ذو الرُّمّة «جزى الله البراقعَ من ثياب»

ذو الرُّمّة «جزى الله البراقعَ من ثياب»

ذو الرُّمة شاعر أموي، هو غيلان بن عقبة، تردّد على البصرة والكوفة، وأُغرم بحب مَيَّة، فأكثر من ذكرها... له ملاحظة في البراقع لم يسبقه إليها أحد، فيقول، وهو يدعو على البراقع، إنها قد تحجب القِباح، كأن تكون القبيحة ذات عينين جميلتين، فلا نرى وجهها القبيح الدميم في الفم أو الأسنان أو الخدود والرقبة... وعكس ذلك فإن البرقع يخفي الجمال فلا تراه:

 

جزى الله البراقعَ من ثيابٍ
    عن الفتيان شرًّا ما بقينا
يوارين المِلاحَ فلا نراهـــا
    ويُخفين القِباحَ فيزدهينا

يُروى أن ذا الرُّمة لم يَرَ مَية إلّا في البرقع، فأحب أن ينظر إلى وجهها خشية أنّ البرقع ربما يخفي قبحًا ويتأسف على ما قال فيها من أوصاف الحُسن والجمال، فرفعت البُرقع عن وجهها، فإذا هي باهرة الحُسن والجمال، فاطمأن، ورأى أنها فوق ما تخيّلها، فقال:
على وجه ميّ مسحةٌ من ملاحة
    وتحت الثياب العارُ لو كان باديًا
ألم ترَ أنّ الماء يخبـثُ طعمـه
    وإن كان لونُ الماء أبيض صافيا؟
فيا ضَيعة الشّعر الذي لجَّ فانقضى
    بميّ ولم أملك ضـلال فؤاديا 

هنا اطمأن على جمال حبيبته، فقوله على وجه ميَّ مسحةٌ من ملاحة، نقول في لهجة الكويت هكذا؛ هي مملوحة، وهو مملوح، كناية عن الحُسن والجمال.
وقال أبو ضِرار الغنوي:
رأيت ميّة ذات يوم ومعها بنون لها، وهي مسنونة الوجه، أسيلة الخد، شمّاء الأنف، عليها وَسْمُ جمال.. ومكثت ميّة تسمع شعر ذي الرُّمة دون أن تراه، فلما رأته، رأت رجلًا دميمًا قبيحًا أسود اللون، فقالت:
واسوأتاه، وابؤساه...
فسَاءها أن يكون بهذه الصورة، وهو الذي ملأ الدنيا بقول الغزل في حُسنها بخياله الجميل... ومما قاله في ميّ:

أَلاَ حَيِّ رَبْعَ الدَّارِ قَفْرًا جُنُوبُهَا
    بحيثُ انحنى عن قنعِ حوضي كثيبُها
دِيَارٌ لِمَيٍّ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُهَــــــــا
    عَلَى طِيَـــّةٍ زَوْرَآءَ شَـتَّى شُعُــوبُهَا
إِذا هَبَّتِ الأَرواحُ مِن نَحوِ جانِـب
    بِهِ أَهُل مَيٍّ هاجَ شَوقـي هُبوبُهــــــا
هَـوىً تَذرِفُ العَينــانِ مِنــهُ وإنَّما
    هَــوى كُلِّ نَفسٍ حَيثُ كَانَ حَبيبُهـا
تَناسَيـــتُ بِالهجـرانِ مَيّـــــًا وَإِنَّنـي
    إِلَيها لَحَنّـانُ القَــرونِ طَــروبُهـــا
بَدا اليـــَأسُ مِن مَيٍّ عَلى أَنَّ 
    طَويـلٌ عَلى آثـــارِ مَـيٍّ نَحيبُهـــــــــــا
وَعَن سَوفَ تَدعوني عَلى نَأي دارِها
    دَواعـي الهَوى مِن حُبِّهـا فَأَجيبُهـا

ذو الرُّمة، كما يصفه د. عمر فروخ في تاريخه الأدبي في الصفحة 677 من الجزء الأول، كنيته أبو الحارث بن عقبة بن بهيش بن مسعود بن عمرو بن ربيعة من بني عديّ بن مناة بن أُدّ، وأمه امرأة من بني أسد يُقال لها ظبية، أما اسم ذي الرُّمة فيعني ذي الحبل، لأنّه وصف وتدًا قديم العهد لا تزال عليه قطعة من حبل يشدون به أحد جوانب الخيمة، وقد تهرَّأ هذا الحبل، فقال:
وَغَيرَ مَرضوخِ القَفا مَوتـــــودِ
    أَشعَـثَ باقي رُمَّةِ التَقليـــدِ
نَعَم فَأَنتَ اليَومَ كَالعَمــودِ
    مِنَ الهَوى أَو شَبَهُ المَــورودِ
يا مَيُّ ذاتَ المَبسِمِ المَبـــــرودِ
    بَعدَ الرُقادِ وَالحَشا المَخضودِ
وَالمُقلَتَينِ وَبَياضِ الجيـــدِ
    وَالكَشحِ مِن أُدمانَةٍ عَنـــــودِ

