حكاية شهريار

حكاية شهريار

عندما وقفت عن الكلام، سألها مستفسرًا: أيا شهرزاد ماذا حصل؟ لماذا صمتِّ؟ والله سروري عظيم لما ترويه لي. أنْسَيْتيني مرور النهارات والليالي، وإشراقة الشمس وغروبها وبزوغ القمر، وبتُ محتارًا، أأُحقق ما قرّرته بانتقامي من النساء الخائنات، أم أعيش في حكاياتك التي تنقلني من بلد إلى بلد على بساط خيالك وعلى بساط الريح الذي أوصلني إلى أعلى السماوات وأعمق البحور؟ ابتسمت شهرزاد وشعرت بأن ما قاله شهريار يشجّعها على أن تحاوره.

- يا أميري. ويا سيد الأمراء. يا من خصّه الله بجمال الخلق وجمال المحيا. هنا أسند شهريار ظهره على أرائك الحرير الصيني المحاطة بأقمشة دمشقية ومدّ رجليه على بساط فارسي، والابتسامة تعلو محيّاه.
- نعم يا شهرزاد. وبعد هذا.. لِمَ توقفت عن الكلام، والقمر مازال مشعًا؟
أنا لم أسكت.. عفوك.. لقد ساورتني أفكار جعلتني في حيرة من أمري.
- ما هي تلك الأفكار.. أخبريني، لعلها تزيد ليالينا سحرًا وخيالاً وجمالاً؟
- لكن.. لكن يا من يأمر ولا يؤمر، ويبدي رأيه ولا يناقش برأي. يا أميري ويا سيدي.. قلت، بل ساورتني فكرة أن أتقدم إلى من أجلّه وتطيب الليالي بقربه، أحكي له قصصًا لست أدري من أين آتي بها.
- قولي.. قولي شهرزاد أي فكرة أتتك؟
- لقد عوّدتني يا أميري ألا أفتح فاهي إلاّ لأحكي حكايات الليالي، ولقد مرّت خمسمائة ليلة، وكل ليلة حكاية.
- تعني أننا أمضينا خمسمائة ليلة معًا؟
- نعم يا سيدي.. قلت.. قلت.
- ماذا قلت؟
- قلتُ لو أستطيع أن أسمع منك حكاية.
- تريدين يا شهرزاد أن أحكي لك حكاية؟ قال مندهشًا.
- لا يا أميري.. لا أريد.. الإرادة لك.. لكني أرغب وأتمنّى أن أسمع منك حكاية.
ابتسم شهريار، وتمعّن بعينيّ شهرزاد الساحرتين وقال:
- ماذا أستطيع أن أحكي لك وأنا لم أحكِ مرة حكاية؟.. ولا علم لي بحكاية.
- يا سيدي وأميري.. الحكاية تأتي وحدها.. إن تفوّهت بجملة، فإن الحكاية تبدأ ثم تنتهي من تلقاء نفسها كما بدأت.
- شهرزاد.. عجبًا.. لم تطلبي مني أن أحكي حكاية من قبل، ثم أردف سائلاً: ماذا تودّين أن تسمعي، حكاية عن الجن، عن المنجمات. عن اللصوص. عن خيانة الزوجات. أم عن البغض أم الحب والغرام؟
- عن الحب والغرام. وربّي هي أجمل الحكايات.
ابتسم شهريار، وكاد يضحك، وابتسامته ارتسمت على محياه ولم تفارقه. قال: سأحاول أن أجد حكاية تحكي عن حب أمير لامرأة.
- شهرزاد مبتسمة: لقد بدأت بالحكاية يا سيدي وأميري.
قال:  في بلاد السند، قصر حجارته من الذهب والألماس، يعيش فيه أمير لم تعرف الابتسامة محيّاه ولا الفرح، يعيش محاطًا بالجاريات السّاحرات والمغنيات والراقصات والشاعرات وبكل ما يبهج ويدخل السعادة إلى النفوس، لكن الأمير بقي هكذا لا شيء يفرحه ولا ما يبعد  الحزن عنه، وتمرّ الأيام وشعر بأن مرضه هو مرض الوحدة التي يعيش فيها، ولابدّ - قال - أن أجد من يقلع الوحدة عني. جمع وزراءه طالبًا من كل وزير أن يطوف في البلدان باحثًا عن امرأة تكون رفيقة عمره تنسيه الوحدة وتدخل البهجة والفرح إلى قلبه.
