عبدالغفار مكاوي..نقاط تقاطع الفلسفة والأدب

عبدالغفار مكاوي..نقاط تقاطع الفلسفة والأدب

تعاني الفلسفة في وطننا العربي مشكلة انغلاقها الأكاديمي داخل أسوار الجامعة من جهة، ومن عدم استطاعة الكثير من المشتغلين بها من الوصول إلى الجمهور العريض من المثقفين خارج الجامعة من جهة أخرى. وقد كان عبدالغفار مكاوي من أوائل الذين انتبهوا إلى هذه المشكلة وحاولوا حلها. فقدم لنا تراث الفلسفة بأسلوب مبسط في صورة مقالات ذات طابع أدبي راق (جمعها في كتبه: مدرسة الحكمة 1967؛ لم الفلسفة؟ 1981، الحكماء السبعة ،1990 تجارب فلسفية 2008). 

لم تكن الرغبة في نشر الفلسفة على جمهور واسع هي الدافع الوحيد وراء اختياره لأسلوب المقال القصير في الكتابة الفلسفية، ذلك لأن هذا الاختيار يكمن وراءه التوجه والرؤية الفلسفية التي كان يتبناها مكاوي طوال حياته، والتي نستطيع أن نقول عنها إنها كانت النظرة لفعل التفلسف على أنه فعل وجودي مرتبط بحياة المفكر، وتجربة وجودية يدخل فيها المفكر في حوار مع ذاته ومع الوجود بحثًا عن الحقيقة. ومكاوي بذلك كان امتدادًا طبيعيًا للمدرسة الوجودية الألمانية التي أسسها هايدجر، والتي سار على دربها تلميذه شتروفه، والتقط مكاوي الخيط من شتروفه. وقد كان لهذه المدرسة الفكرية أسلوبها الخاص في الكتابة وهو الأسلوب نفسه الذي برع فيه مكاوي، والنابع من رؤيتها الوجودية للتجربة الفكرية ولتراث الفلسفة كذلك. والحقيقة أن التعامل مع تراث الفلسفة على أنه مجموعة من التجارب الفكرية الوجودية التي مر بها الفلاسفة يقرب الفلسفة من الأدب، نظرًا لاشتراكهما معًا في كونهما صورتين للتعبير عن التجارب الحياتية. هذا إلى جانب اشتراك أسلوب المقال الفلسفي مع القصة القصيرة من حيث غلبة الطابع السردي على مقالات مكاوي الفلسفية. 

مدرسة التأويل
ويظهر انتماء مكاوي للمدرسة التأويلية الألمانية في معالجة تراث الفلسفة، والتي يقف هايدجر على رأسها على مستويات عديدة، أهمها أسلوب الكتابة كما قلنا، والقضايا التي عالجها وطريقته في معالجة هذه القضايا. فالممارسة الهايدجرية لفعل التفلسف تتحدد بكونها إعادة تأويل لتراث الفلسفة السابق لاستخراج معان جديدة منه، تبقي هذا التراث حيًا في الأجيال القادمة. وفعل التفلسف عند مكاوي مضاد للمذهب وللنزعة المذهبية؛ بمعنى أن أعماله الفلسفية كلها لم تكن بهدف إقامة رؤية شاملة للوجود والمعرفة والإنسان يجمعها هيكل نسقي مترابط منطقيًا على شاكلة مذاهب أفلاطون وأرسطو وكانط وهيجل، بل بهدف تقديم موقف من الحياة وطرح الأسئلة ومشاركة القارئ في التفكير وفتح مجالات للتأمل أمامه من دون تقديم إجابات نهائية شاملة عن كل شيء. فمكاوي ينتمي للاتجاه الفلسفي الذي يرفض أن يحل المذهب الفلسفي محل الواقع الحقيقي، إذ إن المذهب بذلك يشكل عائقًا أمام الرؤية الفلسفية الحقيقية للواقع بكل غناه وتعقده، كما أن الانغلاق في المذهب يجعل منه بديلًا عن الواقع، ولا يمكن المفكر من التعامل مع الواقع إلا من خلاله. وهذا التوجه الفلسفي لمكاوي هو الذي جعله أحد المشاركين في الشرط الفلسفي المعاصر، والذي يوصف بمواجهة النزعة المذهبية للفلسفة وبكراهية التمذهب. لكن تراث الفلسفة يقدم نفسه، وقد كان بالفعل تاريخًا للمذاهب الفلسفية وتلاقحها وتأثيرها وتأثرها ببعضها البعض وصراعاتها وتنافسها. ولذلك كان على مكاوي أن يكسر حاجز المذهب المحيط بكل فيلسوف