عبدالغفار مكاوي.. مــرآة جيــل

عبدالغفار مكاوي.. مــرآة جيــل

هذا المقال ليس مقالا  «للمناسبة»، وبعبارة أوضح ليس تأبينا، أي أن دواعي كتابته لا ينبغي أن تردّ لحدث موت الرجل والإنسان الذي هو عبدالغفار مكاوي. 

ورفض اندراج هذا المقال في هذا الإطار المناسباتي ليس السبب فيه رفضنا فقط لأدبيات التأبين الممجوجة التي تزدهر عند فقدان الرموز الكبرى، كأننا بذلك «نكفّر» عن ذنب التجاهل واللااعتبار الذي أحطناهم به حين كانوا أحياء، وكأن المرء عندنا ينبغي أن يموت ويقصى من المجال التواصلي حتى ينال الاعتراف؛ بل إن الدافع إليه موضوعي عميق وهو دافع يمكن أن نعرضه في عناصر، أولها إيماننا بأن الفكر ابتداء لا يكون «رد فعل»، فالمفكر هو دائما رجل يعمل «ضد» المناسبة، ضد ما يساير الروح العامة، لأن المناسبة احتفاء عابر وانفعال لحظي محكوم لزاما بأن يتجاوز، والحال أن الفيلسوف يسعى دائما لأن يقول شيئا حول ما لا يُتجاوز؛ حول ما يعاند مألوف الناس وما يرتاحون إليه؛ المفكر هو الذي ينغص على المسلمات والبداهات والعادات التي تستمرئها الحشود (وضمنها عادة التأبين) بقلق الأسئلة، فالفلسفة كما كان يقول فيلسوف فرنسي معاصر «تزعج لأنها تفكّر، في حين أن الأيديولوجيا تريح لأنها تبرّر»، وثاني هذه العناصر اعتقادنا بأن المفكر لا يموت، فصحيح أن جسده الفيزيائي ينحلّ وتصير أبعاضه إلى ما شاء لها الله أن تصير، ولكن فكره يستمر وهذا هو الأهم، إذ إن رهان المفكرين الأول الذي يدفعهم ابتداء إلى الكتابة ليس الجسد، بل هو رغبتهم في صنع شيء ما بأجسادهم يتجاوز مقدور وقدر الأجساد، فأهم ما عند المفكر هو الفكر الذي يصارع لإنتاجه، أي ما فعله وهو حي بجسمه وليس ما سيلحق بهذا الجسم من تغيرات وأحوال تدخل في إطار الحتمية الطبيعية الفيزيائية. هناك عنصر ثالث أكثر خصوصية يجعل هذا المقال يرفض الدخول في منطق «التأبين»، وهو أن عبد الغفار مكاوي نفسه كان يمج أحاديث المآتم، فكثيرا ما ردد مكاوي بأن ميزة الإنسان هي كونه الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت، الكائن الذي يقول للعالم: «إذا كنت سأنتهي للعدم وهذا أمر لا أملك حياله شيئا؛ فإنني أظل محتفظا مع ذلك بقدر من الحرية، وهي كوني أستطيع أن أترك شيئا ما يدل على وجودي»، أترك شيئا «ضد العدم»، بهذا المعنى فالفيلسوف هو دائما شخص يعمل «ضد الموت»، لأنه من بين كل الناس ذلك الذي يعرف بأن الموت ليس مفاجأة، فالوعي بالموت عنده لا يأتي بعديا، بل هو عنده مقدمة، أو لم يقل أفلاطون بأن الفلسفة تدرب على الموت؟ أو ليست الكتابة عينها، حتى من الناحية المادية الفيزيائية في توسلها بالحبر الأسود وبالعلامات، رغبة في ترك أثر ما يعاند بياض الرق والزمن؟ 
ميزة الإنسان عموما والفيلسوف خصوصا هي كونه ذلك الذي يعي ويعرف «قبل أن يموت بأنه سيموت»، (إذا استعرنا عبارة فيلسوف أثير عند مكاوي هو مارتن هايدغر) وهذا ما وعاه وعبّر عنه مكاوي نفسه منذ الطفولة، يقول مكاوي في واحد من حواراته «لازمني إحساس مزمن بالمأساوية وتراجيدية الحياة والقدرية, فأنا ريفي والريفي مسحوق بالقدرية وهي تحيط به كما تحيط الخيّة برقبة المشنوق، فما كنت أفعله في طفولتي هو نوع من الإحساس التراجيدي المتمرد على الحياة والثائر على الظلم وعلى مآسي الوجود وشقاء الإنسان وظلمه».
