قناع الساحرة

قناع الساحرة

لعائلتي موروث غريب، وهو ليس تحفة تاريخية مثل لفافة من روائع الخط، وليس أثراً ولا سيفاً ولا جوهرة ذات قيمة في السوق، وليس تذكاراً يبرهن أسلافنا من خلاله على مكانة العائلة الاجتماعية أو المالية. وأنا الشخص الوحيد الذي ينظر إلى هذه القطعة باعتبارها كنز العائلة. ولم يحدثني جدي ولا أبي عنها، وكل ما هنالك أنني تصادف أن اكتشفتها مخبأة، منسية تماماً، وحافظت عليها باعتبارها كنزي.
هذا الموروث قناع ساحرة رهيب.
وفي البداية بدا لي كما لو كان قناع «نو»، واعتقدت أنه قناع «هانايا»، أو ساحرة، وذلك على الرغم من أنني ليست لدي أي معرفة عميقة بمثل هذه الأقنعة، غير أنني أدركت بعد ذلك بسنوات أنه لم يكن وجه امرأة غيور، مثل ناما ناري أو هاشيهيمي في مسرحية النو «الحلقة الحديدية» (1)، وإنما محيا ساحرة فظيعة، لا أقل ولا أكثر من ذلك. بدا مثل الساحرة في «مطاردة النبات في الخريف» (2) على سبيل المثال، ولكن أقرب إلى ساحرة أكثر إيغالاً في العمر من الساحرة الفظيعة المنتمية إلى عهد إيدو. وكان القناع كذلك أكبر قليلاً من قناع مسرح النو، أي أنه كان على وجه الدقة أكبر بما يكفي لكن يغطي بصورة كاملة وجه أحد البالغين، ولم يكن هناك ثقبان مكان العينين. وباختصار، فإن القناع لم يكن مخصصاً لمسرحيات النو.
كان لونه قاتماً، مروعاً، كأنما غُمس في الدم، وجرى تجفيفه مراراً وتكراراً، وعندما تطلعت إليه في مكتبي المعتم، فيما المطر يهمي وبرد أوائل الصيف يهيمن على المكان، غدا الجلد الخشبي مبللاً، كأنما يعلوه العرق.
لقد دبت الحياة مجدداً في القناع، وتحول إلى محيا ساحرة، كان الجلد رطباً بالعرق – أو حسبما بدا أكثر احتمالاً – بالدم الذي ينبثق من اللحم. وتمثل ما كان رهيباً على نحو أكبر في أن السطح الخشبي القاتم بدا لي كما لو كان يتخذ فورة محمومة، وبدا أنه قد عاد إلى الحياة، ليعبر عن إرادة نابعة منه، ولاحظت كذلك أنه تماماً مثل قناع النو فإن تعبيره سيتغير من كل زاوية، متقداً بالحنق لحظة، وساخراً لحظة أخرى.
بالمناسبة فإنني لم أضع القناع على وجهي حتى هذه اللحظة قط، وقد حاولت وضعه بلا جدوى، والسبب في ذلك هو كما يلي: بينما من الصحيح أن الأقنعة بصفة عامة تبدو غريبة ومثيرة للسخرية عندما ننظر إليها من الخلف، فإنني اضطررت لالتقاط أنفاسي مسرعاً من جراء النفور، عندما قلبت القناع للمرة الأولى، كانت الظلمة – ظلمة مجبولة من لحم إن جاز التعبير – تتألق من الجانب الخلفي، بدا كما لو أن القناع قد انتزع نزعاً من وجه شخص كان قد وضعه، وجعل ذلك اللحم جزء من ذاته، وكما لو أن ذلك السطح الملطخ بالدم والخشن قد تبلور متحولاً إلى ظلمة في سواد آنية مطلية باللك، وكانت عينا الساحر تتوهجان بوهج فوسفوري، وكما قلت لكم، فلم يكن هناك ثقبان في موضعي العين، وبالتالي فإن النور من العالم الواقعي ما كان يمكن أن يضيء هاتين العينين عبر القناع، ولابد أنهما كانتا تتوهجان بضياء من عالم آخر.
فيما رحت أتأمل القناع في يدي، أحسست بإغواء، ربما كان بفعل هذا الوهج الغامض، لكن أضعه على وجهي، ولكن عندما قربت وجهي منه، دمدمت الظلمة على الجانب الداخلي له، كاشفة عن الأسنان ومحاولة قضم وجهي. دفعني الفزع، فبادرت إلى إبعاده بكل قوتي، ونظرت بعيداً، كنت قد غدوت على مسافة شعرة من قضم القناع لوجهي، وكنت لاأزال واعياً بصدى بعيد في أذني، كأنما كانت تلك الساحرة المفزعة على الجانب الآخر من الظلمة تدمدم.
