نحو آليّات لقراءة ناجحة في شِعر عفيفي مطر

نحو آليّات لقراءة ناجحة في شِعر عفيفي مطر

  يَشيعُ عند بعض مَنْ يقرأ شعرَ محمد عفيفي مطر أن فيه كثيرًا من الغموض، ورُبَّما يكون هذا الأمر أكثر شُيوعًا لدى مَنْ يقرأ عفيفي مطر لأَوَّل مرة، ويقلُّ تدريجيًّا عند من اعتاد قراءته، وأجال النظر مرةً بعد أُخرى في قصيدته، ومع ذلك لن يستبعد المتلقي شيئًا مِن التشتُّت، وضياع أطراف القصيدة، أو انفلات نواصيها مِنْ قبضته، غير أن القراءة الدقيقة (الناجحة) لشعر عفيفي مطر سوف تمنح المتلقي مفاتيح للمقاربة الدلاليَّة، وتخفض حدة التشتت، وتعزِّز الاطمئنان إلى وجهات القراءة.

 

على الرَّغم من اتساع مفهوم لغة الشعر؛ لتتجاوز حدود الكلمات والتراكيب إِلى كلِّ ما يُسهم في بناء النص؛ فليس هناك شعر إِلّا في إِطار الكلمات والتراكيب؛ ليتأكد القول بأَنَّ «الشاعر أو الناثر مبدع تراكيب قبل أَن يكون مبدع فن أدبي معيّن، وكلّ عبقرّيته إِنَّما تتمثل في قدرته الخاصة على تركيب مفرداته على نحو معيّن ينتهي بها الأمر إلى أَنْ تصير رمزًا كليًّا يشير إِلى تركيب ذهني كلّي أيضًا»، على أَنَّ هذا التركيب الذي يَصيرُ فيما بعدُ رَمْزًا، لا يَحْدُثُ بشكلٍ عشوائيٍّ، وإِنَّما يَخْضَعُ لنظامٍ خاص؛ «ذلك أَنَّ لكلِّ كلمة وهي منفردة معنى خاصًّا تتكفل اللغة ببيانه، وللكلمات مركبةً معنى؛ هو صورة لما في أَنفسنا، ولما نقصد أَنْ نُعَبِّرَ عنه ونؤديه إِلى الناس. 
 وتأليف الكلمات في كلِّ لغة يجري على نظام خاص بها، لا تكون العبارات مفهمة ولا مصورة لما يُراد حتى تجري عليه، ولا تزيغ عنه». وهَذَا النِّظامُ مَهْمَا كانَتْ صرامته، وجُمُود قواعده؛ إِلَّا أَنَّه لا بُدَّ مِن (الأَخْذِ في الاعتبار) مراعاته للدلالة، وقدرته على أَنْ يَعْكسَ أَحْوالَ الأُمَّة؛ لأَنَّ اللغةَ التي ترسُفُ في قُيُودِهَا دُونَ مراعاةٍ لِعلاقاتِهَا وصلاتها التركيبيَّة لَنْ تَسْتَطِيعَ تفسيرَ بِيئَاتِها.
وكان عفيفي مطر أحد هؤلاء العباقرة الذين صاغوا تراكيبهم؛ حتى صارتْ رموزًا ذهنيَّة كليَّة، تعكس نبضَ العالم من حوله، وهذه مهمة صعبة، وإِنَّ الشاعر ما لم يأخذ في الحسبان العلاقات والصلات التركيبيَّة؛ فلن تؤتي هذه التراكيب أُكلها، وسوف تكون أقرب إلى خَبْط عشواء وتهويمات قائمة على رصِّ الكلمات وتجاورها دون علاقات بينها؛ عندئذ سوف يتحسس القارئ الواعي ذلك الأمر، ويستطيع أنْ يفرز الشعر عن غيره.

