العاكفون على شعر شوقي.. مسرحية «عروس فرعون» المنسوبة إلى روحه

العاكفون على شعر شوقي.. مسرحية «عروس فرعون» المنسوبة إلى روحه
        

          لم يُقدّر للشاعر أحمد شوقي الملقّب بـ«أمير الشعراء» أن يطبع جميع أجزاء ديوانه الذي اختار له اسم «الشوقيات» في حياته التي فاضت روحه منها في عام 1932، وقنع بطبع جزء واحد من «الشوقيات»، ثم أعاد طباعته بتقسيمه إلى جزءين، وغادر الدنيا وبقية شعره في ذمّة ولديه. وقد أخبرني الشاعر محمود أبو الوفا أن شوقي أوصى ولديه بأن يعهدا في الإشراف على طباعة أجزاء «الشوقيات» الباقية إلى أبي الوفا نفسه. وكانت بين شوقي وأبي الوفا جفوة بدّدها شوقي بأن أقام حفلاً لتكريم أبي الوفا وحيّاه بقصيدة كان ممّا جاء فيها قوله:

          البلبل الغرد الذي هزّ الربى
                                        وشجى الغصون وحرّك الأوراقا
          سبّاق غايات البيان جرى بلا ساقٍ 
                                        فكيف إذا استردّ الساقا
          لو يطعم الطب الصناع بيانه
                                        أو لو يسيغ لما يقول مذاقا
          غالى بقيمته فلم يصنع له
                                        إلا الجناح محلقًا خفّاقا

          وهو يشير في هذه الأبيات إلى ساق أبي الوفا التي بُترت في يفاعته.

          وتحقيقًا لوصية شوقي، اضطلع أبو الوفا بالإشراف على الجزء الثاني من «الشوقيات»، غير أن الأديب محمد سعيد العريان - وكان له نفوذ لدى المطبعة - انتزع من أبي الوفا هذا التكليف، وأشرف على الأجزاء التالية من «الشوقيات» فاكتملت أجزاء الديوان في أربعة أجزاء.

          واستقرّ في الأفهام أن هذه الأجزاء الأربعة من «الشوقيات» تضم كل شعر شوقي - عدا طبعًا مسرحياته الشعرية - فلا زيادة لمستزيد ولا مجال لأي استدراك.

          ولكن د. محمد صبري الملقب بالسوربوني فاجأ المجتمع الأدبي بكتاب كبير ذي جزءين يشمل 700 صفحة بعنوان «الشوقيات المجهولة»، وأشار في بيان افتتاحي إلى أنه «وجد لشوقي أكثر من مائة وثلاثين قصيدة أو حوالي 4000 بيت من الشعر، وذلك بخلاف حوالي 1000 بيت من المقطوعات والأدبيات المتفرقة، وبخلاف حوالي ستين مقالة أو قطعة نثرية، وكل هذا لم يسبق نشره في دواوين شوقي ومؤلفاته التي طبعت في حياته وبعد مماته. كل هذا التراث بعدما أفرغت أسرته كل ما في جرابها ونشرته.. ولولا أن الله قد وفقنا في العثور على هذا الكنز لظل جزء كبير من شعر شوقي دفينًا إلى الأبد، خصوصًا أن الكثير من قصائده ومقطوعاته كان ينشر في الصحف بلا إمضاء، أو بإمضاء مستعار، وقد كشفنا عن هذا الشعر الأخير المستتر، كما كشفنا عن الشعر الذي كان مطويًا في بطون الصحف والمجلات القديمة، إننا لا ندّعي العصمة في كل ما نسبناه لشوقي من شعر مجهول النسب، ولكن في استطاعتنا أن نؤكد إذا كان هناك خطأ، فإن نسبة الخطأ لا تتجاوز قصائد أو مقطوعات معدودة».

          ثم جاء د. أحمد الحوفي وتناول بدوره شعر شوقي في كتاب ضخم ذي جزءين يقع في نحو 1370 صفحة، واختار له عنوان «ديوان شوقي.. توثيق وتبويب وشرح وتعقيب»، اعتقادًا من د. الحوفي بأن شعر شوقي لم ينشر نشرًا علميًا، وأن «الشوقيات» في حاجة ماسّة إلى رعاية جديدة لتعرضه عرضاً يتلاءم ومكانة شوقي، عرضاً يُعنى بتقسيمه وترتيبه وتنسيقه وتكملته وضبط كثير من مفرداته، وشرح كثير من كلماته، وتصويب ما ورد بالشرح السابق في الطبعة الثانية، والتعقيب على بعض الكلمات والأبيات.