لينفد إلى جوهر فكره باعتباره تجربة حياتية ووجودية، هذه التجربة التي ينظر إليها مكاوي على أنها أهم ما قدمه كل فيلسوف، والذي يبقى حيًا من تراث الفلسفة الطويل. وبالتالي فإن اختيار مكاوي للمقال باعتباره الشكل المفضل له لعرض الفلسفة وللكتابة الفلسفية كان هو الاختيار الأنسب لتوجهه الفكري المضاد للمذهب الفلسفي. هذا إلى جانب أن شكل المقال يتفق مع رؤية مكاوي الفلسفية، وهي رؤية تتلخص في كونها مجموعة من المواقف الفلسفية تجاه الوجود والإنسان، وهي مواقف مفتوحة وليست تامة مغلقة ولا يجمعها مذهب ما. كذلك فإن المقال يتناسب مع طبيعة الأسئلة الفلسفية التي يطرحها مكاوي، إذ إن هدفه من أسئلته ليس التمهيد لتقديم إجابات قاطعة نهائية عنها، بل هدفه إثارة التفكير حولها ودعوة القارئ للتفكير معه. وبذلك يكون شكل المقال الفلسفي ليس مجرد أسلوب في الكتابة، بل هو جزء أصيل من نوعية فعل التفلسف الذي يقوم به مكاوي ومن توجهه الفلسفي. وأبرز مثال على ذلك هو مقالاته المجمعة في كتبه سالفة الذكر، وأهمها «مدرسة الحكمة». إذ نراه فيها يتعامل مع فلاسفة مختلفين تمامًا في مذاهبهم ورؤاهم الفلسفية للعالم، لكنه لا ينشغل في مقالاته بالكشف عن الاختلافات المذهبية التي لا تهم إلا دارس الفلسفة والباحث الأكاديمي خاصة، بل ينشغل باستخراج المعاني والدلالات الباقية في أفكار الفلاسفة والقادرة على إبقاء تراث الفلسفة حيًا في الأجيال القادمة. ويتضح من ذلك أن ما يوجهه في هذه المهمة هو إستراتيجية تأويلية تعلمها من مدرسة هايدجر وتلميذه شتروفه، وتتأسس هذه الإستراتيجية في فكرة الفلسفة الخالدة. فليس الخالد في تراث الفلاسفة مذاهبهم واختلافاتهم المذهبية الداخلية، بل الخالد في الفلسفة هو نظراتها حول معنى الوجود الإنساني وموقع الإنسان في العالم وموقفه منه. وعلى ذلك كان مكاوي يتعامل مع الفلاسفة على قدم المساواة باعتبارهم كلهم يقفون على خط متصل واحد هو هذه الفلسفة الخالدة. 
الفلسفة عند مكاوي هي تجربة حياتية يعبر عنها بالفكر. هي تجربة الحيرة والدهشة التي تنتاب المفكر عندما يبحث في سر الوجود. يقول مكاوي في تصديره لكتاب شتروفه «فلسفة العلو»: «مررت ... بالتجربة التي لابد أن تخوضها مع كل فعل فلسفي حق، تجربة الاهتزاز والارتباك والتغير والتحول من الأعماق». (شتروفة: فلسفة العلو (لترانسندنس) - نقله إلى العربية د.عبدالغفار مكاوي - الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة 2012 ص9). يعود مكاوي بذلك إلى معنى أصيل وقديم لممارسة فعل التفلسف وهو الفلسفة، باعتبارها تغييرًا لذاتية الإنسان وانكشافًا للوجود أمامه بفعل تجربته الفكرية في تفاعله مع أسئلة الوجود وأسراره. وقد يبدو من هذه التجربة قربها من التصوف، وهذا صحيح إلى حد كبير، نظرًا لاشتراك التصوف والفلسفة بمعناها الأصلي في كونهما تجربتين روحيتين. وقد غاب هذا المعنى الأصلي للفلسفة من جراء تحول التراث الفلسفي منذ نهايات عصر الفلسفة اليونانية إلى أن صار مجرد محاولات لعقلنة الوجود في صورة نسق مذهبي مغلق. ويعيد مكاوي فتح الفلسفة على مجالها الأصلي الذي تم تناسيه، وهو في ذلك يتبع المدرسة الوجودية الألمانية في إعادة طرحها لسؤال الفلسفة القديم الذي تم تناسيه، سؤال الفلسفة الذي نسي الذات الإنسانية وأنطولوجيا الوجود الإنساني واستغرق طويلًا في أنطولوجيا الأشياء والموضوعات. والطريقة