لم ترَ ميّ ذي الرُّمة  بعد أن قضى عشرين عامًا في التغزل بها في أرقّ الكلمات، وساءها عند رؤيتها له فذُهلت، ووصفته عند رؤيتها له بأنه قصيرٌ نحيلٌ أسودُ دميم وقبيح، مدوَّر الوجه، قد برز كتفاه فوق صدره وكان جعد الشعر، لكنه كان فطنًا بصيرًا بالأمور، فصيحًا يُحسن القراءة والكتابة، وقالوا إنه لم يكن لاهيًا بل عفيفًا تقيًّا، وكان في البادية يُعلِّم الصبية القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم، ويُعدّ من عُشاق العرب المشهورين وله قصتا حب، أحب أولًا ميَّ، ثم ابنة مقاتل بن طلبة بن فيس بن عاصم المنقري، وكانت ميَّ تكبره في السن، أمًّا لعدد من الأولاد. 
تعلّق بها فتاة شابة هي خرقاء العامرية من بني تميم البكَّاء بن عامر بن صعصعة، فكان يتغزل بها ولم يطُل به العمر، حيث توفّي عام 117 هـ 735 م. ويبدو أن ميّة كانت متقدمة في السن وأمًّا لعدد من الأولاد، لكنها على جانب من الجمال، لقد تغزل بها ذو الرُّمة عشرين عامًا من غير أن يجالسها ويرى وجهها، أو ينال منها منالًا، ويؤكد ذلك البيتان التاليان:
لَيـاليَ لا مَيٌّ خَــــروجٌ بِــذيّـــَةٌ
    وَلَكِن رَداحٌ لَم يَشِنها قَوامُهـا
كَأَنَّ عَلـى فيها وَما ذُقـتُ طَعمَـــــهُ
    زُجاجَةَ خَمـرٍ طابَ فيها مُدامُهــا

ذكر ذو الرُّمة اسم ميّ والخرقاء في القصيدة البائية في البيت العاشر من ديوان زهير فتح الله:
دِيَـارُ مَيَّـة إِذْ مَيٌّ تُساَعِفُنَــا 
    ولا يرى مثـلها عُجــمٌ ولا عربُ

وفي صفحة 60 من الديوان نفسه ذكرها في البيت الرابع بالقصيدة الرابعة، باسم خرقاء، كما ذكرها في القصيدة الخامسة:
وَقَفتُ عَلى رَبــع لِمَيَّةَ ناقَــتي
    فَما زِلتُ أَبـكي عِنَـدهُ وَأُخاطِبُــه

وذكرها أيضًا في القصيدة السابعة، صفحة 94 من الديوان السابق:
خَليلَيَّ عوجـا بارَكَ اللهُ فيكُمـا
    عَلــى دارِ مَـيٍّ من صدور الركائب

كما ذكرها في القصيدة الثامنة بصفحة 528 من الديوان المذكور:
ألَا حَيّ ربـعَ الدارِ قَفــرًا جُنوبُهــا
    بِحَيثُ انحَنى مِن قِنعِ حَوضى كَثيبُها
دِيارٌ لِمَيٍّ أَصبَــحَ اليَـومَ أَهــلُها
    على طِيَّةٍ زَوراءَ شَـــتّى شُعوبُهــا

تعلُّق الغربيين بذي الرُّمة 
اهتم الغربيون بشعر غيلان بن عقبة أكثر من العرب الذين توقفوا عند غزله لميّ، ولم يتوقف الأكاديميون العرب على الجوانب الأخرى من شعره، واقتصر كل حديثهم على جانب واحد هو الغزل، أما الأوربيون فقد تناولوا كل الجوانب في شعر ذي الرُّمة، حتى تساءل كارليل مكارتني: لماذا لا يتبوأ ديوان ذي الرُّمة مكانة مرموقة على الرفوف العالية بالمكتبات العربية؟ 
طُبعَ ديوان ذي الرُّمة خلال القرن العشرين على طبعتين؛ الأولى بتحقيق  مكارتني عام 1919م، في حين صدرت الثانية عام 1934م، أما الثالثة فكانت لبيلي عام 1964م، واعتمد مكارتني على خمس عشرة مخطوطة من المخطوطات التي توصل إليها من الهند والوثائق البريطانية والقاهرة في المكتبة الخديوية بمصر، ومكتبة لندن والمعهد الألماني، ومكتبة مسجد الفيضية في القسطنطينية، ومكتبة أميروزيان في ميلانو، واستعان بمئة وواحد وثلاثين مرجعًا، ومن مراجعه مرجليوث، ونكلسون وثوربيك، وقراءات في 800 وثيقة بكتاب مكارتني، الذي جُهّز للطباعة عام 1918م، ومعظم الكتب العربية تنسخ من بعضها.
 وتصدر كتب عمالقة الفكر العربي من دون هوامش، ولا مراجع، في العراق وبلاد الشام الكبرى يُهمَل كل الإهمال أي كتاب يخلو من الهوامش والمراجع.
تجول ذو الرُّمة في بلاد عربية عديدة وتأثر بلهجاتهم.
تحدث الإمام الشافعي عن أنه لقي رجلًا من أهل اليمن، فقال له: مَن أشعرُ الناس؟ فقال: ذو الرُّمة، فقلت له: فأين امرؤ القيس؟ فقال الرجل: لو أن امرأ القيس كُلِّف أن ينشدَ شعر ذي الرُّمة ما أحسن قراءته.
ولذي الرُّمة مطوّلة أوردها المحقق زهير فتح الله في قافية الباء:
ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنسَكِبُ
    كَأَنَّـهُ مِن كُلى مَفـــــــــرِيَّة سَـــرِبُ

وبلغت المطولة هذه 131 بيتًا، وذكر فيها اسم ميً... ولذي الرُّمة مقصورات في بيتين وثلاثة أبيات، وجاء المحقق بقصيدة له قالها في مدح فتى من آل مروان، وجاءت في 70 بيتًا، لكنّ قصائده في ميّ مطولات كثيرة ■