كانت شهرزاد تنصت بكل جوارحها، وعلى خدّيها ارتسم احمرار وعيناها تشعّان، حالمتان بحلم إن تحقق فستكون أسعد النساء، إذ شعرت بأن شهريار يحكي حكاية حاله، والمرأة التي يبحث عنها وزراؤه. مَن يدري؟ أن تكون هي تلك المرأة.
***
في الليلة التالية، وكعادتها راحت شهرزاد تحكي حكايتها الواحدة بعد الخمسمائة. قالت: في قديم الزمان، وفي إحدى الغابات، كانت تعيش أنواع من الحيوانات، وكانت الأفعى هي سيّدة الغابة، تأمر الأسد فيطيعها، كذلك الأرنب والطير والنملة والفيل وجميعها في طاعتها.
رأت الأفعى كائنين غريبين جالسين تحت شجرة حبلى بالثمار، اقتربت منهما وأخذت تداعبهما، ثم زحفت إلى جذع الشجرة وأخذت منها ثمرة وقدّمتها إليهما: عرفت الأفعى، أنهما ليسا كائنين غريبيين، بل هما رجل وامرأة، مخلوقان كما الأفعى، وكما الأشجار والطيور الساكنة على أغصانها، لهما الطبيعة كلها، ولهما ثمار أشجارها، ما عدا هذه الشجرة، حيث يجلسان بفيئها، وهي شجرة ثمارها التفاح، إن أكلا منها، فهما لن يبقيا هنا في هذه الغابة التي اسمها الجنّة، وإن أطاعا وقطفا من بقية الأشجار المثمرة فسيكون مسكنهما في الجنة، حيث تجري فيها أنهار، ماؤها عذب وجبالها مغطّاة بكل ما سيشتهيانه من ثمر وطيور ملوّنة بألف لون، وفراشات ترمي ظلالها متنقّلة من زهرة إلى زهرة. 
 قرّبت الأفعى من آدم وحواء تفاحة، فلم يكترث عندها آدم، اقتربت من حواء وهمست في أذنها: ذوقي طعمها اللذيذ، هي أطيب الثمرات، جاءها نذير بأنها حواء؛ المرأة الأولى على هذه الأرض، والأرض كانت لا تعرف سوى الملل والحزن، وترابها لا ينبت فيه سوى أعشاب يابسة. انظري حولك.. انظري إلى الأزهار، اسمعي غناء الأطيار، افرحي في الليل وفي النهار، الجنة أنت، أنت اللذة، أنت ملكة الأرض والبحار. أخذت المرأة الثمرة وأكلت منها ثم أعطتها للرجل الذي ما إن ذاق طعمها حتى انتفض واقفًا، تبعته المرأة، الأفعى راحت تلتف حول جذع الشجرة وهي تقطف من ثمارها، حتى غطّت الأرض بها، وفجأة رأت المرأة أن الطبيعة أصبحت جرداء، لا شجرة فيها ولا زهرة، سار الرجل مطأطئ الرأس نادمًا على عدم إطاعته للنذير بألا يأكل من الشجرة. لاح نور الفجر، اقترب الرجل من المرأة، فجأة اختفى النور وعمّ الظلام، تابع الرجل والمرأة سيرهما محاطان بوحوش لا يريان سوى الظلمة، وظهر مخلوقون يشبهونهما يسيرون أزواجًا أزواجًا، اطمأنت حواء كذلك آدم، لقد تكاثرا، وهما يسيران وقد تبعثر المخلوقون أمثالهما في كل اتجاه، هطلت أمطار غزيرة ورعدت وهبطت غيوم سوداء على الأرض.. ثم.. ثم.. بانت الشمس وأزهرتْ الأرض وغنّت الطيور، وتجمّع الناس حول آدم وتفوّه بكلمات..  أطاعه البعض ورفضه آخرون . عندئذ عرفوا الموت.
وحبلت النساء، إلى أن امتلأت الأرض بهم. هبّت رياح حارّة ثم هطلت أمطار وتساقطت كتل من الثلج عرّت الأشجار من ثمارها وأوراقها. ومضت السنون والأيام. والليالي، ومازالت تمضي، وآدم وحواء يتلاحقان والأفاعي تزحف وراءهما، يعمّ الشرّ في الأجواء والخير يبحث عن منفذٍ لينتشر ويتغلّب على الشّر والأشرار.
***
في هذا الوقت، وقد شارف الليل أن يمضي ويطلّ الفجر بألوانه البرتقالية، رأت شهرزاد أن شهريار مغمض العينين مبتسمًا كأنه في حلم. نامت شهرزاد بقربه، ومازالت نائمة حتى الآن.