جبّور الدويهي روائي الحياة اللبنانية

جبّور الدويهي  روائي الحياة اللبنانية

«روائي الحياة اللبنانية»... هو عنوان المجلّد الرابع عشر الذي أصدرَتْه الجامعة الأنطونية في لبنان، ضمن سلسلة «اسم علم»، تكريمًا للروائي اللبناني جبور الدويهي (1949 - 2021)، فجاء عنوانًا على متن، واسمًا على مسمّى. لذلك، أجِدُني مضطرًّا لاستعارته في الحديث عن الروائي الراحل الذي اتّخذ من الحياة اللبنانية، بماضيها وحاضرها، عالَمًا مرجِعيًّا يمتح منه ويُحيل إليه. 

 

يشكّل الدويهي، الذي رحل في 23 يوليو الماضي، إثْرَ صراعٍ طويلٍ مع المرض، عن اثنين وسبعين عامًا، وتسع روايات ومجموعة قَصَصِيّة واحدة، ورواية بالفرنسية للناشئة، علامة فارقة في الرواية اللبنانية، ويزاوج بين شرقيّة الحكاية وغربيّة الخطاب، مستفيدًا من اطّلاعه العميق على الرواية الفرنسية، وهو أستاذ الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية لسنوات طويلة.
في مدينة زغرتا من أعمال شمال لبنان، وُلِد الدويهي عام 1949، وتلقّى دروسه الابتدائية والثانوية، في مدينة طرابلس اللبنانية المجاورة، وتابع دراسته الجامعية باللغة الفرنسية في الجامعة اللبنانية، حتّى إذا ما رغب في متابعة دراساته العليا يَمَّم شطر فرنسا، وحصل على الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة.
وبعد عودته إلى لبنان، راح الدويهي يجمع بين التدريس في الجامعة اللبنانية، والكتابة في مجلة  L’Orient Express، وملحق L’Orient Litteraire  الصادرين في بيروت، والترجمة من الفرنسية إلى العربية، في آنٍ معًا. أمّا الكتابة الروائية فكان عليها أن تنتظر إلى مرحلةٍ لاحقة.
يأتي الدويهي إلى الرواية متأخِّرًا، ففي السادسة والأربعين من العمر، أصدر روايته الأولى «اعتدال الخريف» عام 1995، لِتَلِيَها ثماني روايات تباعًا، كانت آخرَها «سُمُّ في الهواء»، التي صدرت بعد رحيله.
وبذلك يكون قد أصدر 9 روايات خلال ربع قرن، أي بوتيرة رواية واحدة كلَّ سنتَيْنِ ونصف السنة. وعلى الرّغم من تأخُّره وقلّة عدد رواياته مقارنةً بآخرين، فقد استطاع الدويهي أن يُقيم مشروعه الروائي الخاص، وأن يَشغل موقعه على خريطة الرواية العربية، وأن تكون له روايته التي تحمل جيناته الروائية. وهو في هذا المشروع يرصد الواقع اللبناني والعربي بما يعتوره من أعطاب مختلفة، ويطرح أسئلة الفرد والجماعة في عالمٍ متحوّل، وأسئلة الهويّة والانتماء في فضاء من الهويّات المتقاتلة.

اعتدال الخريف
في «اعتدال الخريف» (1995)، روايته الأولى، يتناول نمط الحياة في بلدة شمال - لبنانية، وعلاقات أهلها فيما بينهم، والروابط التي تشدّهم إلى السماء والأرض، «كأنّهم لم يأتوا من أيّ مكان، نبتوا هنا مستظلّين السماء وشجر الجوز، يتوارثون الأرض ويتنازعون عليها بقساوة وطول أناة. لا يأتمنون الكتب على تاريخهم الذي يتناقلونه في رواية واحدة، يعرفونها عن ظهر قلب، ويوم يكتبونها تكون نهايتهم»، على حدِّ تعبيره.  وهو يفعل ذلك من خلال يوميات بطل الرواية العائد من المغتَرَب، يستعيد فيها حكايات الأهل التي تُؤذِنُ بانتهاء حقبة وابتداء أخرى، ويعيش غربة ثانية في الوطن بعد أولى في المهجر، ويحاول تغيير الواقع الغريب.

