نحو منهج جديد في قراءة شعرنا العربي القديم

نحو منهج جديد في قراءة شعرنا العربي القديم

لماذا نعود إلى دراسة الشعر العربي القديم دراسة نقدية بعد قرون من إبداعه, يصل بعضها إلى ما يزيد على خمسة عشر قرنا؟ وكيف يمكن أن تسهم دراسة كهذه في بلورة مبادئ فكرية مكوِّنة لبُنْية ثقافية عربية معاصرة حديثة في مجالي الإبداع الشعري والكتابة النقدية؟

لعل تأكيد العلاقة الحتمية بين الإبداع المعاصر والتراث الشعري يُعدّ من أهم المبادئ التي قامت عليها الحركة الشعرية الحديثة في الغرب بعد أن نفت الحركة الرومنطيقية في الشعر والنقد تلك العلاقة، فعرّفت الإبداع بالذاتية وأنكرت مرجعية التقاليد الشعرية. وساد الموقف الرومنطيقي هذا في النظريات النقدية زمنا طويلا حتى بعد أفول الحركة الشعرية الرومنطيقية.
وإذا صحّ الافتراض بأن النظريات المحورية في تاريخ الأدب الغربي حتى العصر الحديث يمكن أن تحدد بثلاث نظريات أساسية: الأولى هي نظرية المحاكاة التي اكتملت صيغتها النقدية مع أرسطو وظلت سائدة حتى القرن الثامن عشر، وتمثلت إبداعيًا في ما عرف بالشعر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي؛ والثانية نظرية الخلق العضوي التي أطلقها النقاد والفلاسفة الرومنطيقيون الألمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وعلى رأسهم شيللر وشيلنغ وشليغل وجوته، وترسّخت في الكتابات النقدية للشاعر والناقد الإنجليزي ساميويل تايلور كولريدج، وعبّرت عن نفسها في الأدب والشعر الرومنطيقيين؛ والثالثة نظرية الخلق من عدم، التي غرس بذورها الأولى عدد من المفكرين الإيطاليين في عصر النهضة مثل كريستوفورو لاندينو وسكاليجر، وأثمرت في الحركة السريالية الفرنسية فكانت من أبرز مبادئها في النظرية والإبداع؛ فإن التحوّل النوعي الجوهري والجذري في الحساسية الفنية والأدبية الذي اصطُلح على تسميته بالحداثة في الأدب والنقد يمكن أن يُعدّ نظرية أساسية رابعة تفتح صفحة جديدة في مسار التاريخ الأدبي، يمكن أن ندعوها نظرية «التقاليد الشعرية» التي أكّدت الإبداع من ضمن تلك التقاليد، وعمّقت الوعي مجددًا بالأجناس الأدبية وحوّلت التراث الأدبي كلًّا متكاملًا. 

تحول فكري خطير
إن هذا التحوّل الفكري والفني الخطير الأهمية الذي تجسّد في وعي تراثي عميق تُلمس بوادره منذ مطلع القرن العشرين في الكتابات النقدية للشاعر والناقد الإنجليزي تي إي هيوم، تبلور بصيغة ناضجة في النظرات الثاقبة التي عبّر عنها تي إس إليوت، وبخاصة في مقالته الذائعة الصيت: «التراث والموهبة الفردية»، حيث يذهب إلى أن علاقة الشاعر بتراثه تتمثل في «الحسّ التاريخي» الذي يلزم الشاعر – وهو يقصد الشاعر الغربي المعاصر - بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب أوربا بأسره منذ هوميروس، ومن ضمنه أدب بلاده كله، موجود بشكل متزامن ويؤلف نظاما متزامنا. وقد استنتج إليوت مبدأ نقديا عظيم الدلالة فتح آفاقا جديدة تحوّلت بالنقد الأدبي إلى مسار المنهجية، وذلك بنظرته إلى التراث الأدبي والفني القومي بما هو نظام متكامل وحيّ. فقد رأى أن «ما يحدث عند إبداع عمل فني جديد يحدث بشكل متزامن للأعمال الفنية كافة التي سبقته، فالأعمال الفنية القائمة تشكل نظامًا مثاليًا في ما بينها يتغيّر بدخول العمل الفني الجديد إليها... إن الماضي يجب أن يبدّله الحاضر، كما أن الحاضر يوجِّهُه الماضي». 
