديقه عبدالعزيز فهمي، ويذكِّره لقاء سعد بدين قديم عليه له «يرجع تاريخه إلى العام الذي قدم فيه رسالته عن أبي العلاء إلى الجامعة .. وكثر حديث الصحف والناس عن هذه الرسالة وصاحبها. وفى تلك الأيام قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحا يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة لأنها خرََجت ملحدا هو صاحب رسالة «ذكرى أبي العلاء». وكان سعد – رحمه الله – رئيس لجنة الاقتراحات فيما يظهر فلما عرض عليه هذا الاقتراح دعا المقترح للقائه، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه، فلما أبى قال له سعد: إن أصررت على موقفك فإن اقتراحا آخر سيقدم، وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر، لأن صاحب هذه الرسالة عن أبي العلاء تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة، واضطر الرجل إلى أن يسترد اقتراحه، وسلمت للجامعة معونتها، ولم يتعرض الفتى لشر، وكان الأستاذ أحمد لطفى السيد هو الذي أنبأ صاحبنا بهذه القصة، وطلب أن يسعى إلى سعد بشكر هذا الجميل، ولكن الفتى استحيا إذ ذاك فلم يسع إلى سعد، وأين هو من سعد؟ (ص 341). وهنا وجد الفرصة لشكر سعد على جهده في خدمه مصر (346). وأتيح للفتى أن يلقى سعدا في مناسبة أخرى. ولكنه رفض لقاءه، وذلك حين أراد بعض النواب الوفديين أن يثيروا قصة الشعر الجاهلى مرة أخرى في المجلس فرده سعد عن ذلك قائلا: لقد انتهى هذا الموضوع، فلا معنى للعودة إليه، وأوصى الأستاذ أحمد لطفى السيد الفتى بأن يمر بدار سعد ليشكره على موقفه، لكنه أبى وقال «إن سعدا لم يزد على أن أدى واجبه، وكف سفيها أحمق من نوابه عن سفهه وحمقه» (ص 344).
وسعد زغلول بموقفه هذا يعيد إلى الأذهان موقف القاضي المستنير محمد نور من كـــتاب طه حسين عندما عرضت عليه قضـــيته لأول مرة أمام مجلس النواب، وانتصر لحرية التفكير.
بعد عودة طه حسين من بعثته كان عليه أن يتهيأ لإلقاء درسه الأول في حفل أُعد له، وكان تاريخ اليونان هو الموضوع المقترح، غير أنه رأى أن تقديم هذا الموضوع بحاجة إلى وصف جغرافي للبلاد التي سيتحدث عن تاريخها، فقدم هذا الوصف بأفضل مما يقدمه المبصرون، ونال إعجاب الحضور وتشجيعهم، وكان ذلك بفضل زوجه التي هيأت له قطعة من الورق صاغتها على نحو ما صاغت الطبيعة هذه البلاد بما فيها من سهول وجبال وضيق واتساع وانخفاض وارتفاع (ص 351).
أجرى طه حسين الدم في عروق الحياة الفكرية المصرية والعربية منذ كتابه الأول، وظل يثير المعارك، معركة تلو معركة، لا يبغي من ورائها إلا المساهمة في بناء وطن حر ذي ثقافة حرة وفكر مبدع خلاق يخرج عن إطار التقليد العتيق الذي ضاق به في مستقبل حياته بالأزهر.
إنه بالفعل قاهر الظلام، وهو الأعمى الذي حول العمى من نقمة إلى نعمة، كما يتحول البصر من نعمة إلى نقمة على يد نفر من أبناء هذا الوطن تآمروا عليه بالحرق والدمار.. ولعل هؤلاء من أبنائنا الذين تلقوا هذا التعليم الفاسد الذي حذر طه حسين منه في كتابه الفذ «مستقبل الثقافة في مصر».. هذا الأعمى الذي قاد خطى المبصرين وتجاوز فلسفة أستاذه أبي العلاء الذي ظل اليأس غالبا على نبرته إذ قال:
أنا أعمى فكيف أهدى إلى المنــهج والناس كلهم عميان
غير أن حال طه حسين كان يقول لنا شيئا آخر، كان يقول:
    أنا أعمى، ولكنى أرى أوسع مما ترون، وأسمع أعمق مما تسمعون، بل سأعلمكم كيف ترون وكيف تسمعون .. 
ولكن هل استفدنا مما علمنا إياه طه حسين ؟!
لا أعتقد بدليل واحد، هو أننا نعلم أبناءنا بطريقة معاكسة تماما للطريقة التي تعلم بها طه حسين، فأنتجت لنا هذا المبدع الخلاق الذي نفخ في روح الأمة كلها، في حين يساهم أبناؤنا الآن في خراب هذه الأمة وتدميرها، ولئن كان هؤلاء الأبناء قد فتحوا بوابة ثورات الربيع العربى، إلا أنهم هم الذين يقفون الآن وراء دخول هذه الثورات نفق الخريف العربى بكل ما يمور فيه من زوابع وأعاصير لوثت أجواء البلاد وأخلاق العباد.