من طرائف الأدباء والشعراء

طرائف الأدباء والشعراء
        

          يروي الجاحظ في كتابه «البخلاء» أن رجلاً يدعى أبي الهنديّ كان يخاطب خدمه بلغة عويصة، فإذا لم يفهموا عنه طردهم من خدمته، حتى قيّض الله له خادمًا كال له الصاع صاعين. قد صفّق أبوالهندي ذات صباح يستدعي خادمه، فلما مثل بين يديه سأله: هل أصقعت العتاريف؟ فأجابه الخادم: زقفليم يامولاي. فصاح أبو الهندي: ويحك وما زقفليم؟ فرد الخادم: وما أصقعت العتاريف؟ صاح أبو الهندي: يا لك من غبي! ألا تعلم أن: أصقعت العتاريف، معناها: أصاحت الديوك؟ فردّ الخادم: ومثلك يا سيدي من فضلك وعلمك، ألا تعلم أن زقفليم معناها: كلا لم تَصِح!

          ويروي رئيف خوري (1913 - 1967) الأديب اللبناني هذه النادرة التي تعود إلى زمن الحكم التركي للبنان، فيقول:

          يروون في زمن بني عثمان أن جاويشا تركيًا يتولى أحد المخافر لم يكن يكفيه معاشه لولعه بالآفات الثلاث: الخمر والنساء والقمار. فدعا إليه يومًا أحد أبناء البلدة ممن يعلم سعادة الجاويش البيك أنهم يدخرون بعض المال، فقال له:

          - فلان أفندي! إني بحاجة إلى كاتب. وقد وقع عليك اختياري كاتبًا بمعاش ثلاث ليرات ذهب في الشهر، وكان هذا معاشًا محترمًا في ذلك الزمن. فغُرّ الرجل وقَبِل الوظيفة.

          ثم بعد أسبوع قال الجاويش البيك لكاتبه:

          - احتجتُ إلى خمس ليرات ذهب، فجئني بها واكتبْ سندًا بالمال إلى آخر الشهر فأدفعه لك مع المعاش والإكرامية.

          فأتاه الكاتب بخمس ليرات ذهب، فقبضها الجاويش البيك، وتناول السند فوقعه بيده وهو يفتل شاربه باليد الأخرى.

          وانتهى الشهر.. ولبث الكاتب ينتظر اليوم الذي يستدعيه فيه رئيسه ليدفع له قيمة السند والمعاش والإكرامية، ولكن مرّت الأيام وسعادة الجاويش البيك لا تبدر منه بادرة، فاستجمع الكاتب شجاعته ودخل ذات يوم على رئيسه وقال له بلسان متلجلج:

          - إذا أمر سعادة البيك بدفع معاشي، ودفع هذا السند، كنتُ له من الشاكرين.

          ووضع السند أمام البيك، فحملق فيه وصاح:

          - سند أي سند؟ وأخذه بيده فدعكهُ، ثم قرّب الورقة من فم كاتبه المرتاع وهو يقول له: ابلعها.. ابلعها.

          وعرف الكاتب أن رئيسه لا يمزح، فتناول الورقة ودسّها في فمه وابتلعها وعيناه جاحظتان. ودفعه البيك إلى خارج الغرفة وصفق وراءه الباب وهو يصيح: سند! أي سند؟ معاش! أي معاش؟

          ولكن البيك لم تنقطع حاجته إلى المال مادامت الخمر تلحّ عليه والقمار والنساء.

          ووقع في ضائقة، لم يجد منها مخرجًا إلا أن يدعو كاتبه ويعتذر إليه ويُظهر الندم لما فرط منه ويلعن الشيطان لعنًا كثيرًا، ثم قال:

          - فلان أفندي! جئني بخمس ليرات أخرى، واكتب سندًا هذه المرة بسبع عشرة ليرة ذهبية: عشر ليرات قرضًا، وست ليرات معاش شهرين، وليرة إكرامية.

          فنزل الكاتب عند أمر رئيسه، جاءه بالليرات الخمس وبالسند ليوقعه.

          ودهش سعادة الجاويش البيك حين رأى السند مكتوبًا على قطعة بلون المشمش الناضج،لم يلبث أن تبيّن أنها من قمر الدين. فقال لكاتبه:

          - فلان أفندي! لماذا كتبت السند على قمر الدين؟

          ردّ الكاتب: قد أضطر يا سيدي إلى بلعه في آخر الشهر، فيكون أسهل عليّ وأقلّ ضررًا!

