جولة قصيرة في بستان عبدالغفار مكاوي الواسع..أحزان عازف الكمان

ظل مكاوي ما يقرب من ستين عاما يرفدنا بعلمه الغزير، وعاطفته السمحة، ورؤيته الفلسفية العميقة، وبالرغم من ذلك كان ينتابه كثير من اليأس عندما يدرك أن عمر الإنسان قصير جدًا أمام هذا العالم العملاق، والذي يعمل طوال الوقت على تقزيمه وربما تحطيمه، وانتابت معظم كتابات مكاوي المتعددة درجات من الإحباط والاكتئاب وربما العدمية، لذلك ستجد أنه دوما يعتلي منبره البسيط ليحدثنا عن الموت، ويطلعنا على خباياه، ويسبر غوره في القصة والقصيدة والمسرحية والبحث النقدي، ويختار ويمعن في ترجمات النصوص التي تتناول الموت فكرة ومصيرا محتوما، فالموت قد لاحقه وباغته منذ انبثاقه المفاجئ في الحياة نفسها، عندما ولد قبله بدقائق أخوان له، ولدا معه، لكنهما فارقا الحياة، ونلاحظ أنه يثبت ذلك في مطلع سيرته الذاتية عندما يكتب: «11يناير 1930، الميلاد (مع شقيقين فضلا الرجوع إلى حضن الأرض بعد أسابيع قليلة) في بلقاس (دقهلية) لأب شديد التقوى والصرامة وأم شديدة الطيبة والحساسية» ودوما كان مكاوي يعيد صياغة وسرد حكاية ولادته، ويفرد لها نصوصا خاصة في كتبه بأشكال معلنة ومستترة، وفى كتاب صدر له في العام 2006 عن دار الهلال تحت عنوان «النبع القديم» وهذا الكتاب بمنزلة سيرة ذاتية نوعية، وهو أراد أن يكتب حياته بطريقته الخاصة، فحياته موضوع للتأمل في معظم ما كتب، وفي هذا الكتاب يعيد لنا حكاية ولادته تحت عنوان «التوائم الثلاثة»، ويرصد الآلام التي فاجأت الوالدة عندما هاجمها «الطلق»، فأطلقت بالتالي صرخة دوت في أرجاء البيت كصليل جرس. مكاوي يحاول أن يصنع صورة متخيلة ومبنية على نوع من التأمل الفلسفي الذي يفرض نفسه على غالبية كتاباته بحكم طبيعته أولا، ثم بحكم امتهانه تدريس الفلسفة على مدى حياته كلها، ونقل في إبداع نصوصا في غاية الأهمية من التراث العالمي والفلسفي إلى اللغة العربية، وفي نصه هذا يحاول تخفيف هذه الجرعة الفلسفية بوصفه للحالة الاجتماعية المصاحبة لولادته، فأخته الكبيرة موجودة، وفي حالة توقع لتلك الولادة، وهي التي أبلغت الوالد بالولادة المتكررة لتوائم ثلاثة: «كان ذلك في ضحى يوم شتوي امتلأت سماؤه بسحب ثقيلة تنذر بالمطر، بعد العصر بقليل، وقبل أن يؤذن لصلاة المغرب، ويفقد الوالد الولدين الأولين، ويذهب مع الشيخ لدفنهما، ويعتقد الشيخ أن الطفل الثالث ينتظر مصير أخويه، وهو أقل منهما صحة وعافية، وكان منذورا للموت قبلهما، لأن البشارة التي جاءت بها الشقيقة الكبرى تقول: «إنه ضعيف ونحيف كالفأر الصغير»، وكان هذا الطفل الصغير هو عبدالغفار مكاوي الذي استقبل الدنيا بأعلى صوته ليقول: لا ..لا ..لا، ويستطرد مكاوي في صورته قائلا: «لم يبق الثلاثة على حالهم، إذ لم يكد يمضى شهران حتى مات الشقيقان الأولان الواحد بعد الآخر، ولحكمة لا يعلمها إلا الله، رجعا إلى حضن الأرض بفارق أسبوع واحد بينهما، وفي كل مرة كان يذهب أبي مع الشيخ أحمد المقرئ والتربي حاملين النعش الصغير وراجعين في صمت وهدوء بعد تسوية التراب فوق كل منهما»، وهكذا تتضافر الحياة مع الموت منذ اللحظة الأولى من انبثاق الطفل وظهوره في الحياة، وتظل هواجس الموت تلاحقه في كل شاردة وواردة، ودوما نجد الموت رقما مكينا وقائما وفعالا في معظم إبداعات مكاوي المتعددة الوجوه، وقد أفرد كتابا شعريا كاملا تحت عنوان «بكائيات.. ست دمعات على نفس عربية»، ويطالعنا في دمعته الأولى قائلا:
«ماذا يبقى غير الصمت وماذا يبقى؟
غرقت سفن الغرق قبل الغرق
والطفل تمنى لو لم يولد أبدا
والموت تسكع في الطرق ينتظر
البائس صوت البوق ويرنو للأفق
والطير الواجم شلته نذر الشفق
نعق البوم وفي عينيه ارتسمت أطلال الكون وفي الحدق» ثم:
«يبدو الموت أمامي اليوم
كشفاء من مرض طال وعتق من ذل الأسر
يبدو الموت أمامي اليوم
كشوق سجين للبيت الآمن
بعد سنين قضاها في القهر».
