رضوان الكاشف وعبدالله محمود.. تقاطعات في الموهبة والمصير

رضوان الكاشف وعبدالله محمود.. تقاطعات في الموهبة والمصير

لا يتوقف الأمر عند شهر يونيو الذي شهد رحيل الفنانين السينمائيين رضوان الكاشف وعبدالله محمود، بل تمتد النقاط المشتركة بين الرجلين إلى كثير من التفاصيل، لعل أولها عملهما مع المخرج الراحل يوسف شاهين، الأمر الذي تحقق لرضوان الكاشف بعد تخرجه في معهد السينما في مصر، عام 1984 ليكون مساعدًا ليوسف شاهين في أفلام: وداعًا بونابرت، إسكندرية كمان وكمان واليوم السادس.

أما عبدالله محمود، فقد امتلك تلك الفرصة عن طريق صديقه الممثل محسن محيي الدين، أحد النجوم الذين برزوا بفضل موهبة لافتة، والذي آمن شاهين بموهبته فمنحه فرصة استثنائية للعمل معه في أول أفلام سيرته الذاتية «إسكندرية ليه»، ثم طلب منه ترشيح اثنين من أصدقائه للمشاركة في الفيلم المذكور، فوقع اختيار محسن على صديقيه القديمين عبدالله محمود وأحمد سلامة اللذين نالا إعجاب شاهين وظهرا في الفيلم في أداء مميز.
بعد البدايات انطلق الكاشف إلى موقعه وراء الكاميرا، ليقدم عدة أفلام من أهمها فيلم «عرق البلح» الذي شارك فيه عبدالله محمود ممثلًا، وحقق ذلك الفيلم لمن تابعوه ما يمكن تسميته «الصدمة السينمائية»، حالة وجد فني حقيقية، بالإضافة إلى شعور بانعتاق الروح والحواس، عبر رحلة في عوالم غير مألوفة لم يقدمها مخرج قبل رضوان الكاشف.
وقد رأى بعض النقاد أن الفيلم شكل معجزة سينمائية حقيقية، عبر التناول السينمائي لقصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله، والمعالجة السينمائية، وإصرار المخرج على أداء الممثلين بلغة أهل المنطقة التي تتسم بصعوبة نطقها لمن لا يعرفها، إضافة للتقنيات المميزة التي صنع بها رضوان الكاشف بصمته الخاصة، وصولا لأداء أبطال العمل, بينما أكد آخرون أن السينما العربية قد تحتاج إلى سنوات طويلة قبل أن تقدم فيلمًا يقارب في مستواه عرق البلح.
وإضافة إلى مشاركة عبدالله محمود في ذلك الفيلم، فلقد امتلك فرصة المشاركة في أفلام تعد علامات مضيئة في تاريخ السينما المصرية والعربية، من بينها أفلام اختيرت بين أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، مثل «الطوق والإسورة» لخيري بشارة، «سواق الأوتوبيس»، «المواطن مصري» مع رائد الواقعية صلاح أبوسيف والنجم عمر الشريف.
يتابع مسلسل التقاطعات حلقاته في تجربة الفنانين الراحلين، ليتوقف بنا عند موضوع الظلم الفني والإعلامي الذي لقياه، فعبدالله محمود انتمى إلى جيل فني لم ينل حظه في السينما المصرية، جيل وصفه أحد أبنائه المتميزين، وأقصد به ممدوح عبدالعليم بأنه جيل مظلوم، لكون أبنائه امتلكوا الموهبة، ولكنهم لم يمتلكوا الحظ بسبب ظهورهم في فترة كانت السينما المصرية فيها تمر بأسوأ أوقاتها، واقتصر الإنتاج السينمائي في ذلك الحين على بعض الأفلام التجارية لعادل إمام ونادية الجندي.
إنه جيل من الممثلين الذين أثبتوا جدارتهم وعملوا معا في أفلام عدة: جيل عبدالله محمود وممدوح عبدالعليم ووائل نور ومحسن محيي الدين وهشام سليم وشريف منير وعلاء عوض وأحمد سلامة.
أما رضوان الكاشف فربما لأنه لم يساوم أبدًا على السينما التي يريدها فإنه لم ينل حظه الإعلامي، وبقي مصرًا ولو على جثته - كما قال- على تقديم سيناريوهات أفلامه كما كتبها، مهما أرهقه أمر البحث عن منتج يتصدى لإنتاجها.