هذه النظرة الكلية إلى الأدب المتميّزة بإدراك الأعمال الأدبية المبدَعة في إطار ثقافة معيّنة بصيغة متزامنة تكتشف ما بينها من صلات تجعل منها نظامًا متكاملًا، كانت مرتكزًا أساسيًّا من مرتكزات النقد الغربي الحديث، ولاسيما في منهجَيْه الأسطوري والبنيوي، تحوّل به إلى دراسة منهجيّة بعد أن كانت تغلب عليه الانطباعية والأحكام القِيمية. ذلك أن إدراك العلاقات التي تربط الأعمال الأدبية بعضها بالبعض الآخر، وهي أعمال كانت تبدو في الدراسات النقدية التقليدية متناثرة عبر المكان والزمان والاتجاهات والمذاهب، جعل الأدب حقلًا دراسيًّا موحّدًا وكاملًا، يمكن أن يُتناول بنظرة شاملة وأن تُستنتج نظرية تستند إلى تكامله. وقد حددّ نورثروب فراي، الناقد الكندي الشهير الذي أرسى دعائم ما عُرف بالنقد الأسطوري أو النقد النموذجي الأصلي، وظيفة النقد بأنها «صياغة نظرية متكاملة وشاملة منظّمة تنظيمًا علميًّا ومنطقيًّا»، تدرس الأدب بما هو كلٌ متكامل وشامل كما يدرس علمُ الفيزياء الطبيعة. 

مسح استقرائي
وأكدّ فراي أن النظرية الأدبية يجب أن تطوِّر إطارًا مفهوميًّا يُستمدّ من مسح استقرائي للحقل الأدبي بأسره، وهو حقل موحَّد ومتكامل، تتلاقح نماذجه وتتوالد. فالشعر، وفق قوله، يُبدع من الشعر والقصة تُبدع من القصة. وقد شكّلت النظرية النقدية التي طوّرها فراي، باكتمالها المنهجي وعمقها الفكري وصياغتها الدلالية المنطقية المُحكَمة، الضربةَ القاضية التي وُجِّهت إلى الفكر النقدي الرومنطيقي الذي ساد الثقافة الغربية طوال ما يزيد على قرنين من الزمن، وثبّته نقاد ومفكرون عظام من كولريدج إلى آي. إ. ريتشاردز. وأصبحت المبادئ النقدية التي أرساها فراي حجر الزاوية في بُنْية نقد أدبي جديد أبرز التقاليدَ الشعرية بما هي عماد العمليّة الإبداعيّة، فتراجعت المبادئ التي نادى بها النقاد الرومنطيقيون مثل: الذاتية والخلق والإبداع الفردي، مبادئ اتخذت على أيديهم وحتى في ما بعدهم وإلى مطلع القرن العشرين في الغرب، وإلى زمن ليس بالبعيد عن أيامنا هذه في النقد العربي، صيغةَ الحقائق المطلقة. وكان تعريف نوثروب فراي الرمزَ بأنه النموذج الأصلي القابل للإيصال، لكونه إنسانيًا ومتكرّرًا وتقليديًا، الردّ الحقيقي الفعّال على الفكر الرومنطيقي الذي عرّف الرمز بالمطلق الذي لا يُطال، ووضعه خارج نطاق الفكر والإدراك الإنسانيين، فخلق عالما مثاليًا غريبًا مستقلًا بذاته تمام الاستقلال. 