خلاصة الأمر أن الأهم عند الفيلسوف ليس هو قدر جسده الخاص، بل هو الحديث عما يتجاوز قدر جسده وقدر كل الأجساد ليلامس الأفق الكوني العام.
إذا كان الأمر كذلك وكان هذا الحديث خارج كل مناسبة وكان حديثا عن الحياة وليس عن الموت وكان حديثا عما يتجاوز الشخص وليس عن الشخص، فما الذي يمكن أن نقوله عن مكاوي بعيدا عن كل مناسبة وعن كل نعي وعن كل ما هو شخصي؟ 
أمور عديدة، نعتقد أن أهمها هو: ما الذي جسّده مكاوي كتجربة فكرية؟ ما الذي كان يريده؟ ما الذي هدف إليه من خلال مجموع عمله وجهده الذي تجاوز 60 سنة، بل وأكثر من ذلك ما الذي مثّله جيل مكاوي؟ ما أسئلة هذا الجيل التي عاش من أجلها؟ وما علاقتنا نحن مثقفين وغير مثقفين اليوم بهذا الجيل وبالقضايا التي شغلته؟ 
في اعتقادي أننا إن حاولنا أن نجيب عن بعض هذه الأسئلة فإننا سنكون فعلا وبشكل «عملي» قد وفينا بعهد الرجل وأكرمناه، فلا أخال مكاوي كما سبق معنا إلا من الناس الذين يعتبرون أن أهم شكل ينبغي أن يحضروا به ويذكروا به عند اللاحقين عليهم هو فكرهم.

مكاوي.. شروط النشأة والتكوين
ينتمي عبدالغفار مكاوي إلى الجيل الذي ولد في فترة الاستعمار، وهذا الجيل - الذي بلغ اليوم موسم حصاده - هو جيل متفرد في الثقافة العربية، جيل تراجيدي؛ جيل عاش بحكم الفترة التاريخية التي نشأ فيها في إطار تناقضات وتقابلات حادة، لعل أهمها كونه جيلا عايش الاستعمار وخبر ذلّه، جيل نما وشب في أفق تقابل وجودي قاس هو واقع هذه الأمة والثقافة قياسا إلى ما يراه ويدركه من واقع الآخر المستعمر المتقدم، وهذا الوعي هو الذي حدد وحكم تصوره وفهمه لمعنى ووظيفة الثقافة والفكر.
استنادا لهذا المعطى لم تكن الثقافة لتفهم بالنسبة لهذا الجيل إلا باعتبارها نوعا من النضال، أي باعتبارها عنصر مقاومة ضد الواقع بهدف تجاوزه وتغييره، أي أن الثقافة لم تكن لتجد مشروعية للانهمام بها إلا في إطار طموح نهضوي عام، فالمثقف هو صاحب مشروع، هو صاحب «وظيفة» عملية وليس «مجرد» منظّر، فالفكر ليس ترفا أو ملاذ خلاص فردي والفلسفة ليست إيتيقا (Ethic) شخصية للحياة، بل إنها، إضافة إلى السياسة والاقتصاد وغيرها من الفاعليات الإنسانية الأخرى، أدوات ومداميك يُتوسّل بها لأجل غايات مجتمعية عملية، إنها «استراتيجية» لا تستمد قيمتها ومبرر وجودها إلا من الرغبة في تجاوز واقع التخلف الذي نحياه وبلوغ واقع التقدم الذي نتغياه.
تنتج عن هذا الأمر نتائج مباشرة، أهمها أن لا فكر إلا في إطار مشروع، فالمفكر لا يمكن أن يسمح لنفسه بأن يكون مجرد «كاتب»، أي مجرد «شاهد» وجودي متفرج على الواقع يجعل من الكتابة وسيلة تواصل، بل عليه أن يكون صاحب مشروع عملي، فالثقافة هنا «سياسة بالثقافة» على أمل أن نبلغ يوما يصير فيه الحكم «ثقافة بالسياسة». 
