الشاعر والمؤرخ أحمد البشر الرومي

الشاعر والمؤرخ أحمد البشر الرومي

أحمد البشر الرومي أستاذي في المدرسة الشرقية (1940 - 1941) كلما تذكرته عدت إلى سنوات الدراسة، حيث كنت أراه يقف كالطود شامخا في محراب العلم ليدرّس لنا مادة التاريخ. لم يكن مجرد معلم يلقن الطلاب مواد تختزنها الذاكرة وتُنسَى بعد الامتحانات. وإنما موسوعة علمية، فهو يحدثك في الأدب وتاريخ الشعوب والبلدان وسير المؤرخين العرب وعصر الفتوحات، ثم يفتح أمامك نوافذ جديدة نطل منها على أهل الأدب والفكر وشعراء الجزيرة العربية والأندلس وشعراء النهضة.

مازلت أذكر حين حدثنا عن الأدب الأندلسي يضع أمامنا هذا التاريخ بكل ما فيه من معرفة واطلاع ويتدفق كالجدول الرقراق في سرد أعلام الشعر الأندلسي وجمال غنائياته وخاصة الموشحات ويذكر الكتب  التي تتحدث عن الأدب في الأندلس ونحن نصغي إليه بكل جوارحنا.. ثم يقرأ لنا بعضًا من قصائد شاعرها ووزيرها أحمد بن عبدالله بن غالب ابن زيدون وينشد القصيدة وملامح وجهه تبدو عليها سمات الحسرة والحزن:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
ويظل صوت أستاذي الرومي يتردد في خاطري حتى سافرت إلى إنجلترا وأنا أتذكر دروسه عن تاريخ الأندلس، ويسكن مشاعري وأفكاري صوته وهو يحدثنا عن الشعر وقصص العرب في هذا البلد الجـمـيل، ولــذلك قررت في عام 1960 أن أزور الأندلس عن طريق البحر.
وسافرت إلى الأندلس أطوف في رحاب حضارتها وقصورها الإسلامية وأرى النقوش والزخرفات، وصوت البشر يتردد في أحاسيسي يقرأ قصائد ابن زيدون وتفر دمعة من عيني لا أدري هل دمعة حزن على رحيل أستاذي وذكرياته؟ أم دمعة أسى على خروج العرب من الأندلس؟

رجل التنوير
كان أحمد البشر الرومي رجل التــنوير والفكر والحر يحلم بأن تنهض الكـــويت وتمــــضي في درب العلم والمعرفة، فدعا إلى تعلــــيم المرأة وفتح المدارس ومنح الفرص لأبناء الكويت لدراسة العلوم الحديثة واللغات الأجنبية.
وقد وقف ضد الفكر التقليدي لبعض المصلحين والوعاظ الذين كانوا يرفضون المدارس التي يدرس فيها الطلاب اللغات الأجنبية وعلوم العصر من الجغرافيا والهندسة والتاريخ، بل إنهم دعوا إلى مقاطعة الصحف العربية والكتب التي ترد إلى الكويت بحجة أنها تحمل نوعًا من الكفر والإلحاد، ولذلك كتب البشر عن الصحف وقال:
إن للصحـــف بقــــلبي
منزلاً حيُّوا نزولَهْ
إنما الصحف كطير
يشتهي الحر هديلَهْ
كل مَن شاء رقيًا
صَيَّر الصحف سبيلَهْ
فهي خير حياة
وهي للعلم وسيلَةْ
وحين دعا الشيخ عبدالعزيز الرشيد إلى نهضة الكويت من خلال الاهتمام بالتعليم وعدم الاقتصار على القراءة والحساب والفقه، مبينا أن هناك علوما جديدة مثل اللغات الأجنبية لابد من تدريسها في مدارس الكويت، ثار المتعصبون ضده وخاف بعض البسطاء على أولادهم من العلوم الحديثة، فدعا هؤلاء المتزمتون إلى إهدار دم العلامة عبدالعزيز الرشيد، ولكن البشر ورجال العلم والفكر في الكويت وقفوا مع الرشيد حتى كانت المدرسة الأحمدية عام 1921م تستقبل نور العلم ويدرس الطلاب كل ما هو جديد في نهضة الأمم.
وكتب البشر قصيدة شهيرة يدعو فيها إلى أهمية العلم ورفض الفكر السقيم والانفتاح على العالم بدراسة كل العلوم، فيقول:
سال دمع العين مني وانسكبْ
من تواني قومنا عمّا وجَبْ
وجب اليوم عليكم سادتي
أن تمدُّوا للعلا خير سببْ
والعلا ليس له من سبب
موصلٍ غير علوم تنتخب
فانفضوا عنكم جمودًا مُهْلكًا
واطلبوا العلم وجدُّوا في الطلبْ
خاب شعبٌ قد تردّى كسلاً
وجمودًا يا بني قومي وتبْ