          يروي الأديب والشاعر اللبناني محمد يوسف حمّود (1919 - 1993) هذه النادرة:

          كان حسن بك القاضي، وجيهًا بيروتيًا، وزعيمًا محليًا مرهوبًا، فلقد كان مركزه التجاري يعلو على كلّ مركز ثقافي، وكان غناه المالي يغطي فقره العلمي. وكان عليه يومًا أن يفتتح احتفالاً في كلية المقاصد بخطاب منه كتبه له وشكّل حروفه ودرّبه على إلقائه عبدالله المشنوق، وبعدما انتهى من تلاوة ذلك الخطاب دون أي خطأ لغوي، وطوى ورقته ودسّها في جيبه، أضاف من عنده عبارة «ودمتم سالمون»، فذهل الذين يعرفون أن «سالمين» هي الصواب، والتفت بعضهم إلى عبدالله المشنوق كأنهم يحمّلونه هذه الغلطة المفضوحة، فأجابهم بفولتيريته بل بمشنوقيّته المشهورة:«ومن قال له يرتجل؟!».

          ومما يروى عن الشاعر اللبناني أمين تقي الدين (1884 - 1937) أنه أراد يومًا مداعبة أستاذه عبدالله البستاني (1854 - 1930) صاحب «معجم البستان»، فبحث في القاموس عن كلمة عويصة قليلة الاستعمال، فإذا به يقع على الصيصية، فجاء وهو يظن نفسه قد ظفر بأمنيته وقال: وجدت يا معلمي، أثناء مطالعتي كلمة لم أفهم معناها وهي «الصيّصية». فقال البستاني: هذا مفهوم يا معلمي.ألم تقرأ بالأمس شعر اليربوع:

          دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه
                                        كوقع الصياصي في النسيج الممدّد

          الصياصي جمع صيصية وهو المكوك. فعاد أمين بخفّي حنين، ولكنه لم ييأس فجاءه في اليوم الثاني بكلمة «حباطقطق» مدّعيًا كالسابق أنه وقع عليها اتفاق وهو يطالع كتابًا عربيًا قديمًا. قال البستاني: أنت تكذب يا معلمي فهذه لا تجدها إلا في القاموس ومعناها حوافر الخيل. وكان التفسير الوحيد لها في القاموس.

          بين الشاعرين اللبنانيين أمين نخلة (1901 - 1976)  والأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري (1885 - 1968) هذه القصة الطريفة:

          في ذكرى الشاعر أبي تمام التي أقيمت في دمشق، أنشد أمين نخلة قصيدة عصماء عنوانها: في ذكرى «حبيب» وحبيب هو أبو تمام الشاعر العباسي الشهير، قال في مطلعها:

          أفسحوا في محفل الشعر لنا
                                        نحن من لبنان، من عليا الدُّنى!
          جيرةُ الأرزِ، وضاحي ظله،
                                        والرُّبى الخضر، ووشي المنحنى

          إلى أن يقول:

          شعراء الضاد: هذي «جلّقٌ»
                                        من هنا ظلٌّ، وماء من هنا
          خرجت تستقبل الشعر، وقد
                                        صفّقت نهرًا، ومالت أغصنًا

          ولهذه القصيدة قصة، لم يكن الشاعر بشارة الخوري - الأخطل الصغير، حسن الودّ مع باقي شعراء لبنان، أمثال إلياس أبو شبكة وأمين نخلة وسواهما، وغالبًا ما كانت تدور معارك أدبية انتقادية وهجائية بينهم وبينه.. ولكن لمّا ألقى أمين نخلة قصيدته هذه واطّلع عليها الأخطل الصغير وجّه إليه على صفحة الجرائد هذه الكلمة:

          أديبنا الأول الأستاذ أمين نخلة:

          تلك «الفاتنة» التي جلوتها في عرس الشعر على ضفاف بردى، كانت شفاء لروحي تذوقتها رشفة رشفة، أخذك بالخمرة الطيبة تخاف أن تنفذ، وما برحت على ظمأ. لقد أحبّ الله لبنان كثيرًا عندما اختارك تحمل رسالته إلى كل محفل للكلمة فيه إشعاعها، وللإلهام إبداعه!

          أما بيتاك «بشّروا جلّق»، والذي يليه فأذن لي أن أُطلقهما من القيد الذي يرسفان فيه، فأجلوهما هكذا:

          بشّروا «جلّق» في سامرها،
                                        واهتفوا أن «أمينًا» بيننا!
          مدّ للشعر بساطًا حافلاً،
                                        لو مشى ذو التاج فيه لانحنى

          وسلمتَ، ونعِمتَ. أخوك، بشارة الخوري.