والحقيقة أن هذا التصور «العملي» الذي لا يمكن أن يفهم الكتابة إلا في إطار مشروع اتخذ عند مكاوي وأبناء جيله صورتين، من جهة أولى صورة المشاريع «النقدية» العربية التي تحاول أن تشتغل على تشخيص وتوضيح الواقع ببيان عيوبه وأعطابه، وفي هذا الإطار تندرج المشاريع «النقدية» العربية على اختلاف أشكالها وتعدد أسماء أصحابها؛ ومن جهة أخرى صورة المشاريع «النقلية» التي كانت تعد وتوفر المواد والأفكار عن طريق التقريب والترجمة والتوصيل والتأصيل. والمسلكان «النقدي» و«النقلي» متكاملان في العمق، فإذا كان همّ أصحاب الاختيار الأول هو توظيف واستثمار المفاهيم والإشكاليات الفلسفية في فهم الواقع؛ فإن همّ أصحاب الاختيار الثاني كان التوضيح والشرح والتلقين، أي أنه كان همّا «بيداغوجيا» أساسا؛ صحيح أن المنحى الأول قد يبدو أغنى وأهمّ من الثاني، وهذا ما جعل من أصحابه يشتهرون ويتداولون أكثر من غيرهم، وجعل الجابري أو حنفي أشهر من عثمان أمين أو عبدالغفار مكاوي، ولكن الأكيد أن أولئك لم يكن بإمكانهم أن يؤسسوا لمشاريعهم النقدية الشهيرة دون الجهد الذي وفّره أهل الاختيار الثاني، ولعله من الدال هنا أن أهم أسماء النوع الثاني كانوا تلامذة للأوائل، فحنفي والجابري والعروي وجعيط هم تلامذة لبلدي وبدوي والخضيري وعثمان أمين وأيضا مكاوي، رغم الفارق الطفيف في العمر، فالأعمار في الفكر لا تحسب بما هو بيولوجي فقط. 
وعلى باب الجملة وطلبا للاختصار، لنقل إن الفريق الأول وفر «المادة» والثاني استثمر ووظّف هذه المادة. في هذا الإطار ينبغي أن نفهم نحن اليوم تفاني واستماتة هذا الجيل باختياريه في إنتاج أعمال موسوعية كبرى، فالمحرك الأساسي الذي كان يسكن فكر مكاوي وأبناء جيله هو الإيمان بقيمة وقوة المعرفة وقدرتها على التغيير، وهو الإيمان الذي توافق مع هيمنة الفكر الماركسي العضوي في تلك الفترة من تاريخ القرن العشرين، والذي لن يبدأ بالتراجع والانحصار إلا منذ مدة قصيرة.
 ينتج عن هذه التفسيرات والعناصر التي قدمنا عنصر آخر ميّز هذا الجيل من الناحية المنهجية، وهو كونه جيلا لا يعترف بالتخصصات أو بالفواصل كثيرا، فالفلسفة عنده تتداخل بالأدب والعلم والفن، فالنقص حاصل عندنا في كل شيء والمكتبة العربية تفتقر إلى كل ما جدّ في الفكر العالمي منذ قرون، لهذا فلا مجال لادّعاء ترف التخصص، إذ علينا أن نجتهد في كل المجالات بغرض سد النقص فيها جميعا، وهذا الأمر لعله كان واضحا عند مكاوي أكثر من غيره، ومن هنا اهتمامه الكبير بالأدب والفن، ومن هنا أيضا اتهام بعضهم له بكونه فيلسوفا خرج عن الإطار الفلسفي وارتكن إلى نزعة أدبية كان من نتائجها، بحسبهم، غياب الصرامة «المفهومية» في كتاباته، أو على الأقل تداخل التقني بالأدبي في هذه الكتابات، بل إن منهم من عاب عليه لغته، واصفا إياها بكونها لغة «رومانسية» وبكون صاحبها في بعض الأحيان كاتب «رثاء». والحقيقة أن في مثل هذا الحكم ظلما، لأن خاصية التداخل هذه تكاد تلامس كل أبناء هذا الجيل كما قلنا، وإلا كنّا سنعيب على الجابري اهتمامه بالتأريخ للرياضيات والطب، وعلى بدوي اهتمامه بالتأريخ للعقائد، وكنا سنعيب قبلهم على أساتذتهم من مثل طه حسين اهتماماته الواسعة التي تمتد من ديكارت وكونت في الفلسفة إلى علي ومعاوية في التاريخ، مرورا بالمعري والمتنبي في الأدب، وكنا سنعيب عن العقاد اهتمامه بالأنثروبولوجيا والبيولوجيا وتاريخ الأديان والشعر والرواية في نفس الوقت. الأمر عام إذن وليس خاصا بمكاوي، حتى وإن كانت للرجل خصوصيات «منهجية» سنذكرها بعد حين.
