شعر المتنبي هو المتنبي الآخَر

شعر المتنبي هو المتنبي الآخَر

يخطئ مَن يظنُّ أن الانحدارات الحياتية التي مارسها المتنبي في حياته هي شخصيته الحقيقية، لقد مدح وهجا وطمع بجمع المال، وقصد كافور الإخشيدي مادحًا متكسِّبًا، وذهب إلى «النوبنذجان» في بلاد فارس، مادحًا وجالبًا معه مالًا يبدو أنه كان السبب الحقيقي لمقتله، لقد هوى فعله في جغرافية المكاني وإغراءاته المادية، لكنّه كان يحمل في أعماقه دويًّا لا يحدّه مدى، وراح يلاحق هذا الدويَّ، ويبحث في الحياة عمّا لم تردْهُ له الحياة، فخلق كونه الآخر في شعر يخجل الموت أن يدنوَ منه، لقد كان خلّاقًا مبدعاً، ولم يدَعِ الموت يدنو من شعره، وتركَ في الدنيا دويًّا كأنما «تَداوَلَ سمعَ المرء أنمُلُهُ العَشرُ»:
ولكنّ قلبًا بين جنبيَّ ما لَهُ
مدىً ينتهي بي في مُرادٍ أحدُّهُ
يرى جسمه يُكسى شُفوفًا ترُبُّهُ 
فيختارُ أن يُكسَى دروعًا تقُدُّهُ    

 

 غاية المتنبي من هذا الانحدار لكسب المادة هي أنه كان يضمر إنسانًا آخر ممتلئًا بالتوتر والقلق والبحث عن الذي أراد أن يكونه، ولكن حياته المادية لم تسمح له بالدنوّ من الكينونة التي كان يريد أن ينجزها، فعاقر الشِّعر وجعله خمرة الحياة التي لا يظمأ من ذاق سَوْرتَها وحدَّاتها التي تهبُ الحياة، كان يؤمن بالأعالي، وهو يجوب المنحدرات حالمًا بامتطاء الفرِس التي يحرك صهيلها كلّ ما في أعماقه من ضجيج، كان يؤمن بأن كل المنحدرات الجغرافية التي سلكها ستوصله إلى حيث يمسك هديره، ليعود إلى الحياة طامعًا في تغييره، وكان يعلم أن لكل شيء ثمنًا لا بدّ من دفعهِ «بجَبْهةِ العَيْرِ يُفدى حافرُ الفرَس».
لقد مدح عن قناعة، فرأى شيئًا من ذاته فيمن يمدحه، واقترب من عظمة البطولة المجتمعة في إنسان، ورأى في خيل سيف الدولة صهيلَ مجده يملأ الدنيا ضجيجًا:

حتى عبرنَ بأرْسناسَ سوابحًا
ينشرنَ فيهِ عمائمَ الفرسانِ
فكأنَّ أرجَلها بتربِة منبجٍ
يطرحن أيديها بحصن الرانِ
إنّ السيوف مع الذين قلوبُهمْ
كقلوبهنَّ إذا التقى الجمعان
تلقى الحسامَ على جراءة حدّهِ
مثلَ الجبانِ بكفِّ كلِّ جبانِ

ومدحَ مُكرهًا مقهورًا، فسكب فيما يكرهه كلّ أوجاعه وأعذبَ وأعماق ما يفجّره القهر في النفوس الكبيرة. والمقهور هو الذي ينتصر أخيرًا، وكان الشعر الخالد هو الراية التي رفعها المتنبي محاولًا إطفاء جذوة غضبه المقدود من مسالكه الوعرة:

تغرَّبَ لا مُسْتعظِمًا غَيرَ نفسِهِ
ولا قابلًا إلّا لخَالِقِه حُكْمًا
كذا أنا يا دنيا، فإنْ شِئتِ فاذهبي
ويا نَفْسُ زيدي في كرائِهِها قُدما

وقارب شعره المقهور المهدور أعالي الكون، وراح يصهل «ومُحكَماتِ الشُكلِ تمنعه ظهورَ جريٍ»، كان المكان قاسيًا، وهو يجري عليه حافيًا إلّا من غضبه وتحوّل غضبه شعرًا خالدًا، وكانت قساوة المكان تجعله يرى المكان ضيقًا وتنقصه الحياة، وكان المكان بحثًا عن لقاء المتنبي في متنبٍي آخر الباحث عن الذي استصغر كل شيء ما عدا ذاته المشتعلة قهرًا من زمن أوضح ما فيه موت المكان نفسه:

ودهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ   
وإن كانت لهم جُثَثٌ ضخامُ
وما أنا مِنهُمُ بالعيشِ فِيهم     
ولكنْ مَعدنُ الذهبِ الرغامُ

والذي يقرأ شعر هذا الإنسان المتفرّد بقهره وشعره يجد أنّ أعظم ما كتبه هذا المقهور كان يأتيه، ويُملى عليه وهو هاربٌ في صحارى عمْرٍ خالٍ من عشبة حياة صديق روحه «جاجامش» كان يصرخ كلما اقترب من الفواجع والدروب القاحلة:

يا ساقيَيَّ، أخمرٌ في كؤوسِكُما   
أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيدُ؟
إذا أردتُ كُمَيْتَ اللونِ صافيةً
وجدتُها وحَبيبُ النفسِ مفقودُ
لم يتركِ الدهرُ من قلبي ولا كبدي
شيئًا تتيِّمُهُ عينٌ ولا جيدُ

ومع تفرُّد شعره المقهور وغزارة ينابيعه لم ييأس من الحصول على عشبة الحياة، بل ظلّ يصهل في وجه الحياة والموت في آنٍ، وصار يرى أنه أصلب من كل عاصفة تجتاح وجوده:

تمرَّستُ بالآفاتِ حتى تركتُها   
تقولُ أماتَ الموتُ أم ذعِرَ الذُّعْرُ  

لم يفقد صخبه أمام ممدوحيه، بل ظلّ يهدر حتى شكّ به ممدوحوه، وحجبوا عنه الكثير، وراقبوا غيضه وفيضه، وكان يمدح ذاته أكثر من ممدوحه، وأمام الجميع كان يحوّل قصيدة المديح مدحًا لذاته أولًا، وكان يقسم القصيدة بينه وبين ممدوحه، ويبدأ بمدح ذاته أولًا، كما في قصيدته الشهيرة عند كافور الإخشيدي:

كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا
وحسْبُ المنايا أن يَكُنَّ أمانِيا
إذا كنتَ تَرضى أن تعيشَ بذِلَّةٍ
فلا تَستعِدَّنّ الحُسامَ اليمانيا
فما ينفعُ الأُسدَ الحياءُ منَ الطَّوى
ولا تُتَّقى حتى تكون ضواريا
وكان يؤكد كثيرًا خصوصيته التي جعلته يعاني من أصدقائه أكثر من الذين أضمروا له العذاب:

إني أُصاحِبُ حِلمي وَهْوَ بي كَرَمٌ
ولا أُصاحِبُ حِلمي وَهْوَ بي جُبُنُ
ولا أُقيمُ على مَالٍ أُذَلُّ بِهِ                 
ولا ألذُّ بما عِرْضي بِهِ دَرِنُ
 
وهناك عند كافور، وهو في أعمق مرحلةِ وجعٍ وقرف من الدنيا ترك لنا شوارد لا أعتقد أنّ أحدًا منّا لا يحفظها عن ظهر قلب ويرددها لأنّها كانت تنبع من أعمق ما في وجدانه من هديرٍ وغضب وقهر، فمَن منّا لا يحفظ قوله وهو في حضرة كافور:

ما كلُّ ما يَتمنَّى المرءُ يُدْرِكُهُ      
تجري الرياحُ بما لا تشتَهي السَّفَنُ

نعم، ذهب إلى بلاد فارس مادحًا، لكنه هناك ظلَّ يقول:

ولكنّ الفَتى العربيَّ فيها     
غريبُ الوَجْهِ واليدِ واللِّسانِ

نقول، ورغم إعجابه بسيف الدولة الحمداني فإنه لم ينسَ ذاته، ولم يَذُب في سيف الدولة أبدًا، بل وقف أمامه وأمام خصومه متحديًا، وهو يقول لسيف الدولة:

سيعلَمُ الجمْعُ ممَّن ضَمّ مجلسُنا  
بأنني خيُر مَنْ تسعى بِهِ قَدَمُ

وكما ترى أن تعاليه على سيف الدولة واضح في هذه القصيدة النازفة كجرح عميق، وكان يهدد سيف الدولة بأنه هو الخاسر إذا رحل عنه:

إذا تَرَحّلْتَ عن قومٍ وقد قدَروُا     
ألّا تُفَارقَهُم فالراحلونَ هُمُ

والأهم من كلّ ذلك أن المتنبي حوّلَ تجربته مع الحياة شعرًا لا يستطيع الدهر أن يدنو منه. إن حكَمَه صياغة تجربة حياة خذلتها الحياة، فجاءت حكمته حياة في الحياة، وربما التقى في كثير من حكمه مع سابقيه، لكنّه استطاع أن يجعل الحكمة لنفسه بما سكب فيها من روحه وعقله وتجربته الطامحة وعبقريّته التي جعلت صياغته الفنية متميزة وعالية الحضور في الذات العربية.
حكمة المتنبي ما زالت مؤثرة بعمق في الوجدان العربي، وذلك بسبب حملها أخلاقيةَ الإنسان العربي الأصيل، إنها زاخرة بسِمات الشجاعة والكرم والمروءة وحماية الشرف واللائذ وذي الحاجة، وصحيح إن غيره ذكر في شعره كثيرًا من سمات الشخصية العربية، إلّا أن حكمة المتنبي تتسم بدخولها الوجدان والعقل في آنٍ، وتمتاز عن حكمة الآخرين بالقلق المثير والحضور الذي لا يبرح والكثافة الصياغية والجريئة في اقتحام الموانع، لذا أعجب به كل من سمعه وعرفه حتى خصومه، وسمَّوه «مالئ الدنيا وشاغل الناس» ■