قراءات منتجة للدلالة
في ظلّ هذه التراكيب الرمزيَّة تكون هناك مساحة من الإبهام والتشتت لا تخفى، لكنَّها لن تقف عائقًا في إنتاج الدلالة بقدر ما تعمل على إِنمائها وتعددها، وفي إِطارِ توضيح حُدود التشتت في الشعرِ العربيِّ المعاصرِ لا بُدَّ مِن الإِشارةِ إِلى أَن المقصود مِن التشتتِ ليسَ ذلك التعتيم الذي ينعدمُ معه التأويلُ، ولا يُؤدي إِلى قراءةٍ ناجحةٍ؛ «ذلك أَنَّ الحضورَ القويَّ للدلالةِ يعني مركزية الدلالة»، وهو ما ليس مرجوًّا في قصيدة الحداثة وما بعدها.
وفي ظلِّ القول بانفتاح النص ووجود قارئ منتج؛ تتعدد القراءات المنتجة للدلالة، ويتوقف اعتماد تلك القراءات على درجة نجاحها، لكن كيف لنا أنْ نقيس تلك القراءات؛ ليتأكد نجاحُها مِنْ عدمه؟  القصيدة المعاصرة مليئة بكثير مِنْ العناصر (خارج النص وداخله) منها: النصوص الموازية، أو الجسور الدلاليَّة، والإِشارات، والإحالات التي توجِّه القراءة إلى الصواب، مِن خلال الربط بين دلالات هذه الدوال، وإِنَّ درجة القراءة الناجحة تتحدد مِنْ خلال الاقتراب من هذه العناصر واستفزازها أو الابتعاد عنها، مِنْ أخذها بعين الاعتبار والدقة، أو إهمالها. ولا يُعدُّ هذا الإجراء مِنْ قبيل التفسير للشعر أو فرض دلالة بعينها، وإنَّما هو مقاربة لقراءة ناجحة.
والقراءة الناجحة تتفق مع الذوق العام، أو في جزء منه، مع احتفاظها بخصوصيتها، وتُعَدُّ القراءة لعناصر النصِّ المحيط فِي شعر عفيفي مطر منْ الآليات التي تُعينُ على سبرِ أغوار النصِّ، والتلذُّذ به، وفكّ شفرات التراكيب الرمزيَّة وتوجيهها توجيهًا صائبًا.

العناوين
العنوانُ أحدُ بنى النصِّ المُنْفَتِحَة على كثيرٍ مِن فضاءَاته الداخليَّة والخارجيَّة، وقد حَرَصَ الشاعرُ العربيُّ المعاصرُ على اختيار عناوين دواوينه وقصائده بعناية؛ حيث وَجَدَ في العنوان بوابةً رئيسةً للدُّخولِ إلى النصِّ، فاجتهد في بناء بوَّابته. وتنوَّعت العناوينُ بين بسيطةٍ ومركَّبةٍ؛ فجاءَتْ في كلمةٍ أو أكثر، ورُبَّما جاءَ العنوانُ شطرَ بيتٍ شعريٍّ، أو جملةً مِنْ بين جُمَل القصيدة، أو عبارةً تراثيَّةً، أو مقولةً تاريخيَّةً، أو غير ذلك، على أَنَّ هناك علاقة تناصيَّة ترتبط هذه العناوين بالنُّصوص الداخليَّة. وتمثِّل عناوينُ عفيفي مطر نُصُوصًا لغويَّةً مُكَثَّفةً، تقرؤها مثلما تقرأ نُصُوصَه الشِّعريَّةَ، لا خلافَ فِي ذلك بينَ عناوين دواوينه وعناوين قصائده؛ ويُفيد المتلقي مِنْ جميعِها فِي توجيه مقروئيَّة النصِّ، وبعض عناوين قصائد عفيفي مطر لا تصل إلى النصّ إِلّا مِنْ خلال عنوانٍ فرعيٍّ، على سبيل المثال قصيدته (ألف قيامة لموت واحد - مرثية لاغتيال شامل باسييف) - التي استوعبتْ أكثر عناصر النص المحيط، وجاء النص الإبداعي فيها امتدادًا للنص المحيط - قد جاء عنوان القصيدة في سطرين، أو على مقطعين: الأول منهما هو العنوان الرئيس (ألفُ قيامةٍ لموت واحد)، ثمَّ أعقبه الشاعر بعنوانٍ فرعيٍّ جاء تمييزًا وتفسيرًا له؛ يزيل توهُّمَ المتلقي، ويدفع إلى القراءة الناجحة؛ حيث كشف العنوان الفرعي غياهبَ النص بأكمله، وعلى العكس من ذلك إذا لم يذكر عفيفي مطر العنوانَ الفرعيَّ: «مرثية لاغتيال شامل باسييف»، وغيرَه مِن النصوص المحيطة بالنص الإِبداعيِّ لم نكد نقترب مِنْ تأويل قوله:
كان رمحٌ من دمائك يشرخُ الملكوتَ،
فاعرج... ليس من حرجٍ على الأعرج
واعرج وطُف «بالنقش بند»
ارقصْ وطالِعْ دورةَ الأفلاكِ
واخطف وردةَ الدم من حرائق قندهار