إذن فالموت موضوعة ممتدة وفاعلة وشاغلة لمكاوي طوال حياته الإبداعية والفكرية والأدبية، وامتد به العمر إلى ما بعد الثمانين حتى يغادره الأصدقاء إلى دار الحق، ويظل وحيدا يودعهم واحدا واحدا، ويرثيهم، ويكتب فيهم المطولات الشعرية والنثرية، وهو المخلص لأصدقاء عمره المديد، والوفي لرفقتهم، والذاكر لهم دوما بالخير كما سنوضح ذلك لاحقا، ورثاؤه المتعدد لأصحابه ورفاقه، ماهو إلا لذاته التي تكابد الوحدة والعزلة بشكل قاس كلما فارقه ركن متين في حياته، ونراه تستغرقه اللوعة كلما رحل رفيق، ورغم أن الموت متكرر وكثير مروره، فإنه ينزل عليه صادما وقاتما، ونجده يخاطب رفاقه الراحلين بحنو بالغ وحنان نادر، اقرأوا ما رثى به رفيق عمره صلاح عبدالصبور شعرا:
«نم بسلام، ياشاهد عصري وضحيته، يا جرح العمر وأمل العمر، نم بسلام حتى نلقاك، نم بسلام.
الإنسان الإنسان عبر، لم يمض وحيدا، فسفينتنا عبرت معه للشط الآخر، حملت ذات الأحلام، وبقية نار تخبو تحت رماد الأيام، ماذا نملك بعدك إلا أن نتغطى بالآلام، أن نسأل روحك، يا روح الشعر! زوري أحبابك في ليل القهر، جودي بالمعنى والإلهام، مطرا يروي هذا الفقر، عودي لا تنسينا، لا تتخلي، ففراقك مر، والوحدة بعدك في هذا القبر المأهول أمر، الإنسان الإنسان عبر، افترش الحصباء ونام، وتغطى بالآلام، فعليك سلام، وعليك سلام».
وينتقل مكاوي في مرثيته لرفيق عمره من الشعر إلى النثر، ومن الحوار الذاتي، إلى الحوار الثنائي والجماعي، وكانت اللوعة التي أصابت مكاوي في رحيل صلاح كبيرة، ليس لأن صلاحا كان صوت الجيل الممزق الطعين، كما وصفه في مرثيته، ولكن لأن رحيل صلاح كان الأول في الجماعة الأدبية التي ضمت في إهابها منذ المنتصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي مجموعة من الشعراء والقصاصين والنقاد، منهم عزالدين إسماعيل وفاروق خورشيد وعبدالرحمن فهمي وأحمد كمال زكي ومكاوي وآخرون وكان صلاح عبدالصبور «رمانة ميزان» الجماعة كما يقولون، وكان شاعرها المرهف، وسفيرها الإنساني والثقافي الكبير، وكان رحيله مذهلا وفاجعا بشكل مطلق، فيصرخ مكاوي:
«فكيف أبكيك، وليس لي بيانك المبين، والعمر قد تدلى من مشنقة الضياع والحنين، فارسنا الحزين، يا صوت جيلنا الممزق الحزين، يا أنضج الثمار في بستاننا الضنين، ودفئنا وشمعنا في عتمة السنين، ألن نراك بعد اليوم لن نعاين الجبين؟ والضحكة التي يضج فيها فارس حزين، تمدنا بآية اليقين، ألن نراك بعد اليوم لن تطل من حدائق العيون؟ يا فرحنا وجرحنا الدفين، أي جنون غالنا أي جنون؟».