عمليا في ماذا تظهر وتنعكس هذه العناصر التي قدمنا والتي اعتبرناها واسمة لجيل بأكمله في فكر عبدالغفار مكاوي تحديدا؟ 
أولا من حيث المبدأ وفي ما يخص البعد العضوي والتصور النضالي لمعنى الفكر ينعكس في تصور مكاوي عن وظيفة المفكر، إذ هو ما فتئ يعلن عن إيمانه بكون الفيلسوف لا يمكن أن يشتغل إلا وفق حاجات محددة، وهذا الأمر لا يأتي تلميحا مطويا في ثنايا الخطاب، بل يأتي تصريحا، وهذا ما نجده مثلا في نصه «خواطر عن مصر». ينعكس هذا الأمر أيضا في قدر الاهتمام الذي أبداه مكاوي لمفهوم الإنسان، بقدرته على الفعل، ومن هنا اهتمامه بقضية الحرية وبالفلسفات التي تتأسس عليها، وهذا أمر كان حاضرا عنده حتى في نصوصه التي أرخت لمفكرين اعتبروا أبعد ما يكون عن الاعتقاد في «الفاعلية الإنسانية»، فحتى مع الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» نجده يجتهد وسعه لتقديم تأويلات «مفتوحة». 
وفي هذا السياق يمكن أن نورد وصفه للحرية بكونها «تحررا باطنيا»، جوهره المسئولية؛ المسئولية التي لن تكون كذلك فعلا إلا عندما تتوجه لصميم «مشكلات الأمة»، وهذا الأمر لا يحققه إلا شخص يعي خصوصيات «اللحظة التاريخية» لمجتمعه فيوفّر ما يلزم للنهوض بها. 
والحقيقة أن هذا التصور المنتصر للحرية وللفعل والعمل قد ألزم مكاوي بعض اللزومات التأويلية، وفي هذه النقطة بالذات تركزت الانتقادات التي قدمنا بعض عناصرها قبلا، والتي اتهمته بتضييع صرامة المفاهيم لمصلحة انفتاح في القراءة جعل كتاباته «أدبا فلسفيا». لكن في نظري هذا النقد ليس بالقوة التي يظهر عليها، فقد بينّا أن هذا الانفتاح في التيمات وفي القراءة كان ميزة لجيل بكامله لأسباب عرضناها، وحتى إن كان الأمر كذلك، فما الضير من أن نلاقي الفلسفة بالأدب؟ ألا يوجد فلاسفة عظام في التاريخ قد فعلوا ذلك عندنا كما عند غيرنا؟ ماذا عن التوحيدي مثلا؟ وماذا عن مونتيني وكيركيغارد بل ونيتشه؟ من قال إن الخطاب الفلسفي ينبغي أن يبقى متحجرا متمترسا بلغة مفهومية مغلقة؟ أليس من حق كل كاتب أن يختار؟ لم يسمح بعض المفكرين لأنفسهم بأن يقيموا اللغة العلمية مرجعا ومعيارا للنص الفلسفي ولا يسمحوا للآخرين أن يفعلوا مثل ذلك مع الأدب؟ ألن نكون حينها ضحية نزعة علموية ساذجة دون أن ندري؟ ثم إني شخصيا، بحسب ما قرأته من مكاوي، لا أجد تفريطا من الرجل في ما هو مفهومي لمصلحة الأسلوبي، ففي نصوصه عن كانط نجد صرامة كبيرة، وهي عين الصرامة التي نجدها في الترجمات، لا أعتقد أن مثل هذا النقد يصمد أمام التحليل، شريطة أن نتحرر من الصور القبلية ونقرأ الرجل في نصوصه بعيدا عن أحكام القيمة الجاهزة التي كثيرا ما تكون حاجزا أمام القراءة. 

