مع الدكتور إبراهيم مدكور اللبنانيون واللغة العربية

مع الدكتور إبراهيم مدكور  اللبنانيون واللغة العربية

قبل ثلاثين عامًا أو أكثر كنت كلما زرت القاهرة أحرص على زيارة مجمع اللغة العربية في الزمالك لأحصل على إصداراته الأخيرة، ولأجري حوارًا مع رئيسه الدكتور إبراهيم مدكور.

ومع الوقت نشأت بيني وبينه مودة مبعثها اهتمامي باللغة العربية وبالفلسفة العربية الإسلامية, التي كان مدكور من فرسانها المجلين، وقد سعد عندما أخبرته بأنني عندما درست مادة الفلسفة في مدرسة اللاييك الفرنسية في بيروت كان كتابه عن أبي نصر الفارابي (منهجه وتطبيقه)، وهو في الأساس أطروحة ماجستير قدمها في جامعة السوربون بباريس سنة 1934، في عداد الكتب التي انتفعتُ بها في تلك المرحلة، ولكن تلك المودة سرعان ما أساء إليها سوء تفاهم بيننا نشأ عندما طرحت عليه في إحدى المرات سؤالا عن «العربية» و«العامية» وعن مستقبل الصراع بينهما. من جملة ما ورد في سؤالي ما يتصل بما يقوله أنصار العامية عن أن اللغة العربية في طريقها إلى الانقراض، وأن الخير كل الخير في العامية التي سترثها، تماما كما ورثت اللهجات الأوربية التي تحولت إلى لغات، أمها اللاتينية.. فلما انتهيت من طرح السؤال لاحظت وجوما على وجهه، رحمه الله، تلاه انفعال أو غضب ترجمه بقوله لي: «ليطرح عليّ كل الناس هذا السؤال إلا صحفي من لبنان. لم يقدّم شعب عربي للغة العربية ما قدمتموه أنتم اللبنانيون. عُد إلى تراث علماء «العربية» عندكم منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا الحالي، تجد أن اللبنانيين كانوا وراء يقظتها ونهضتها الحديثة بعد أن كانت قد انحطّت وتراجعت».
كان الدكتور مدكور يتحدث منفعلا متعجبا مستنكرا, وعبثا حاولت أن أدافع عما سألت على أساس أنني أجري حديثا صحفيا وأنني بالتالي لا أتبنى وجهة نظر «العاميين». فقناعاتي الذاتية راسخة حول قدرة اللغة العربية على التجدد وعلى التكلم بلغة العصر والعلم تماما كما كانت في عصورها الذهبية. ثم إن من طبيعة الحوار الصحفي أن يتضمن ما يثير وما يفجر القضايا. ولكن كل ذلك لم ينفع وظل الدكتور يردد أنه لا مانع من أن يطرح عليه كل الناس هذا السؤال ما عدا اللبنانيين. فلبنان عنده مرادف للعربية ورعايتها وتحديثها. وإذا وجد من يشك بقدرتها على البقاء فهذا شأنه وهذا ما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وعندما هدأ قليلا طلب مني أن أعود، عندما أرجع إلى لبنان، إلى ذاك التراث اللبناني الخالد في خدمة العربية، وهو متأكد أنني بعدها لن أطرح عليه سؤالا عن العامية ومستقبلها، وعن العربية وانقراضها.
والواقع أنني لم أكن بحاجة إلى الاطلاع على تاريخ الحركة اللغوية في لبنان، فهذا التاريخ كنت أعرفه جيدا. فإذا كانت الثقافة هي جوهر ما قدمه اللبنانيون للنهضة العربية الحديثة، كما يقول الدكتور نبيه أمين فارس، فإن من أهم ما قدموه في هذاالإطار هو مالا يحصى من المعاجم والقواميس ودوائر المعارف وكتب القواعد، والتأليف في علوم اللغة، ونشر المخطوطات اللغوية، ووضع الألفاظ، والكتابة في النقد اللغوي، إلى غير ذلك مما يعين أم اللغات في يقظتها من رقاد عصور الانحطاط. وقد بلغ من اهتمام اللبنانيين بالعربية حد انصراف أسر بكاملها إلى خدمتها. فإذا ذكرنا مثلا أسرة البستاني، تداعى إلى الذهن أسماء العشرات من أفرادها الذين تخصصوا في العربية تأليفا وتدريسا. وهناك أسر كثيرة تبارت أو تنافست في خدمة العربية, مثل اليازجي والمعلوف والشرتوني والغلاييني والشدياق والأسير وعطية وهمام. بل إن لبنان كله كان ورشة لغة عربية، كما كان النصارى بالذات في صلب هذه الورشة. استمر ذلك إلى وقت قريب قبل صعود نجم «الفيسبوك» وما إليه. فها هو المفكر منح الصلح يقول خلال الحرب اللبنانية وهو يلاحظ سلامة لغة الصحافة والإعلام في المنطقة الشرقية من بيروت ذات الطابع المسيحي: «العربية في الشرقية والعروبة في الغربية».
وإلى وقت قريب، كان الشاعر أمين نخلة يقول في قصيدة له: 
أستغفر الإنجيل إن قصيدتي
عربية كالشمس وهو معرّب
وبلغ الأمر بالشاعر القروي رشيد سليم الخوري حدّ القول في قصيدة له: 
شغلت قلبي بحب المصطفى وغدت 
عروبتي مثلي الأعلى وإسلامي
ولكن على الرغم من هذا التاريخ المشرف للبنان في خدمة العربية، وجد فيه، كما وجد في مصر وسواها من البلاد العربية، من دعا إلى العامية والحرف اللاتيني. وهذا ما كان يعرفه بالطبع الأستاذ الجليل د.إبراهيم مدكور، ولكنه لم يكن مستعدا لسماعه من زائر لبناني، إذ خيل إليه أنه ينقض هذا التاريخ أو يسيء إليه .