طموحات كبيرة
لا شك في أن البشر توافرت له ثقافة أدبية عميقة وخبرة بتجارب الشعوب ونهضة الأمم وسبل التقدم والرقي في العلم، من خلال اطلاعه على كتب التاريخ القديم والحديث وعشقه للتراث الذي ساهم فيه بموسوعة الأمثال الشعبية، فقد حفظ في طفولته القرآن الكريم، وكذلك كانت تسكنه طموحات كبيرة عن حرية الفكر وتعليم المرأة والنهضة الأدبية للكويت والاهتمام بإعداد الشخصية الكويتية والتركيز على الآداب والفنون والتاريخ والتراث العربي الأصيل ورفض اتباع الآخرين والدعوة إلى الإبداع والتأليف والوحدة الوطنية والقومية وعدم الخضوع للتيارات أو المذاهب شديدة التطرف وصياغة وجدان الشباب بالقيم الأخلاقية وعادات القراءة والبحث وتعميق الانتماء الوطني للكويت، من خلال تشجيع الطلاب على الدراسات العليا والدكتوراه عن تراث الأجداد ورؤيتهم للمستقبل والارتباط بالشعوب ثقافيا وفكريا دون أن نفقد أصولنا العميقة.
وقد استطاع البشر أن يحقق بعضًا من هذه الأهداف في مسيرة حياته ومع طلابه الذين أصبحوا في ما بعد قادة وروادًا في الكويت يتذكرون هذه المواقف من معلمهم ويتمنون أن تكون كل دار علم أو مؤسسة تعليمية تتميز برجال علم مثل البشر.

ذكريات البدايات
وأذكر أن هناك أسبابا ومواقف كثيرة ساهمت في نبوغه الفكري، منها تعرفه على نخبة كبيرة من العلماء والشعراء والأدباء منذ بداية تفتح وعيه وارتباطه بالشاعر صقر الشبيب، وقد تحدث لنا عن هذه الذكريات وقال: «كان بيت الشاعر صقر الشبيب قرب منزلنا، فكنت أذهب إليه أقرأ له عن الشعراء وسير حياتهم، مثل ديوان أبي تمام والبحتري ولزوميات المعري والمتنبي وابن الرومي، وكنت أشعر بالدهشة أمام هذا الشاعر العملاق كفيف البصر، ولكنه يملك قدرة على حفظ دواوين من الشعر ودراية بحياة الشعراء، سواء من العصر الجاهلي أو الإسلامي أو الحديث مثل أحمد شوقي والزهاوي والرصافي وحافظ إبراهيم والبارودي وكذلك مؤلفات المنفلوطي والرافعي.
وأذهلني هذا الشاعر وتأثرت به كثيرًا، حتى وجدتني دون أن أدري أحفظ الآلاف من النصوص الشعرية لهؤلاء الشعراء القدامى والمحدثين. ومن هنا بدأت في كتابة الشعر والاهتمام بتراجم الشعراء، وكان كتابي عن حياة «صقر الشبيب» من أهم الكتب التي أنجزتها لحفظ تراث هذا الشاعر الكبير (شاعر الكويت).
وتعلمت في حضور صقر الشبيب كيف أقرأ وكيف أثقف نفسي، فقد شاهدت كثيرًا من علماء وأدباء تلك الفترة في ضيافته يتحدثون عن أهم القضايا السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة، وكانت لهم دراية كبيرة بكتب الفلسفة وآراء الفلاسفة والأدباء والمفكرين، وكان هذا النور هو بداية طريقي مع الأدب والشعر والتاريخ والتراث».
ومن سمات أحمد البشر الرومي الثقافية اهتمامه بالتدوين والتسجيل، فقد سمع في بيت صقر الشبيب أقوالاً وكلمات وأمثالاً وحكايات، وقرأ في الكتب والمخطوطات عن أحداث كثيرة، فقرر أن يكتبها ليقرأها في ما بعد.
وبدأ يولي اهتمامًا بالأمثال الشعبية الكويتية وما يقابلها بالعربية، حتى استطاع أن ينجز كتابًا  بأجزائه الأربعة وهو «الأمثال الكويتية المقارنة»، الذي احتوى على ما يقرب من سبعة آلاف من هذه الأمثال التي جمعها من أفواه الناس وأحاديثهم اليومية في الأسواق وفي الديـــوانيات والمــــنـــاســبـــــات والاحــتـــــفالات الشعبـــيــة ومــن خلال مكــتـــبــته الكـــــبرى الثرية بالمخـــطـــوطـــات والكـــتب القديمة والقصص، ويقول:
إن اهـــتمامي بالأمثال الشعبية يـــكــــــشف عـــن صورة لوجدان أهل الكويت وما يتميزون به من أخلاق كريمة وعادات طيبة متوارثة عن الآباء والأجداد، فكان ضروريًا أن أوثق هذا النبع الثقافي حتى لا ينسى.
ولذلك، حين تقرأ كتاب البشر في هذه الأمثال الشعبية تجدها جميعا تعبر عن القيم الأخلاقية التي كانت سائدة وتحث على الوفاء والأمانة والتعاون وإغاثة الجار واحترام الآخرين والتقرب إلى الله بالخير والعمل الصالح. ولاشك في أن كل هذه الأمثال تصور عالماً كان يحياه أهل الكويت بين تجارة اللؤلؤ والصيد والرعي في الصحراء، والوقوف ضد عواصف الطبيعة والكوارث التي أصابت البلاد قديما.
وأعتقد أن كتابه عن الأمثال يعد نبعا ثريا الآن لدراسة السمات الاجتماعية والثقافية للمجتمع الكويتي خلال فترة تاريخية معينة، كما أنه مرجع للكثير من الدراسات الأكاديمية التي تختص بالأدب الشعبي وفنونه.
كذلك لابد أن نذكر كتابه «معجم المصطلحات البحرية في الكويت»، الذي استمد مادته من خلال تجربته مع الغوص والسفر والصيد، حيث اقترب من عالم الغواصين في تجارة اللؤلؤ حين اشتغل في هذه المهنة، وهو مازال في السابعة عشرة من عمره، فاستطاع أن يوثق أغانيهم وأدواتهم وعاداتهم البحرية، فكشف بذلك عن عالم البحر وأسراره، فكان كتابه هذا فتحا جديدا في ثقافة البحر والصيادين، وتجربة تعلم منها في حياته معنى الصبر وحكمة البحر وحزن البحارة.