          روى لي د.عبدالمسيح محفوظ، أنه هو الذي أوعزَ إلى بشارة الخوري بإرسال هذه الرسالة إلى أمين نخلة لإعادة الودّ والصفا بين الشاعرين، ثم أقيمت حفلة لتكريم الأخطل الصغير ومبايعته بإمارة الشعر بعد أحمد شوقي فقال الأمين قصيدة عصماء يردّ الجميل للأخطل ويبايعه بإمارة الشعر:

          أيقولون أخطل، وصغير!
                                        أنت في دولة القوافي أمير
          ولك التاجُ، والمطارف، والبرد
                                        وركن مجلّل وسرير
          فاسحب الذيل ما تشاء، وجرّر
                                        إن ملك البيان ملك كبير!

          يروي أمين نخلة قصة نظمه تلك القصيدة فيقول:

          قبل ذلك المهرجان بثلاثة أيام اتصل بي رئيس الحكومة وأخبرني أنه تقرر أن أمثّل لبنان في مهرجان دمشق فاعتذرت بسبب الوقت القصير.

          ثم استدعاني رئيس الجمهورية إلى القصر وقال لي: «إن كرامة لبنان الأدبية تأمرك، فامتثلت لأمر لبنان وصعدت إلى الشام وليس في يدي بيت واحد من الشعر، ونظمت القصيدة قبل ليلة واحدة من المهرجان، وعندما ألقيتها في ذلك الجمع الكبير صفقوا لها ما صفقوا وكانت قبلات المهنئين وفي مقدمتهم أصحابي الشعراء، وحملني جماعة الطلاب وخرجوا بي في تظاهرة بقلب شوارع دمشق وكانوا يهتفون باسم لبنان.

          وفي طريقنا إلى «الأوتيل»، تمزق جاكيت «الطقم» الأبيض وتمزق البنطلون وحول ذلك كتب صالح جودت في مجلة «المصور» بعنوان «شوقي وحافظ اللبنانيان» فصلاً يشير فيه من طرف خفي إلى قيام منافسة في الشعر بين أمين نخلة والأخطل الصغير، تشطر اللبنانيين نصفين واحد إلى الأمين والآخر إلى الأخطل، أي كما كان الأمر في مصر أيام شوقي وحافظ.

          يردّ الأمين على كلام صالح جودت بكلام مليء بالتواضع فيقول: أنا رجل أعرف قدري «فلا أتزيّد فيما عندي». وما «الأخطل الصغير» إلا طبقة من الطبقات العلا وأين أنا منها؟! أين أنا من جلالة قدره، وجلاله عمره - طال الله لنا بعمره؟

          ومادمنا نتحدث عن أمين نخلة والأخطل الصغير فلا بأس أن نورد هنا رأيًا للشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) (1903 - 1981) في الشاعرين حيث كان يفضل أحدهما على الآخر، فلا يلبث أن يغير رأيه. ورد في مجلة «الصياد» العدد 2 - السنة الأولى الأربعاء 8 ديسمبر 1943 أن بدوي الجبل سُئِل عن رأيه في شعراء لبنان فقال: «إن أحبّهم إلي وأشهرهم في نظري هو أمين نخلة.. إن أمين نخلة هو أشهر شعراء لبنان وليس هذا فقط، بل ليس لشاعر عربي ترف أمين نخلة، وديباجته، وموسيقاه الرائعة».

          وفي العدد 3 من مجلة «الصياد» في 15 ديسمبر 1943 أرسل أحد الأدباء إلى المجلة ما كان قد نشره بدوي الجبل في «البرق» عن الأخطل الصغير حيث يقول بمناسبة نشر قصيدته «عُمَر ونُعم».

          «والله لم يُنظم في العربية كقصيدتك هذه ، لا أستثني شاعرًا ولا أستثني شعرًا لا في قديم التاريخ واللغة ولا في حديثها».

          هنيئًا لك أبا عبدالله (وهي كنية الأخطل) إمارة الشعر، من غلمانك عمر (أي عمر بن أبي ربيعة) ومن حجّابك المتنبي، ومن حرّاسك شوقي ومن ندمائك ولي الدين، (أي ولي الدين يكن 1873 - 1921)». بينما نجيب الريّس «صاحب» القبس ثار على رأي بدوي الجبل في أمين نخلة ودافع عن بشارة الخوري. وهكذا كان الشعراء والنقاد يتعصّبون لشاعر دون آخر أو يميلون إلى شاعر دون سواه، وأحيانًا كان احدهم مضطرًا إلى أن ينحاز في رأيه أو يعلن رأيًا لا يلبث أن يتراجع عنه، كما فعل صاحبنا بدوي الجبل في تقديمه أمين نخلة وجعله شاعر الشعراء ثم خلع إمارة الشعر على الأخطل الصغير.

 

 

 

جمعها: د. ميشال جحا