وفي الإطار نفسه كان هدف النقد البنيوي وضع نظرية في فن الشعر تتشكل بمسح للحقل الأدبي يقوم على أساس فرضية استنتاجية مجهّزة بقوانين علم اللسانيات ومناهج عمله، تتناول الأدب بما هو نظام متماسك ومتكامل، لاستخلاص نظرية تحدد الخصائص المتميّزة للخطاب الأدبي بكلّيته وتتجاوز الأعمالَ الأدبية الموجودة إلى الأعمال المفترضة التي يتمّ إبداعها في إطار ذلك النظام، فتأتي منسجمة مع قوانينه. في هذه النظرية أيضا يبرز دور التقاليد الشعرية من حيث هي الإطار المرجعي لكل إبداع جديد، وفي كون تلك التقاليد سبيل إدراك دلالاته المتميّزة والمتكثّرة. وتغدو اللغة أساس العملية الإبداعية، ويتراجع دور المؤلف من حيث كونه مصدر العمل الأدبي؛ فاللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف على حدّ تعبير الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت. هنا أيضا يكون العمل الأدبي قابلا للإيصال، يتلقاه كل من أدرك الشروط الخاصة بقراءة الأدب من حيث هو أدب، واستوعب القوانين أو التقاليد المكوّنة للنظام الأدبي، فامتلك العدّة لأن يحوّل جمل اللغة العادية إلى أبنية ومعان أدبية متميّزة عن البُنْية اللغوية العادية، وعن المعاني المعجمية المباشرة. بهذا المعنى رأى البنيويون أن القصيدة تستمدّ معناها من النظام الشعري العام كما تكتسب الجملة الواحدة معناها من النظام اللغوي.

بين التراث القومي والنقد الأدبي
في هذا المنظور النقدي يتحوّل التراث القومي كلًا متكاملًا، ويتحوّل النقد الأدبي من إبداء ملاحظات غالبًا ما تتخذ صيغة الأحكام الذوقيّة على أعمال أدبيّة مفردة، إلى دراسة منهجيّة للأدب تتناوله بما هو نظام متكامل وليس مجموعة نماذج متفرقة لا تخضع لمنطق ولا يحيط بها إطار مفهومي. ويصبح النقد الأدبي فرعًا دراسيًّا قائمًا بذاته مثل العلوم الإنسانية الأخرى، ويغدو الأدب موضع دراسة وليس موضوعا للدراسة على حدّ تعبير نورثروب فراي.
لعل هذا الإطار المفهومي يقدّم إجابة عن السؤالين اللذين طرحناهما في مستهل هذه المقالة، ويشكل القاعدة الصلبة لعمل نقدي شاق لم يباشَر بصورة منهجية وجدّية بعد عند الباحثين والنقاد العرب بصورة عامة، هو دراسة تراثنا الشعري العربي دراسة نقدية متأنية للوصول إلى صياغة نظرية منهجية لدراسة الشعر العربي واستنتاج خصائصه كما تُدرس اللغة بما هي كيان ثقافي وحضاري حي لاستخلاص مبادئها العامة أو علم نحوها. 
وإذا كانت النظريات الأدبية الغربية الأساسية الثلاث – المحاكاة والخلق العضوي والخلق من عدم – غريبة تمامًا عن الأدب العربي القديم إبداعًا ونقدًا، ولطالما كان استلهامها أو تطبيقها من قبل الدارسين المحدثين خطأ منهجيًا وفكريًا أساء إساءات بالغة الخطورة إلى تراثنا الأدبي والشعري، فإن نظرية التقاليد الشعرية في خطوطها الأساسية العامة، تبدو مفيدة لإدراك طبيعة الإبداع الشعري العربي في خصوصيته التعبيرية، وتوفّر الإطار المنهجي لدراسة الأدب العربي على نحو شمولي لاستنتاج نظرية تحدد المبادئ الأساسية لنظام شعري عربي يشكل مرجعا لكل إبداع شعري عربي معاصر ويرسم إطارا عاما لكل قراءة نقدية جديدة للشعر العربي، قديمه وحديثه. 