إذا تأملنا الفزع الذي استشعرته بصورة موضوعية، فإنه لم يكن فيه ما هو غير مألوف، وربما باستثناء تلك الأقنعة الرخيصة، الرفيعة، المخصصة للأطفال، فإن أي قناع قد يترك الانطباع بأنه لن يفلت الوجه أبداً، إذا كان المرء من الإهمال بما يكفي لوضعه على وجهه، وإذا لم تخني ذاكرتي، فإن الكاتب الفرنسي موريس ميرجل نظم يوماً قصيدة بعنوان «قناع ساموراي» عن قناع ألصق نفسه بمحيا امرأة.
 على أي حال، فقد تعلمت درسي، ومنذ ذلك الحين فصاعداً تم تثبيطي عن وضع قناع الساحرة على وجهي، وكان ما حدث لي فكرة مختلفة كلية، ومع مرور السنين، ضربت هذه الفكرة جذورها في ذهني، ونمت لتغدو رغبة لا تقاوم. عندما كنت في الجامعة، كانت لي صديقة، شأن أي شخص آخر، وأنا أعبر عن الأمر بتواضع، ففي الحقيقة كانت لي شعبية يعتد بها في صفوف الطالبات. وكانت كثيرات منهن يهتممن بي بصورة جدية، ولم تكن أي منهن من النوع اللعوب، وإنما كن ممن تلقين تربية حسنة واتسمن بالطابع المحافظ وبالجدية. وقد كنت أيضاً طالباً ذكياً، ومحباً للقراءة، على الأقل على السطح، وبغض النظر عن رغبتي المكنونة، أعتقد أن بوسعي القول إنني كنت حي الضمير في تعاملاتي مع النساء.
حينما كنت على وشك التخرج، قررت اختيار إحدى الصديقات لتكون زوجتي في المستقبل، أو لكي أكون أكثر دقة أتخذ القرار لي وربطتنا أواصر الخطوبة من خلال تبادل الهدايا المخصصة لذلك، وخططنا للزواج في غضون عام ونصف العام، عندما تحصل خطيبتي على درجة البكالوريوس.
برزت هذه المرأة، دعني أدعوها ك – كو الآن بين الطالبات اللواتي واعدتهن في ذلك الوقت بسبب أسلوبها الرقيق، وكانت ذكية ومتحفظة. غير أنها كانت قادرة على أن تصبح متوهجة العاطفة على نحو غير متوقع. وقد ارتبطنا علي نحو طبيعي تماماً بعد خطبتنا، وازدادت علاقتنا حميمية بشكل مطرد، وغدت أساليبنا أكثر روعة وطموحا. وباختصار، كنا شيئاً يتراوح بين زوجين وعاشقين.
بحلول ذلك الوقت كان والداي قد توفيا، وبعد أن ورث أخي الأصغر أملاكنا العقارية في الريف، امتلكت داراً في طوكيو كان أبي قد اعتاد استخدامها في أنشطة الأعمال، وقد حصلت على وظيفة في إحدى الوزارات. وباعتباري خريجاً جامعياً فقد كنت هكذا في خير حال، وعلى الرغم من أن مدبرة منزل كانت قد اعتادت العناية بأبي قد بقيت في الدار، فإنها كانت صماء تماماً على وجه التقريب. وإذا لم تأخذها في الاعتبار، فإنني كنت أقيم في الدار وحدي بالفعل. وجاءت ك – كو بصورة متواترة للمبيت معي في عطلات نهاية الأسبوع، وبالمناسبة فقد كان أبوها أستاذاً جامعياً يتبنى موقف «تحررياً» حيال القضايا الأخلاقية.
كان ذلك في مساء يوم سبت ممطر في الخريف. وكانت ك – كو قد غلبها النوم. وكنت مغتبطاً تماماً بهذه المخلوقة البيضاء اللدنة الغافية، وكنت على يقين من أنني أعشقها. مع ذلك فقد هيمنت عليَّ فكرة – نداء الشيطان (لا يمكنني حجبها عنكم أكثر من ذلك)، الرغبة في وضع قناع الساحرة على محيا جميل. وهنالك حسناء مثالية غافية، عيناها مغمضتان في سلام، ووجهها ملتفت نحوي بدا ذلك الوجه مثل قناع «واكا أنا»، السيدة الشابة في مخزون مسرح النو. ما الذي قد يحدث إذا غطيت هذه «السيدة الشابة» بـ «الساحرة»؟ كنت أعرف أن القناع ربما سيتشبث بوجهها، ولكنني لم أستطع تخيل أي تأثير سيكون لها على المرأة نفسها. مضى ذهني يترنح من جراء صراعه مع «نداء الشيطان».