ما الذي سيبقى من مكاوي؟
يبدو للمهتم بتاريخ الفلسفة العربية المعاصرة اليوم بأن التصور الذي مثله مكاوي وجيله عن الثقافة والفكر والذي عرضنا بعض عناصره في ما تقدم هو تصور بعيد وغريب عن تصوراتنا نحن الآن، فمفكر الألفية الثالثة بحكم اعتبارات تتعلق بطبيعة عالم اليوم وبالنكبات والانتكاسات الثقافية والسياسية التي عشنا ونعيش لم يعد يؤمن بتلك السلطة المزعومة للفكر، إذ لم يعد العمل الفكري يوضح ما ينبغي أن يكون، بل صار مكتفيا بالحديث عمّا هو كائن، وصارت الكتابة أفق خلاص فردي يضمن عزاء روحيا ليس أكثر، فالكاتب فهم أن لا قدرة له لفعل الكثير أمام متوالي النكبات، لهذا قد لا يُفهم اليوم ذلك الهوس الذي كان عند أبناء جيل مكاوي بالعمل، وسيقف المشتغل بالكتابة اليوم لا محالة مندهشا أمام القدرات التي كانت لهذا الجيل ومنه مكاوي على الكتابة والقراءة والتأليف في شتى المجالات وبشكل لا طاقة لنا به، فمكاوي مثلا كان مؤلفا ومترجما وأديبا، وهو في كل واحدة من هذه متعدد، فهو مؤلفا كتب عن الأدب والفلسفة والفن والعلم والتاريخ، وهو مترجما نقل عن الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، حتى وإن كانت شهرته قد تعلقت بالترجمات عن الألمانية خصوصا، وهو في قراءاته وكتاباته يتحدث عن اليونان والرومان كما عن الفرنسيين والألمان والروس والإيطاليين والإنجليز، وهو فوق هذا وذاك من أعلم الناس وأخبرهم بالثقافة العربية كما تشهد بذلك مؤلفاته الأدبية، ولكن كثيرا من عناصر هذا الاندهاش سترتفع إذا ما انتبهنا لما عرضناه سابقا، فتلك طبيعة جيل وروح عصر يتجاوزان الإرادات الفردية، وهي طبيعة لا ينبغي أن نقف أمامها موافقين مسلّمين، بل ينبغي أن نعي بأنه قد كان لها حدود أيضا, فهذا الوعي القوي بمسئولية المثقف وقيمة الثقافة وسلطة الفكر إن كان من الناحية العملية يبدو عنصر قوة وميزة، لأنه يجعل المفكر مهموما منشغلا بقضايا عصره ومجتمعه، فإنه من الناحية النظرية قد يصير عنصر ضعف، فالإيمان بسلطة الفكر هو من الناحية الفلسفية الصرف محط نظر ومراجعة اليوم، فانتكاسات كثيرة حصلت كما قلنا، والمشاريع الثورية ماركسية وغير ماركسية وقومية انتهت إلى ما يعلمه الجميع ونمط الوجود التقني قد بسط نفوده ومكّن لنفسه بأقوى ما يكون في الواقع والعقول والأفئدة، ومفكرون كبار آخرون مروا من هنا وعلّمونا بأن سلطة الفكر لا تبتدئ فعلا إلا حين نفهم ونعلم بأن لا سلطة للفكر أصلا، فالفلسفة الحق لا تظهر إلا عندما ندرك بأن دور المفكر هو أن يحلل عصره والواقع عوض أن ينظّر له. على أن الوعي بهذه التحولات والنتائج إن كان لا يقلل من قيمة الطموح النبيل لمكاوي ولأبناء جيله في مشروعهم النهضوي، فإنه من جهة ثانية يكشف لنا حدود هذا الجيل والموانع التي وقفت حاجزا دونه وفهم وإدراك قيمة اتجاهات كبرى في الفكر المعاصر، وعلى رأسها الفلسفات النقدية الجذرية، وهذا ما يتجسد بالملموس عند مكاوي في موقفه من البنيوية مثلا والتي لم يكن يرى فيها سوى فكر عدمي ونزعة ريبية خطابية، وهذا أمر طبيعي، فهذا الرجل الذي وضع خيارات حاسمة بناء على قناعات هي الإيمان بفاعلية الإنسان وحريته وبقيمة الثقافة وسلطة الفكر لم يكن بمكنته أن يستوعب فكرا يؤمن بأن الحكايات الأيديولوجية الكبرى قد انتهت وأن الفكر لا يبتدئ إلا حين يؤمن بأن الفكر لا يمكن أن يتجاوز شروط وجوده وتحققها. 
صحيح إذن أن الحسم الذي أبداه هذا الجيل وضمنه مكاوي في قناعاته سيبدو لنا نحن اليوم مزعجا، وأن هذا الإيمان الكبير بسلطة الثقافة سيظهر ساذجا ولكن ما ينبغي أن نتذكر هو أنه لولا مجهود هذا الجيل في ترسيخ الدرس الفلسفي عندنا بعيد الاستقلال، هذا الدرس الذي كان قد مات وانتهى منذ قرون، ولولا جهدهم المذهل الذي بذلوه لتطويع اللغة العربية نقلا وتعريبا وترجمة لتستوعب كنوز الفكر الفلسفي الحديث، ولولا تقعيدهم للآليات الفكرية المستحدثة لما تمكنا نحن اليوم أن نصوغ مثل هذه الانتقادات والتحفظات، فلولا دروس عثمان أمين والخضيري وبدوي ونجيب بلدي ومكاوي لما وجدنا نحن اليوم شيئا نستند إليه للحديث عنهم بل ونقدهم، بهذا المعنى سيكون مكاوي وغيره من الأسماء الكبرى التي جايلته وسبقته قليلا بالنسبة لكل من رام الحديث عن الفلسفة باللغة العربية اليوم شرط إمكان، وعى ذلك أم لم يع به .