دراسات لم تبلور الوعي بالشعر
وترى هذه الكاتبة أن تراثنا الشعري لم ينل بعد ما يستحق من الدراسة الجدية. فالكم الهائل المتراكم من الكتب والأبحاث التي أُلّفت فيه منذ قرن من الزمن أو يزيد، في الشرق والغرب على حدّ سواء، لم تصل حقا إلى بلورة الوعي بهذا الشعر من حيث كونه تراثًا فنّيًا مازال مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات الوعي الثقافي للإنسان العربي في عصرنا الحاضر، وعنصرًا حيويًّا من عناصر تراثنا الحضاري. فلم تتح لهذا الشعر، خصوصًا في بداياته التي اصطلح على تسميتها بالشعر الجاهلي، فرص الدراسة المنهجية والجدّية المتأنية التي أتيحت لغيره من الأعمال الأدبية العظيمة والعريقة في التراث الإنساني، كشعر الملاحم الإغريقية والشعر اللاتيني والأساطير القديمة على سبيل المثال، وهو لا يضاهيها في دلالاته الإنسانية العميقة العابرة للزمان والمكان فحسب، بل إنه يتميّز عنها بكونه إبداعًا فنّيًا رائعًا في لغة مازالت حيّة فاعلة حتى اليوم، لغة ثقافة وعلم وإبداع للملايين من البشر، وهي حالة ينفرد بها ما وصلنا من هذا الشعر العربي الذي أبدع أقدمه منذ ما يزيد على الألف وخمسمائة سنة في لغة لاتزال لغة العرب اليوم. 
إن التوجّه الذي ساد الدراسات الأدبية العديدة التي تناولت الشعر الجاهلي مثلا، أدى إلى ترسيخ الاعتقاد بأن ذلك الشعر نتاج بدائي ينتمي إلى ماضٍ بعيد وغريب عن عالمنا، وكأنه لا يعنينا في زمننا هذا. فالمنهج الغالب على الدراسة الأدبية والبحوث النقدية العربية يفصح أو يوحي، بأن الشعر الجاهلي تعبير عن ذاتية الشاعر أو هو انعكاس لأحداث واقعية عاشها فعلا في ذلك الزمن البعيد. والنتيجة المنطقية لهذا المنهج هي النظر إلى الشعر الجاهلي على أنه صورة لوقائع حياة مجموعة من البدو في شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، وهي حياة تبدو كأنها ساذجة ورتيبة ومنمّطة في صور مقنّنة ينقلها شاعر عن الآخر، يقفون فيها على الأطلال الدارسة ويصِفون الصحراء وحيوانها والارتحال والنساء والنياق والخيل والصيد والحرب وسوى ذلك من شئون حياتهم الواقعية اليومية وعناصرها وأدواتها. هذا المنهج الساذج أدى إلى تحويل الشعر الجاهلي إلى شبه وثيقة تاريخيّة لا تهمّ غير علماء الأنثروبولوجيا أو الباحثين في التاريخ القديم. فالمنهج ينكر، ضمنا، أن الشعر فنّ في المحل الأول، وأن الفن ليس هو الواقع، كما أنه ليس انعكاسًا مباشرا له، ويتغاضى عن خصوصية اللغة الشعرية، وهي لغة رمزية بالضرورة، تتميّز عن لغة الخطاب العادي وتُعرّف بكونها لا تنقل معاني معجمية مباشرة، بل هي حمّالة دلالات متعددة ومتكثرة ومتحوّلة، وينكر الطبيعة المتميّزة للبنية الشعرية، وهي بنية فنّية قائمة بذاتها تستند إلى قواعدها الخاصة لتعيد صياغة الواقع بشروطها، فلا تنقله وإن لم تغترب عنه. ولا يعترف هذا المنهج بزمنية الشعر، أي بإيقاعه الزمني الذاتي غير المسترسل كالزمن العادي، بل الخاضع لمنطق العمل الشعري ذاته وللرؤية التي يعبّر عنها.   