ريّا النهر
هذه الحكايات أيضًا هي ما تستعيده «ريّا النهر» (1998)، رواية الدويهي الثانية، على لسان بطلتها ريّا، صاحبة مطعم الدوّار القائم على ضفة نهر رشعين، فَغَرَقُ الرسام موسى، العائد من المهجر، والعاجز عن إكمال لوحاته، في النهر، يُحدِثُ نقصًا في حياة ريّا يضاف إلى نقص اللوحات، ويفتح أبواب الحاضر على الماضي، فتروح تستعيد حكايات روّاد المطعم أيام العز، في محاولة منها للتعويض عن النقص المزدوج في الحياة والفن، وإعادة التوازن المفقود إلى الحاضر.

عين وردة
ولا تبتعد «عين وردة» (2002)، رواية الدويهي الثالثة، كثيرًا عن موضوع النزاع على الأرض، الذي تطرحه روايته الأولى؛ فتتناول صراعًا أُسَرِيًّا على منزل قديم مرهون للوقف الذري بين أفراد أسرة واحدة، من ذوي الطباع المتنافرة، والأمزجة الحادة، الذين يتظاهرون بالتضامن الأُسَري أمام الآخرين، ويعيشون دراماهُمُ الخاصة فيما بينهم، فلا يتورعون عن التنابذ والتخاصم وإهانة بعضهم البعض، لتغدو جدران المنزل الجامع الوحيد بينهم. وبذلك يُعري الدويهي الازدواجية التي تطبع شخوص الرواية، ويُفكك النفاق الذي يعتور تصرّفاتهم.
  
مطر حزيران
ويمضي جبّور قُدُمًا في رصد الانقسامات المختلفة بعالمه المرجعي؛ فينتقل من الصراع الأُسَرِي في «عين وردة» إلى صراع عائلي في «مطر حزيران» (2006)، روايته الرابعة، يختلط فيه العائلي بالحزبي والانتخابي والوطني. وهو صراع تدور رحاه أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في بلدة شمال - لبنانية. ينطلق الصراع من واقعة تاريخية هي المجزرة التي ارتُكبت في بلدة مزيارة عام 1957 على خلفيّة انتخابية، مما يجعل التاريخي منطلَقًا للروائي. وفي هذه الرواية، يُفكّك الدويهي النظام الاجتماعي القائم على التعصّب العائلي، والطبقيّة الاجتماعية، وإعلاء قِيَم الذكورة، والثأر، والتباهي بالسلاح، وحماية الغريب.
 
شريد المنازل
في «شريد المنازل» (2010)، روايته الخامسة، يتخطى الصراع الإطارَيْن، الأُسَرِي والعائلي، إلى الإطار الوطني؛ فيتناول الدويهي التحولات الاجتماعية والسياسية في لبنان خلال الربع الثالث من القرن العشرين، ويرصد الإرهاصات المتراكمة التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ويصور الأحلام المكسورة لجيلٍ كامل، ويطرح سؤال الهوية الملتبسة في مجتمع تعددي، من خلال شخصية نظام العلمي، بطل الرواية، الجامع بين إسلامية الولادة ومسيحية الرعاية والإقامة، في آن. ذلك أن تَوزُّع نظام بين الانتماءات المختلفة، وعدم انتمائه إلى أيّ منها، لا يشفعان له، فيلقى حتفه على أيدي ميليشيا مسلمة لمجرد كونه يحمل اسمًا مسيحيًّا. ولعل الدويهي يقول في هذه الواقعة إن الحياد في الحروب الأهلية لا يحمي صاحبه، وإن الانتماء إلى أحد الفريقَيْن المتحاربَين هو الذي يحمي. إنه سؤال الفرد في الجماعة المنقسمة على نفسها.

حي الأميركان
يتعدّى الصراع في «حي الأميركان» (2014)، روايته السادسة، الإطار الوطني إلى ما عَداه؛ فيتناول الدويهي النزاعات التي لا يخبو أوارها في غير مكان من العالم العربي، بفعل العمى الأيديولوجي والتعصب الطائفي. ويرصد تحولات حي الأميركان بمدينة طرابلس اللبنانية، في اللحظة التاريخية الراهنة، وانعكاساتها على الإنسان العربي في مناطق النزاع. وهي نتاج تراكمات تاريخية، سياسية واجتماعية، آلَت إلى ما تعيشه هذه المناطق، الآن وهنا. والدويهي يفعل ذلك من خلال العلاقات بين شخوص الرواية المتحدرين من منابت متعددة، المتوزعين على أطراف الصراع المختلفة.