ويستطرد مكاوي في مرثيته، متأملا معنى الموت، مستسلما لعرض صوره وحالاته ومراحله، منذ أن يولد مع الإنسان، ويبدأ مرافقا للحياة طوال عمر الإنسان، وكلما مر عليه يوم، تقدم هذا الموت خطوة، موسعا مناطق تمكنه، ويظل الإنسان يفقد مساحات الحياة يوما بعد الآخر حتى بحسم المساحة كلها له، هذا الموت الذي يطلق عليه صفة البطيء، وهناك الموت المفاجئ الذي يفرض نفسه بقوة، عازفا عن أي نمو وتوسع، وهناك موت الصغار والكبار، وهناك موت الروح والمعنى والكلمة والضمير والفرح، ورغم أن الموت دوما واحد، فإن صوره ومعانيه ومراحله متعددة، ولا يفوت مكاوي تأمل كل هذه الأشكال والصور والمعاني في كل ما رصد وسرد وكتب وتأمل، وفي كل ما قص وأشعر وتمسرح وترجم، ففي لوحة له تحت عنوان «القبر الجديد»، نجده يذهب ليعاين المقبرة التي يجهزها لنفسه، ويتأملها جيدا، ويتفقد جدرانها، وفي لمحة ينزل إلى الهوة التي ستكون مستقره الأخير، ويمدد جسده وينام، ويجاهد رفاقه الذين كانوا معه في إخراجه من هذا الموقف، وهو لا يبالي، إنه يريد تجريب طقس الموت عمليًا، صديقه الدائم ورفيق رحلته، والقائم في كل خطواته، ويصف لنا الراوي اللحظات القليلة التي قضاها في قبره الجديد، وفي قلب الظلام الدامس «كانت لحظات فارقة فارقة وفي أيامه الباقية، كان جمع الأهل والمحتشدين أمام الضريح الحديث البناء، قد فوجئوا بفعلته العجيبة الغريبة، فبعد أن عاين المكان، وتأكد من متانة السور العالي والبوابة الحديدية، وبعد أن ضحك مع شقيقه الأكبر من ضخامة القفل الذي وضع عليه، وتساءل بصوت مرتفع: وما الداعي للقفل والراقد في الداخل لا يمكنه أن يخرج والواقف في الخارج لا يريد الدخول؟ وسط كلمات الإعجاب بفخامة البناء وبذمة البنّا وصنعته البارعة، وبينما الجميع يتابعون ملاحظات الدكتور على الموقع والطلاء والرخامة المحفورة داخل واجهة القبر وعليها بالخط الكوفي البديع نقش بارز باسم الميت المرموق وصنعته ومكانته.. أستاذ التاريخ والحضارة بكلية وجامعة وتحتها مسافة فارغة لوضع اليوم والشهر الهجري والميلادي والسنة للمتوفى الذي لم يتوف بعد «وفي ظل كل ذلك يغافلهم الدكتور ويسرع إلى المقبرة، ويتنادى الجميع في ذهول: «هل هذا معقول يا ناس؟ ولماذا الاستعجال وأمر الله في علم الغيب؟ يا دكتور اعمل معروف..اخرج يا دكتور اخرج.. مازلت بحمد الله في كامل صحتك وفي عز شبابك .. اتق الله واخرج يا دكتور»، وهكذا تنتشر صور الموت في غالبية كتابات الراحل الكبير، وكان يستلهم دوما معانيه في كتاباته المتعددة، وهذا الانتشار يعد درجة من درجات التأمل عند مكاوي، وهذا الموت لم يظهر عند مكاوي بعد بلوغه مرحلة عمرية معينة، بل هو رفيقه منذ فترات مبكرة في حياته، وهناك قصة «التابوت» التي نشرها في مجلة «المجلة» في العام 1965، وفيها يتخيل حياة عبدالموجود التي ستنتهي إلى حيث الفناء، ولا يستطيع العودة أبدا، ويخاطب نفسه: «لكنك لن تستطيع أن تعود يا عبدالموجود، فقد أخذوك من يدك، من مئات السنين، وقادوك إلى المملكة السفلى، مملكة الموت والظلام، المملكة التي كتب على بابها: «يا أيها الداخل من هذا الباب، ودِّع كل أمل، هل تقول إنهم يحتفون بك؟ نعم، ولك الحق، يحتفلون بوضعك في التابوت، والتابوت غامض وساحر وجميل، مرصع بالأحجار النفيسة، براق من المعدن الخالص».