          والحقيقة أن د. الحوفي بذل في خدمة شعر شوقي جهدًا عنيفًا سواء لضبط نصوصه أو لتيسير مهمة الباحثين. فقد ذيّل كل قصيدة بتاريخ نشرها للمرة الأولى، وأوضح مناسبتها، وعرّف بالأعلام الواردة فيها أو الأماكن المشار إليها في أبياتها، كما شرح معاني الألفاظ فرادى، والمعنى المراد من كل بيت على حدة. هذا إلى جانب ما اصطنعه من فهارس مسهبة حسب موضوعات القصائد ومظانها اللغوية، وأنشأ فهارس للأعلام والأجناس والطوائف والقبائل والأماكن والقوافي.

          وبفضل هذا العمل الباذخ الذي اضطلع به د. الحوفي صار في وسع الباحث أن يقع على ضالته في لحظة، وحسبه أن يعرف كلمة واحدة وردت في قصيدة لشوقي لكي يهتدي إلى القصيدة فورًا وبلا عناء.

مجزرة الشوقيات

          وتعرض «الشوقيات» في طبعاته التالية «لمجزرة» فحذفت قصائد بأسرها أو تم اقتضابها وحذفت أبيات منها لأنها تناولت رموز عهد باتوا يسمّونه بالعهد البائد البغيض - وما هو بذلك! - فخرجت «الشوقيات» مشوّهة لا تمثل صاحبها ولا ما توخاه من نظمها. وقد قام د. مصطفى الرفاعي - وهو طبيب - بإحصاء عدد الأبيات التي تعرضت لهذه «المجزرة» فإذا هي 601 من الأبيات، فقام بردّها جميعًا إلى مواضعها في طبعة أصدرها بعنوان «الشوقيات الصحيحة» أي «الشوقيات» كما أراد لها صاحبها أحمد شوقي وليس كما أراد لها الرقباء.

          ولم يسلم شعر شوقي من التزييف على يدي مزيّف محترف اسمه الشاعر محمد مصطفى حمام. كانت جماعة أبولو قد انتخبت الشاعر أحمد شوقي رئيسًا لها، فدعا أعضاء مجلس الإدارة إلى كرمة ابن هانئ احتفاء بهم، ووجه إلى جماعة أبولو بإشراف رائدها د. أحمد زكي أبي شادي قصيدة مطلعها:

          أبولو مرحبًا بك يا أبولو
                                        فإنك من عكاظ الشعر ظل

          وبعد يومين اثنين من هذا اللقاء في كرمة ابن هانئ، فاضت روح شوقي إلى بارئها. وخرج علينا الشاعر مصطفى حمام زاعمًا أن أمير الشعراء استدعاه قبيل وفاته وقال له إنه نادم على الحفاوة بجماعة أبولو، وعلى القصيدة التي وجهها إليها، ثم أملى عليه قصيدة ناقض فيها كل ما جاء في تحيته لأبولو مطلعها - حسب زعم حمام -:

          أبولو ضلّة لك يا أبولو
                                        فإنك من بقايا اللؤم ظل!

          وهذه القصيدة المدسوسة على شوقي لم ترد لا في «الشوقيات» ولا في «الشوقيات المجهولة» ولا في «ديوان شوقي» ولا في «الشوقيات الصحيحة» لأن زيفها واضح ولا يحتاج إلى برهان.

روح شوقي

          وفي عام 1971 طلع علينا د.رءوف عبيد بمسرحية شعرية عنوانها «عروس فرعون» أملتها روح شوقي على وسيطة الإلهام السيدة حرم د. سلامة سعيد في جلسات لتحضير روح شوقي.

          ود. رءوف عبيد هو أستاذ للقانون الجنائي ووكيل لكلية الحقوق بجامعة عين شمس، وعند وفاته في عام 1989، أقامت الكلية حفلاً كبيرًا لتأبينه وأطلقت اسمه على إحدى قاعاتها تكريمًا له واعترافًا بفضله. فهو أستاذ أكاديمي مرموق تنأى سيرته الذاتية عن كل ما يشين. وقد اهتم في سنوات عمره الأخيرة بموضوع «الروح» وأصدر طائفة من الكتب غير قليلة تناولت هذا الموضوع أبرزها كتاب «الإنسان روح لا جسد» الذي تضخم في طبعاته المتتالية حتى أربت صفحات طبعته الأخيرة على ثلاثة آلاف صفحة.