استخرجت قناع الساحرة. لم أكن أدرك إلا بالكاد ما كنت أقوم به. وضعته على وجه ك – كو، فتشبث به، كأنما بفعل إرادة الساحرة، أو قوة مغناطيسية. جلست ك – كو مستقيمة الظهر كما لو كانت لا تزال نائمة، غير مدركة لما حدث. تحركت كأنما لتنزع القناع عن وجهها، ومضت تجذبه بيدها ولكن بدا أنه لن يفلت وجهها أبداً. نهضت واقفة وهي تترنح. كان اهتزاز ذراعيها فيما هي تكافح لانتزاع القناعه مصحوباً بتأرجح متلو على نحو أفعواني لجسمها بأسره. وتدريجياً تحولت حركة جسمها هذه إلى نوع من الرقص المثير. من شأن قطة أن ترقص بجنون إذا غطي رأسها بكيس. وهذه الحسناء التي حول وجهها إلى وجه ساحرة مضت تؤدي رقصة لم تتدرب عليها، وراح جسمها غير المكسو يتأرجح ويتمايل على إيقاع غريب. بل إنني لست أدري ما إذا كان بمقدور المرء أن يسميها رقصة، ربما كانت تتلوى ألماً. ولكن وقع صوتها – إذا كان قد صدر عنها صوت – تم امتصاصه داخل القناع، ولم يستطع اختراقه.
ازداد بدنها المنحوت أسفل قناع الساحرة توهجاً، فيما غدا رقصها أشد توتراً. وإذ غبت عن حواسي تماماً، فإنني لم أستطع الإشاحة بناظري بعيداً للحظة واحدة. وقد يمكنني وصف الأمر بهذه الطريقة: بدا أن قناع الساحرة لا يتحرك إلا بالكاد، ولاح ثابتاً في الفضاء، كأنما ثبت وجه المرأة أو ربما صلبه هناك، إن صح التعبير، فأوجد مركزاً مضى بدنها الرشيق يرقص حوله. ازداد الاقتناع في داخلي بأن الرقصة تعبر عن نشوة كاسحة، أو عن ذروة تم بلوغها. ومن الغريب القول إن المحيا الشبق كان ملتهباً بنشوة وحشية. بدا فم الشيطان الفاغر كما لو كان يصرخ في ابتهاج على نحو صامت. وعندئذ سقطت الساحرة على الأرض بتقلص شهواني هائل، وقد تباعدت أطرافها على حين غرة، وارتجفت، وكفت عن الحركة فجأة. لم تعد ك – كو تتنفس. ذهلت، واندفعت لأجعلها تجلس، وعندما فعلت ذلك سقط قناع الساحرة عن وجهها، كأنه لم يكن متشبثاً به، فقد خلصها الموت من القناع. لم يفصح محياها عن أقل أثر للمعاناة، وإنما كانت هناك الابتسامة العتيقة لمنحوتة بوذية.
عزى موت ك – كو، بعد تشريح الجثة، إلى أزمة قلبية، مأساة لم يتم تحميلي المسئولية عنها على الإطلاق. وقد لزمت الحداد عليها، كما يفعل أي رجل حزين ماتت رفيقته. وقد حزنت على موتها حقاً. غير أن شيئاً واحداً كان جلياً: إن ما شغل ذهني لم يكن الأسى، وإنما الذكرى التي تستعصي على النسيان لتلك الرقصة وصولاً إلى الموت.
استغرق الأمر مني عاماً لصياغة استراتيجية، وعندئذ بدأت في مواعدة امرأة سوف أدعوها م. كو. وانقضت ثلاثة أشهر أخرى قبل أن أنفذ خطتي لرقصة الساحرة. كان ذلك ضرورياً بالنسبة لي لإقناع نفسي بأن م. كو كانت رفيق مناسبة لي. كان رقصها أقل رشاقة، ربما بسبب بنيتها الهزيلة، ولكن العنف الوحشي لحركاتها والفحش الخالص لإيماءاتها جعلاه أكثر دراماتيكية.
بعد م. كو قررت التخلي عن عملية بناء علاقة أو الارتباط بآصرة الخطبة بالمرأة. وأخذت اقترحاً ثميناً للغاية من فيلم «الصياد» الذي تصادف أنني شاهدته في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين أصبحت «صياداً» يمسك «طريدة» ويخدرها بالكلوروفوم. وأصبحت «أضحياتي» لقناع الساحرة الآن تقدم بمعدل مرتين في العام تقريباً.
والصعوبة الرئيسية التي أواجهها هي كيفية التخلص من الجثة. غير أنني سأوفر عليكم هذه التفاصيل الآن، لأنني وصفتها في كتاب سينشر لاحقاً.
كل ما يبقى في ذهني صورة مرسومة بوضوح تحتل ركناً في دماغي، يتمثل في فكرة وضع قناع الساحرة على وجهي. وأنا أحس كما لو أن عينيَّ الساحرة الذهبيتين تبتسمان لي على نحو حافل بالغواية في كل مرة ترياني.