صوت الموت
وفي معظم ما كتب مكاوي عن الموت وفيه، كان يستلهم قصصا وقصائد لآخرين، وهو حريص على إثبات هذه النصوص التي استقى منها إبداعاته، ولأنه كان واسع المعرفة، وغزير القراءة، وشديد التفاعل مع قراءاته، فكان هناك تداخل وتمازج كبير، ففي «أمثولة الخواتم الثلاثة» يحكي عن حكاية أسطورية قديمة تقول بأن رجلا كان قديما من رجال الشرق يملك خاتما ثمينا، أهدته له يد حبيب وعزيز غال، كان الحجر النفيس الذي صنع منه الخاتم من «الأوبال» وكان يشع منه ما يزيد على المائة من الألوان، وكانت له خاصية خفية تجعل كل من يحمله محبوبا ومرضيا عنه من الله والناس، ويستطرد مكاوي في سرد فضائل الخاتم الأسطورية، ويزيد بأن من يرث هذا الخاتم سيكون هو ملك وأمير المكان أيا كان هذا المكان بيتا أو مدينة، حتى ينتهي الأمر بالمعضلة التي يحلها الرجل بيسر، وهي من سوف يأخذ هذا الخاتم من أولاده بعد رحيله، والرحيل أي الموت هنا مشكلة كذلك، ولكن الرجل يقرر أن يهب هذا الخاتم النفيس إلى أحب الأبناء، وينتقل الخاتم من جيل إلى جيل بهذه الطريقة، حتى يصل الخاتم إلى أحد الآباء، وكان له ثلاثة أولاد يضمر لهم ذات وقدر المحبة، ولما يستطع أن يفاضل بين أحد منهم ويهبه الخاتم بعد رحيله، فهداه عقله ليذهب في السر إلى صائغ مشهور عنه بتفوقه في الصنعة، وطلب منه أن يصنع نسختين من الخاتم بحيث لا يدخر جهدا في أن يجعلهما متطابقتين تمام التطابق مع الخاتم الأصلي، وقبل أن يأتي ميعاد رحيل الرجل استدعى كل واحد من الأبناء وأعطاه نسخة من الخاتم، ويرحل الرجل، ولم يكد يموت ويوارى التراب حتى رجع كل واحد من الأبناء ليعتقد نفسه هو السيد المختار، والابن المحبوب الذي سيرث العرش، ولكنهم يكتشفون الحقيقة، ويذهبون إلى القاضي ليحكم بينهم، ويستمر مكاوي في سرد بقية الأمثولة، والتي تعنى بالخواتم الثلاثة، والصراع بين الأخوة، مقارنة بالأديان الثلاثة، وأي الأديان أقرب وأحب إلى البشرية جميعا، ونكتشف من سرد مكاوي لهذه الأمثولة أنه متأثر كبير التأثر بمجموعة مرجعيات كثيرة قابلته في حياته العلمية والفلسفية، ويرصد بعضها في نهاية القصة أو اللوحة، ولكنه يخص بالذكر الكاتب والناقد المسرحي ليسينج (1729-1781)، ويشرح مكاوي هذا التداخل بين نصه ونص ليسينج.
لا نريد أن نستطرد في تعديد صور الموت ومعانيه عند مكاوي، ولكننا نريد أن نشير إلى أن هيمنة طائر الموت عليه، دفعته لإبداع يتسم من الناحية المضمونية بالحزن، للدرجة التي يضع عنوان آخر مجموعة قصصية بـ«أحزان عازف الكمان» ويهديها هكذا «إلى صديقي الحبيب عبدالرحمن فهمي.. لم يمهلك الأجل حتى أهديك هذا الكتاب يدا بيد، ليتك تقبله الآن من روح إلى روح».