في مجلة البعثة
وللبشر مقالات كثيرة نشرت في مجلة البعثة التي كان يصدرها بيت الكويت في القاهرة، ومقالات أخرى نشرها في الصحف الكويتية، تحدث فيها عن أهمية التراث الكويتي والخليجي، ولذلك ساهم في تأسيس مركز الفنون الشعبية بالكويت، ودعا في مقالاته أيضا إلى تثقيف الشباب وتهيئة البيئة لنهضة علمية بتوفير المكتبات العامة وتشجيع المسابقات الإبداعية والاطلاع على آداب وفنون الشعوب وفتح أبواب النشر والتعبير أمام الجيل الجديد. وتحدث عن بعض الشعراء القدامى، مثل ابن عريعر ومنطقة كاظمة في التاريخ ومواقف الرجال في الدفاع عن الوطن وكيف كان أهل الكويت يتحدون جميعًا أمام الأخطار والغزوات، وهذه المقالات صدرت في كتابه «مقالات عن الكويت» عام 1966.
وللبشر مكتبة ضخمة أوصى بإهدائها إلى وزارة التربية تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب في شتى فنون المعارف من التاريخ القديم والحديث والأدب والشعر والفلسفة والمنطق والاقتصاد والموسوعات العلمية والثقافية بالإضافة إلى المخطوطات القديمة عن البحر والصيد والتجارة والمراجع والرسائل ودفاتر حسابات التجار ونواخذة الغوص والسفر، وزوّد المكتبة بجهاز (ميكروفيلم) لعرض الكتب القديمة والمخطوطات التي يدرسها ويحقق فيها، ومنها مخطوطة عن الألعاب الشعبية الكويتية وأخرى عن السفن وأجزائها وأدواتها وتاريخ صنعها وبدايتها بالكويت، هذا إلى جانب تسجيلات لأول مطرب بالكويت وهو يوسف البكر. والبشر يعد من الأوائل في كتابة المذكرات الشخصية عام 1939م ويجب أن أتوقف عند قصيدته «سال دمع العين»، التي يكشف فيها عن وجوه الدجالين وتجار الدين الذين يرفضون العلم الحديث ويكرهون التطور والتقدم، بحجة أنه مفسدة للناس والبلاد ونلاحظ مدى صدق هذه القصيدة وكأنها كتبت اليوم.
لا تميلوا نحو دجالٍ غدا
باسم دين لله يحوي للذهبْ
أنعموا الأفكار في تدجيلهِ
تُبصروا تقواه زورًا وكذب
ليس بين العلم والدين كما
قاله الدجال بون منشعب
إنما للصفر والبيض سعى
مظهرًا تقوى ليحظى بالأرب
اذكروا التبرَ وقولوا يشترى
بصلاةٍ وصيامٍ في حلب
وانظروا كيف إليه يغتدي
تارةً ينزو وتارات يثب
ثكلته أمه كيف اغتدى
باسم دين الله يحتالُ النشب

هذا هـــــو أستــــاذي أحمد البــشر الرومي الذي تعلمنا منه معــــنى التنوير الذهــــني وحــرية التعبــــير وكــــرامة الإنــــسان وتــــحرره من الأغــلال, وكــــــيف نقف جـــميعًا فــــي مـــواجهــــة تــــحديات العصر بالتراث والمعاصرة والثـــــقافة الإبـــداعية لمقاومة الظلم والاستبداد. رحم الله أستاذنا الكبير .