          ويقول د. رءوف عبيد في مقدمته لمسرحية «عروس فرعون» الشعرية: «إذا كنت أقدم إلى القارئ العزيز رواية «عروس فرعون» ومعها هذه الباقة من الشعر والنثر الجديدة التي لم تنشر من قبل - وكلها منسوبة إلى روح شوقي أمير الشعر والشعراء - فإنما أقدم إليه في الوقت نفسه أخطر حقيقة كونية أجمعت عليها الفلسفات العريقة والحديثة في العالم، وهي حقيقة خلود الروح حاملة العقل والشخصية. مَن يصدق أن أمير الشعراء الذي ودّعناه إلى مثواه الأخير في سنة 1932  لم نودّع فيه شيئًا على الإطلاق؟ مَن يصدّق أنه لايزال حيّا يرزق؟ بل إنه الآن أكثر حيوية ممّا كان وأوفر رزقًا وسعادة وأقوى رغبة في الشعر وفي النثر وفي أن يبعث بأشعاره ومشاعره وآرائه ونصائحه وحكمه وأخلاقياته ورواياته ومآثره مما كان في غابر الأيام قبل أن يتحرّر من ردائه الجسدي البالي الذي داراه التراب معنا غير آسف عليه?». ثم مَن يصدّق أن وسيطة مصرية فاضلة قرينة نطاسي بارع يمكنها أن تحقق هذا الاتصال التاريخي بروح أمير الشعراء - وهي مع ذلك ليست شاعرة ولا تريد أن يُنسب هذا الشعر إليها بالرغم مما تبذله في تلقيه من عناء ضخم في المتابعة، يهون إزاءه كل عناء في التأليف».

          كما أملت روح شوقي تسع قصائد في موضوعات معاصرة لظهور روحه وليست معاصرة له في حياته، وقامت الوسيطة بتسجيلها كما تلقتها من روح شوقي.

          أما المسرحية المعنونة بـ«عروس فرعون» فقد جعل لها شوقي مقدمة ثم وجّه أبياتًا في تحية الوسيطة بعنوان «روحي والوسيطة» وأثبت أسماء أبطال المسرحية ومنهم «آمو» فرعون مصر و«نفرين» ملكة مصر و«آرام». الكاهن الأعظم عدا الفيلسوف ورجال قصر فرعون والوصيفات وأيضا شاعر الملك. وكان شوقي دقيقًا في وصف المناظر وكأنما يرتب لتمثيل هذه المسرحية على خشبة المسرح.

          تدور أحداث المسرحية في عهد كان فيه الفرعون «آمو» مولعًا بالانتصارات العسكرية وكان بالتالي يترك زوجته الملكة «نفرين» البارعة الجمال والصغيرة السن تعيش في حالة قلق تنتابها الهواجس بسبب غياب زوجها في الحرب، تاركًا إياها تعاني الفراغ.

          غير أن الملك لم يلبث أن عاد من ميدان الوغى منتصرًا فتصدر قاعته في القصر الملكي مع كبار قادة الجيش والحاشية وأخذ يتباهى بانتصاراته على الخصوم العتاة.

          وابتهاجًا بهذه الانتصارات أقام في القصر حفلا راقصا عزفت فيه الموسيقى مقطوعات منتقاة زيادة في إثارة مشاعر الفرح في نفوس الحاضرين.

          ولكن الملك الذي أدمن الحروب وارتياد ساحات الوغى جلس بعد ذلك مكتئبًا في قاعة العرش وقد استبدت به الرغبة في خوض معمعات القتال. وعندما اقتربت منه زوجته الملكة «نفرين» لكي تسري عنه، أشاح بوجهه عنها قائلاً إن شوقه للنزال أصبح طاغيا، ولابد من العودة إلى ساحة الحرب لردّ الأعداء والقضاء عليهم.

          وفي الفصل الأخير من المسرحية، يعود الملك «آمو» منتصرًا محققًا كل أمنياته لكي يهنأ بعد ذلك بعروسه الشابة وهو يردد:

          سأرعى الأمة حيث أسوس
                                        وهيهات أشعل حربًا ضروس
          سأبقي السلام لأمن النفوس
                                        بهذا سيهنأ قلب العروس

          هذا موجز لمسرحية «عروس فرعون»، ولكن ماذا قال عنها أساتذة الأدب والشعراء؟

          حمل د. رءوف عبيد نص المسرحية إلى عدد من كبار الأدباء استهداء بآرائهم قبل المغامرة بنشرها في كتاب.