الوفاء
ومما سبق نكتشف أن الراحل عبدالغفار مكاوي كان شديد الوفاء لأصدقائه، هذه الشخصيات التي عاش في كنفها عمرا مديدا، ثم رحلت عنها وظل يرثيها واحدا بعد الآخر، وظلت هذه الأرواح التي كانت ترفرف حوله في خريف العمر، ونجده لا ينقطع عن تقدير هؤلاء الأصدقاء في حياتهم أو بعد رحيلهم، ويذكر لهم فضائلهم، وربما يكون مفرطا في ذكر هذه الفضائل، وهو يهدي كتبه إلى هؤلاء الأصدقاء بمناسبة أو من دون مناسبة، فنجده مثلا يهدي كتابه «البلد البعيد»، الذي صدر عام 1968 إلى «فاروق خورشيد»، رغم أن الكتاب لا يتقاطع مع مجال خورشيد، فهو رجل يهتم بالأدب الشعبي، ويكتب القصة والرواية، والكتاب المهدى إليه ما هو إلا مجموعة دراسات كتبها مكاوي عن شعراء وكتاب غربيين مثل جوته وشيلر وبرخت وتشيكوف وبيراندللو وألبير كامي، وهكذا، ولكن فضيلة الوفاء التي كان يتمتع بها مكاوي، كانت تملي عليه مثل هذه الإشعاعات في زمن ربما يكون معتما بالنسبة له، وقيمة الوفاء شبه معدومة في هذا العالم، ولم يقتصر الأمر على إهداء أصدقاء العمر فقط، بل نجده يهدي كتابه «النور والفراشة» في إصداره الأول إلى: «الدكتور فرنيس شتيبلت - بمعهد الدراسات الإسلامية - جامعة برلين الحرة، أحببت بلدي، وعلمتني ووقفت بجانبي، هل تقبل زهرة حب ووفاء من غرس يديك»؟
وفي آخر دراسة له عن أحد رفاق العمر وهو الأستاذ توفيق حنا، نشرت في مجلة «الثقافة الجديدة» في يناير 2012، وتحت عنوان «وصية قديس» نجده يلقي محبته على أصدقاء وزملاء له بشكل مفرط، بداية من وصف المكتوب عنه بالقديس، وفي مستهل دراسته الطويلة يقول: «لا أعلم إن كان المؤلف الحبيب، مد الله في عمره، قد جرب في صباه وشبابه الكتابة في أي جنس من الأجناس الأدبية المعروفة» ونجد مكاوي يدفع بكثير من الظلم الذي وقع على حنا، أول هذا الظلم كان في نسيان أن حنا هو اليد الأولى التي أشارت إلى موال «يا ليل يا عين» عندما بعث برسالة إلى رفيع المقام يحيى حقي، وينبهه إلى تفعيل هذه التيمة الشعبية الخطيرة، وبالفعل يفعل يحيى حقي، وينشئ فرقة الفنون الشعبية، وتتشعب الدراسات، ويكتب حقي نفسه كتابا تحت عنوان «يا ليل يا عين»، وكان هذا كله بفضل الخطاب الذي أرسله توفيق حنا ليحيى حقي، ويشير عليه بتفعيل هذه الامثولة الشعبية الخالدة، ويستطرد مكاوي في إطراء آخرين، عندما يقول عن عبدالرحمن الأبنودي، وهو الذي وضع مقدمة كتاب «الصمت والكلمات» لتوفيق حنا، فيكتب مكاوي: «تطالعنا في البداية المقدمة المفعمة بالحب والعرفان والوفاء التي صدر بها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي كتاب أستاذه في مدرسة قنا الثانوية، هذا الأستاذ النحيل الحنون الذي تغمر الطيبة المطلقة ملامح وجهه.
ويقول عن يحيى حقي «أستاذنا الأديب الكبير صاحب العصا والقنديل والمثقف العظيم» ثم يكتب عن زكي طليمات «شيخ المخرجين»، وفي هذه الدراسة الطويلة جدا، يكتب مكاوي عن أصدقائه بكل الحب والوفاء، والذي كان يعرف عبدالغفار مكاوي، كان سيلمس هذه الصفات الإنسانية العالية التي كان ينثرها في سلوكه وكتاباته المتعددة، فضلا عن علاقته العميقة بتلاميذه في مصر أو اليمن أو الكويت أو ألمانيا، وفى كل مكان كان يقوم فيه بالتدريس، ولكنه كان ينعي نفسه كثيرا، ويشعر بكثير من الوحدة والعزلة والقنوط والحزن، ويبدو هذا في كثير مما كتب في المرحلة الأخيرة من حياته.
عبدالغفار مكاوي هذه القامة الشامخة، التي كانت جسرا بديعا وقويا بين ثقافة الشرق والغرب، لا تستطيع هذه الكلمات القليلة أن تفيه حقه، فبعيدا عن إبداعاته القصصية والشعرية والمسرحية والفلسفية، فجهده في نقل وترجمة الأدب والفكر الغربي للثقافة العربية، جهد لا يدانى، وهو جهد فردي يشبه جهد مؤسسات بكاملها، بالإضافة إلى كتاباته عن الحرية والاستبداد في العالم القديم والحديث .