إن من يدرك كون ذلك المنهج السائد في دراسة الشعر الجاهلي، بل في دراسة التراث الشعري العربي بأسره بصورة عامة، قد أدّى بالدراسة الأدبية وبالنقد الأدبي اللذين يتناولان ذلك التراث العظيم، للوصول إلى طريق مسدودة وأساء إساءات خطيرة إلى تراثنا الشعري، يصل إلى القناعة بضرورة تحويل مسار الدراسة الأدبية العربية في اتجاهات جديدة تهدف إلى إبراز أهمية ذلك الشعر بما هو عمل فني، وزيادة الوعي به، وتفجير طاقاته الإيحائية، وجلاء دلالاته المتوالدة والمتكثرة، وإثبات اندماجه في تراث حضاري حي ذي وجهين: قومي وإنساني، لايزال فاعلا في حياتنا الثقافية المعاصرة.

منهج جديد
فلا بدّ من إرساء قواعد لوضع منهج جديد في دراسة الشعر العربي يتناول هذا الشعر من حيث هو تعبير رمزي، ويحلل القصيدة من حيث هي لحظة في تراث شعري، ليس لها معنى واحد ثابت، بل تؤلف كونا من الدلالات المتفجّرة، والمنبثقة، والمتكررة، والمستمدّة من تراث كالبحر الصاخبة أمواجه، تنطوي كل نقطة فيه على سرّ كيانه. إن دراسة كهذه تفتّق في العمل الشعري إمكانات لن تجلوها معالجته من حيث كونه تعبيرا عن ذاتية الشاعر الفرد أو وثيقة تاريخية تسجّل أحداثا حقيقية عاشها في الواقع. فهذا المنهج في إعادة قراءة شعرنا العربي القديم بنظرة جديدة يُبرز تنوّع الدلالات الرمزية والأسطورية الثرية في اللغة الشعرية، ويجلو ما ينطوي عليه ذلك الشعر من نماذج أصليّة ذات أبعاد إنسانيّة تحلّه الموضع الذي يستحق في تراث شعري وثقافي عربي حي، ومتنامٍ، وفاعل في حياتنا الفكرية والأدبية المعاصرة. كما أنها تحفظ مكانته في التراث الشعري والأدبي العالمي بما هو تعبير فني عن حقائق إنسانية حيّة في اللاوعي الثقافي، وإن اصطبغت بخصوصية حضارية وتاريخية حتمية وطبيعية، بل هي ضرورية ولازمة. تلك الخصوصية تزيده توهّجًا وحضورًا في بيئته الثقافيّة القوميّة، وتحفظ مكانته وتحافظ على مكانه في تراث عالمي يغتني بتكثّر عناصره وتنوّعها الخلّاق.    
من هنا فإن المهمة الملقاة على عاتق نقدنا الأدبي اليوم مهمة صعبة وخطيرة، تنطوي على مغامرة جريئة، ولا تخلو من مخاطر الزلل. لكن الخوض في غمارها أمر حتمي لمن أدرك أنه ليس من حداثة من دون تراث، وأن علاقة أمة ما بتراثها هي وعيها لحضورها في الماضي، ولحضور ماضيها في الحاضر، ولحتمية استمراره في المستقبل. لذلك يتحتّم علينا بناء منهج نقدي عربي حديث يعمِّق حسّ الإنسان العربي بتراثه، فيدرك أن الأمة العربية لن تحقّق نهضة ثقافية حديثة في هذا العصر ما لم تصل إلى وعي تراثها الثقافي والفني بإعادة إحياء ذلك التراث. فالتراث ليس هو الماضي الذي مضى وانقضى. إنه، على حدّ تعبير تي إس إليوت، يتضمّن، أساسًا، الحسّ التاريخي الذي ينطوي على إدراك نافذ ليس لماضَوِيّة الماضي فحسب بل لحضوره. هذا الحسّ التاريخي هو حسّ بالسرمدي، وهو حسّ بالزمني أيضًا، كما أنه حسّ بالسرمدي وبالزمني معًا؛ وهو في الوقت نفسه ما يجعل الكاتب اليوم يعي وعيًا حادًا مكانه في الزمن، أي كونه معاصرًا .