التي يتعامل بها مكاوي للكشف عن أسئلة الوجود المختبئة وراء المذاهب الفلسفية التقليدية هي منهج التأويل الخاص بالوجودية الألمانية، والذي سبق لهايدجر وشتروفه استخدامه، وهو يبدأ بالذهاب إلى أن الأنطولوجيا التقليدية تكشف حتى في اهتمامها بالموجودات عن اهتمام مسبق وإن كان مكبوتًا بالوجود الإنساني. وبالتالي تأتي كل المذاهب الأنطولوجية وهي مشروطة بالموقف الأنطولوجي الأصلي للوجود الإنساني. ثم يأتي دور التأويل بعد ذلك ويفسر المقولات الفكرية، باعتبارها تعبيرات عن أنماط للوجود الإنساني في العالم. فالفيلسوف لم يكن ليتمكن من التفكير في مقولات المكان والزمان والسببية إلا بناء على تعامله الأصلي مع العالم من منطلق هذه التوجهات، بمعنى أنه قبل أن تظهر مقولات الفكر كما لو أنها مستقلة عن محتواها الواقعي تكون أنماطًا لتوجهات حياتية للإنسان. والتأويـــــل بذلك يعني النفاذ من الطابع الجاهز والمكــــتمل الذي تبدو عليه المقولات المعرفية للكشــــف عن أساســها الوجودي المتمثل في كونها تعبيرًا عن الطرق التي يتعامل بها الإنسان ويحيا من خلالها في العالم.

تأويل وجودي
ولا يعني تأويل مكاوي الوجودي لمقولات الفكر أن هذه المقولات هي أدواته في التحليل، ذلك لأنها هي الموضوعات التي ينصب عليها فعل التأويل الوجودي. أما مقولاته التي تمثل أدواته التحليلية، فهي التي يستخدمها في الكشف عن أتولوجيا الوجود الإنساني الكامنة خلف أنطولوجيا الموجودات. وقد استعارها مكاوي من الوجودية الألمانية، وأهمها: الأصالة في مواجهة عالم النسخ المتكررة، وهو عالم الإنتاج السلعي الكمي الذي ينتج وحدات متشابهة، وهذا العالم هو العالم التكنولوجي الاستهلاكي الذي ينظر إليه مكاوي متبعًا في ذلك هايدجر وشتروفه على أنه عالم زائف ويقارنه بكهف أفلاطون؛ وعالم السكينة في مواجهة الضجيج، لأن الوجود هو في حقيقته سكون كما يقول مكاوي. وهذا هو ما يعبر عن نزعة فردية متطرفة مضادة للمجتمع وللحياة الاجتماعية التي يقيمها مكاوي دائمًا تقييمات سلبية، إذ يقول: «التوحد المطلق أصبح الآن من أصعب الأمور، فلم نعد نعرفه أو نحتمله أو نحاوله. إنه أسبق من الاجتماع والتجمع، فحتى الجماهير المحتشدة تتألف من أفراد وحيدين... من الصحيح أيضًا أنه حيوان وحيد، بل هو الحيوان الوحيد الذي يمكنه أن يكون وحيدًا». وينظر مكاوي إلى الحرية الحقيقية على أنها تتمثل في هذه الوحدة والعزلة عن المجتمع. وهو بذلك يعود إلى الثنائية المتطرفة بين الذات والعالم والسائدة في الاتجاهات الفلسفية الأوربية التي نهل منها. والتأويل كما فهمه ومارسه مكاوي هو هذا التجاوز لكل ما هو يومي وللحياة اليومية باعتبارها غير أصيلة، ولحياة الحشد والمجموع باعتباره وجودًا زائفًا، في سبيل مفهومه عن التحرر. فالحرية في هذا المعنى تعني كسر كل القيود التي تربط الذات الفردية بأي روابط اجتماعية أو أي كيانات أكبر من الذات وعالمها الخاص، وهي النظر إلى كل تلك الكيانات على أنها غير أصيلة، وعلى أنها كلها كيانات صغرى بالنظر إلى الكيان الكلي الأكبر وهو الوجود الحقيقي الأصيل المتجاوز لعالم المادة والآلة والاستهلاك، والانخراط في هذا الكيان الأكبر والذوبان فيه على الطريقة الصوفية. إذ يعترف مكاوي مرات كثيرة عبر كتاباته كلها أن هذا التصور للوجود وللتوحد به هو نفسه التصور الصوفي، لكنه التصوف الفلسفي تحديدًا لا التصوف الديني.  