          فقال د. إبراهيم أنيس العميد الأسبق لكلية دار العلوم: «لم أكد أفرغ من قراءة بعض هذه الأشعار، لاسيما تلك الملحمة الشعرية الطويلة التي تتألف من أكثر من مائتي بيت والتي عنوانها «هذا نداء الخلد يهتف عاليًا» حتى أحسست من موسيقى الشعر أن فيها بعض الخصائص التي نعرفها عن أمير الشعراء في أوزانه وموسيقاه».

          وقال د. أحمد الحوفي: «بين هذه القصائد وشعر شوقي في حياته بعض ملامح من التقارب، إن في هذه القصائد ملامح من شعر شوقي صياغة وخيالاً ورصانة في القافية».

          وقال د. أحمد الشايب: «أرى أن هذا الشعر فيه روح شوقي التي كنت أتبيّنها وأنا أقرأ شعره الذي صدر عنه في حياته، ذلك فوق ما في شعره الروحي هذا من خصائص فنّه من جزالة أسلوب وشيوع حكم وتبتل إلى الله وحرص على صالح البشر وغضب على الباطل ونزعة وطنية.

          وكأن شوقي في مماته لايزال يحمل رسالة الشعر السامية التي جاهد في سبيلها حيًا».

          وشهد الشاعر العوضي الوكيل بقوله: «إني أتقدم بهذه الشهادة أمام محكمة التاريخ الأدبي، فالأشعار المنسوبة إلى أحمد شوقي تقوم بينها وبين أشعار شوقي في شوقياته بأجزائها المختلفة مشابه كثيرة».

          وقال د. بدوي أحمد طبانة: «هذا الشعر قريب الشبه من شعر شوقي، وفيه من خصائصه الشيء الكثير، إن هذه القصائد تمثل شعر شوقي في حياته، فهي مجتمع خصائصه الفنية في التعبير وفي استلهام المعاني من الخواطر السائرة ومن أحداث التاريخ والذكريات العابرة، ثم طول النفس في تلك القصائد، وهي إحدى الخصائص التي يمتاز بها شعر شوقي المأثور».

          ولكن د. شوقي ضيف أبدى شيئًا من التحفظ في رأيه حيث قال: «أعجبت بما نظمت السيدة الجليلة حرم د. سلامة سعد من أشعار تمثلت فيها روح شوقي الشاعر الكبير، وهي - ولاريب - تمثل شعورًا متدفقًا بأن روح شوقي تراءى لها وتملى عليها».

          أما الشاعر عادل الغضبان فقد شهد «بأن هذا الشعر يحوي معظم خصائص شوقي ولوازمه ويكفينا أن هذه القصائد تسير وشعر شوقي على درب واحد، وإن كانت من نظم سواه، فإنها من نظم شاعر عربي كبير، موهبة فذة، وعمق تفكير، وبلاغة تعبير، وجمال تصوير».

          وشهد الشاعر عزيز أباظة (باشا) بقوله: «هذه الأشعار فيها شاعرية شوقي من ناحية تراكيبها وأفكارها ومستواها في اللغة والشعر، ويعادل بعضها في عمقه الجيد ما في «الشوقيات»، ويعادل بعضها الآخر المتوسط من هذ الشوقيات. وهذا المستوى لا يملك أي شاعر معاصر أن يرقى إليه أو أن يحاول تقليد شوقي فيه، لأن عبقرية شوقي تعصى على التقليد».

          وهناك شهادات أخرى لشعراء وأدباء سجلها د. رءوف عبيد، بالإضافة إلى ما تقدم من شهادات.

          وكنت على علاقة أخوية مع د. رءوف عبيد، بل كان يستعين بي في تنقيح لغة أطروحات الدكتوراه المقدمة من طلاب كلية الحقوق بسبب ضعفهم اللغوي. وعندما رغب إليّ في أن أضيف شهادتي الشخصية إلى شهادات هؤلاء الأعلام، قلت له إن هذه الشهادات فيها ما هو فوق الكفاية، فلا حاجة بك إلى شهادة من صحفي مثلي يتطفل على الأدب ولا يحدوه أي طموح في أن يرقى إلى مصاف هؤلاء الأعلام من أكاديميين وشعراء ونقاد.

 

 

 

وديع فلسطين*