طُبِعَ في بيروت
في روايته السابعة «طُبِعَ في بيروت» (2016)، يعيد الدويهي طرح سؤال الفرد في مواجهة «الجماعة» وقِيَمِها، من زاوية أخرى؛ فبطل الرواية الشاب المغمور الذي يسعى إلى نشر كتاب يصطدم برفض دور النشر تباعًا له، حتى إذا ما نشرت إحداها نسخة واحدة فاخرة من الكتاب، يتمّ استخدامها دليلًا لإثبات تورطه في تهمة تزوير ملفقة له. وهكذا يقع الشاب ضحيّة احتيال دار النشر، ويتردى الفرد في مهاوي الفشل والخيبة والعزلة جرّاء معركته غير المتكافئة مع «الجماعة».

ملك الهند
السؤال نفسه يطرحه الدويهي في «ملك الهند» (2019)، روايته الثامنة، من زاوية أخرى أيضًا؛ فيتناول تداعيات الانقسام اللبناني، السياسي والاجتماعي، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على الفرد. وهو يفعل ذلك من خلال حكاية زكريا المبارك، العائد من المهجر إلى ضيعته شرق بيروت، ليُعثَر عليه بعد فترة قتيلًا في كرم المحمودية. وإذ تتعدد السيناريوات المفتَرضة لعمليّة القتل، فإنها تُجمِع على أنه ضحية صراعٍ، طائفي أو عائلي أو اجتماعي، ومع هذا يتم حفظ القضية باعتبارها عملية انتحار.

سمّ في الهواء
ولا يبتعد الدويهي في روايته التاسعة والأخيرة «سُمّ في الهواء» (2021)، عن المسار الروائي الذي اختطه لنفسه في رواياته السابقة، القائم على ثنائيات من قبيل: الخارج / الداخل، العام / الخاص، المهجر / الوطن، الظروف / الإرادة، القَدَر / الخيار، الجماعة / الفرد، الحرب / الملجأ، وغيرها.
 على أن الملاحظ في جميع رواياته أن الطرف الأول في كل ثنائية ينتصر على الطرف الثاني. 
لذلك، نرى بطل الرواية يمضي العمر في التنقل من مكان إلى آخر، بفعل الحروب المتعاقبة، طلبًا للأمن والأمان. ويكون له في كل مكان علاقات عابرة، حتى إذا ما أتعبه التنقل بين الأمكنة، بعد سلسلة تجارب ومغامرات شهد خلالها أحداثًا كبرى، يؤول إلى عزلة قسرية، يدرك خلالها عبثية الحياة ولا جدوى النضال، وينتهي مهزومًا في معاركه على مختلف الجبهات.
***
بهذا المسار الروائي، استطاع الدويهي أن يحجز لنفسه موقعًا خاصًّا على خريطة الرواية العربية، وأن تحظى رواياته بحفاوة النقاد والقراء، وأن تُتَرجم إلى عدد من اللغات العالمية، وأن ينال بعضها الجوائز الأدبية؛ وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن رواية «اعتدال الخريف» فازت بجائزة أفضل عمل مترجَم عن جامعة أركنساس الأميركية عام 1995، وأن روايات «مطر حزيران» و«شريد المنازل» و«ملك الهند» وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورات مختلفة، وأن رواية «روح الغابة» للناشئة حازت جائزة سانت إكزوبيري الفرنسية عام 2001، ونالت رواية «شريد المنازل» جائزة الأدب العربي عام 2013، في حين حصلت رواية «حيّ الأميركان» على جائزة سعيد عقل للإبداع الأدبي عن فئة الرواية عام 2015 من جامعة سيدة اللويزة في لبنان. 
ومن المصادفات الجميلة، في هذا السياق، أنني حصلت على الجائزة نفسها عن فئة الشعر، وجرى تسليمنا الجائزة مع آخرين في احتفال تكريمي للفائزين ■