ويبدو أن المجتمع المحيط بمكاوي خاصة المجتمع الجامعي قد فرض عليه أن يحقق فلسفته عمليًا ويطبق مفهومه هذا عن الحرية في الوحدة والتوحد، إذ المعروف عنه أنه في السنين الأخيرة من حياته قد آثر العزلة حتى عن الحياة الأكاديمية التي كان من المفترض أن تكون بالنسبة له مثل الماء للأسماك، لكنه انعزل عنها باختياره نظرًا لما لاقاه فيها من انهيار على  المستويات كافة.

الفلسفة تجربة شخصية
والحقيقة أن نظرة مكاوي لفعل التفلسف باعتباره تجربة شخصية ذاتية للفيلسوف هدفها أن يفكر الفيلسوف بنفسه ولنفسه من أجل أن يحرر نفسه، تكشف عن نوع من الاغتراب الذي يمثل الشرط الحديث لكل فعل فلسفي، اغتراب الفيلسوف عن مجتمعه وعن حضارته كلها. إذ إن كتابات مكاوي مليئة بالسخط على مادية الحياة المعاصرة وبإلقاء اللوم على التعقد التكنولوجي الذي مثَّل حاجزًا بين الإنسان وكشفه عن حقائق الكون والطبيعة المحيطة. هذا النوع من التفلسف هو الذي ورثه مكاوي من الفلسفة الألمانية المعاصرة له والتي تعد انغلاقًا ذاتيًا للذات البرجوازية التي انعزلت عن العالم ولم تستطع الانخراط في مشاكله وتقديم حلول لها، والتي استنفدت إمكاناتها التاريخية ولم يبق لديها إلا الاهتمام بوجودها الشخصي ومصيرها المستجد، والذي نظرت إليه على أنه مصير البشرية كلها. وما يقوله مكاوي عن أصالة الوجود التي يعتم عليها العصر المادي التكنولوجي ما هو إلا رجعية فكرية مرتبطة بالبرجوازية في مرحلة انحطاطها، ورثه مكاوي عن البرجوازية الغربية ونقله إلينا. ولم يكن مكاوي على وعي بأنه ينقل إلينا الحالة الفكرية والروحية الغربية التي لا تناسب المرحلة التاريخية التي كان يمر بها العالم العربي آنذاك. فمكاوي ينتمي إلى طائفة المفكرين العرب الذين ينقلون التوجهات الفكرية الغربية إلى العالم العربي والذين لا ينتبهون إلى أن هذه التوجهات مرتبطة بالحالة الروحية للبرجوازيات الغربية التي تعيش عصر أفولها، والتي عبر عنها أزوالد شبنجلر في كتابه «أفول الغرب». 
إذ يعد شبنجلر هو أستاذ كل المفكرين الألمان وغيرهم من الأوربيين الذين كشفوا عن الحالة التشاؤمية اليائسة المرتبطة بظروف الحربين العالميتين. ومثلما كان مكاوي هو الوكيل المحلي للوجودية الألمانية، فقد شهدت الساحة الفكرية العربية وكلاء محليين آخرين للاتجاهات الفكرية الغربية، مثل إسماعيل مظهر ممثلًا للتطورية، وزكي نجيب محمود ممثلًا للوضعية المنطقية، ومحمد عابد الجابري ممثلًا للبنيوية، وممثلون آخرون لما بعد الحداثة والتفكيكية و«الفينومينولوجيا» وغيرها. 
لكن يبدو أن مكاوي كان يستعير الحالة الروحية البائسة للبرجوازيات الأوربية في الوقت الذي دخلت فيه البرجوازيات العربية مرحلة انحطاطها التاريخي بعد هزيمة 1967 وما تلاها من كوارث على العالم العربي، ومنها فشل كل مشاريع هذه البرجوازيات وأهمها القومية والليبرالية والصيغة الناصرية من الاشتراكية. وفي هذا الشرط الجديد كانت الحالة التشاؤمية البائسة للوجودية الألمانية ونزعاتها الفردية المتطرفة وتمجيدها الذاتي لنفسها مناسبة لعصر انحطاط البرجوازيات العربية، مما ساعد على شهرة وانتشار أفكار مكاوي .