بيئة ريفية
 - من ناحية ثانية نتوقف عند البيئة الريفية التي ينحدر منها الرجلان، وعلى تأثير ذلك على حياتهما وأعمالهما، فرضوان الكاشف الذي تعود جذوره إلى مدينة سوهاج في صعيد مصر، عندما يتحدث عن انحيازه للطبقات الهامشية، وإصراره على ذلك الانحياز في أفلامه وحياته، يؤكد أنه لن يقوم بأشياء لا يحبها، ويفضل عليه الذهاب إلى الصعيد والمكوث بين الأقارب لزراعة الأرض.
أما عبدالله محمود فقد بدأ حياته المهنية موظفًا في كلية الزراعة في جامعة القاهرة، ليلفت الأنظار إلى موهبته وهو يؤدي بمصداقية عالية دور شاب ريفي مصاب بمرض البلهاريسيا في الفيلم التلفزيوني «طالع النخلة» أمام فردوس عبدالحميد وتحت إدارة المخرج محمد فاضل. 
ومن الجدير بالذكر أن عبدالله محمود كان يعاني من المرض ذاته، الذي جسد فيه معاناته في الفيلم. ولقد كان الدور المذكور واحدًا من أحب الأدوار إلى قلب الفنان الراحل، وفاتحة اختيارات كثيرة من قبل المخرجين له ليؤدي دور الشاب المصري بسحنته المنحوتة السمراء المميزة.
- في الحديث عن خصوصية الفنانين الراحلين نرى في سينما رضوان الكاشف دخولًا إلى مناطق لم يتجرأ غيره على مجرد مغازلتها، فكرا وموضوعا ومضمونا وتقنية فنية معا. 
وكشف عن سينما ممتعة حتى الألم، سينما تطاول قامة الحلم والأسطورة، لتعلمنا كم من الطاقات يمتلكها ذلك الفنان عندما يلتقي عشاقه الحقيقيين.
كما امتلك الكاشف جرأة كبيرة في تبديل جلود ممثليه لكشف الطاقات الفذة الكامنة المخبأة تحتها، والتي لا يمكن أن يستجليها إلا مخرج بصير مثله ومثل كل مخرج عبقري، وهو ما رأيناه، على سبيل المثال، في فيلم «الساحر» عندما قدم الفنانة سلوى خطّاب في دور مزينة عرائس، وهو دور مغاير تمامًا لكل ما قدمته سابقًا، وقد أكدت خطاب أن الكاشف نجح في تفجير كل ما لديها من طاقات تمثيلية.
كما قدم النجمة منة شلبي في الفيلم نفسه في دور بالغ الجرأة، كان أول إطلالة لها على جمهور السينما.
أما عبدالله محمود، ومع كل فرصة متابعة أي من أدواره السينمائية أو التلفزيونية، فنزداد قناعة بأنه واحد من أبناء السينما العربية المنتمين بقوة إلى مدرسة الأداء المتميز، المتمردين على الشكل الجميل لمصلحة الحضور الخاص والدور المختلف.
رحل الكاشف، الذي كان له من اسمه نصيب، في عام 2002، بعد خمسين سنة من إبصاره النور، إثر سكتة قلبية، وبعد ثلاث سنوات غادرنا عبدالله محمود عن ست وأربعين سنة بعد معاناة من سرطان في المخ انتشرت أورامه إلى الرئة، لكنهما باقيان في ذاكرة عشاق السينما المختلفة، نــــمــــوذجان حـقــيقــيان لنبل الأداء وخصوصية التجربة.