كذلك إذا لم يُشر عفيفي مطر إلى ذلك في هوامشه؛ حيث قال: فَقَدَ شامل باسييف إحدى ساقيه في معاركهم ضد الروس.

  تراكيب رمزيَّة
مِن آليات القراءة الناجحة: العناية بقراءة (الشخصية) إِذَا ما جاءتْ عنوانًا للقصيدة، ولا يكون ذكرها (داخل النص أو على جوانبه) إلّا عن قصديَّة تامة، ومِن الشخصيات ما يجيءُ مِنْ باطن التراث، ومنها ما هو حديث، وفي الحالين فإنَّ استدعاء الشخصية عنوانًا للنصِّ إِيذان بقراءة النص الإِبداعي قراءة ناجحة؛ قريبة أو بعيدة الدلالة، وعفيفي مطر مِن أكثر الشعراء المعاصرين استدعاءً للشخصيات في العناوين، ومن ذلك على سبيل المثال قصائده: «من ذاكرة الأرض: محمد عبيد»، «مرثية إلى أنور المعداوي»، «عن الحسن بن الهيثم»، «تحريضات عمر»، «من طقوس مقتل عمر»، «معلّقة ماتادور الأبد (في مئوية لوركا) وحوليات الإبادة الجماعية»، وهذا النوع مِن الاستدعاء للشخصيات؛ يأتي بمنزلة رمز يُحَمِّله الشاعر فكره، ومعتقده، وقضاياه، فهي شخصيات يثق بها الشاعر المعاصر؛ فيجعلها مركزًا أو محورًا لنصه. ومهما أسرف الشاعر في الإتيان بالتراكيب الرمزيَّة البعيدة التي تحول دون بلوغها؛ فإِنَّ هناك مفاتيح كثيرة تُسهم في إِنتاج الدلالة؛ وعناوين القصائد (بوصفها البوابات الأُوَل للنصوص الإِبداعية) جديرة بأَنْ تؤلفَ شتاتها، وتلمَّ شملَها مِنْ أجل مقاربة القراءة وصلاحية التأويل.
وقد لا يُسعف العنوانُ المتلقي أو يُعينه على القراءة التأويليَّة النَّاجحة؛ إِذا لم يصل إلى النصِّ مباشرة، أو لم يجد جسرًا يَعْبُر عليه إلى النصِّ، ولو أَنَّنا قرأنا - على سبيل المثال - قصيدة عفيفي مطر «ترنُّ الجلاجلُ في أعناق الإبل»؛ لذهبتْ بنا قراءتُنا كلَّ مذهب، إلى كثيرٍ مِن الدلالات؛ منها ما نطمئن إليه، ومنها ما لا نطمئن إليه. وتظلُّ القصيدة ذات انفتاح مُطلق على التأويل، فضلًا عمَّا ينزل بالمتلقي مِن توتر، واندهاش، وإعمال للذهن.
 أنا وردةُ الرملِ...
ليلُ الخليقة هدأةُ طلٍّ وقطرُ ندى،
والضحى نفسٌ يتعالى ببوحِ حنينٍ إلى
بلدٍ لستُ أعرفُهُ وإلى ولدٍ لم ألدْهُ
ونايِ رغاءٍ وسجعِ حداءٍ بعيدٍ يقلِّبُهُ
أبيضٌ يتلألأ ما بين فرثٍ وبين دمٍ،
لا يسامرُني غيرُ ظلِّي

  إشارة غير مباشرة
بعد قراءة المقطع الأَوَّل مِن القصيدة؛ يُلاحَظُ أنَّ العنوان لا ينفذ إلى الدلالة بصورة واضحة؛ حيث جاء العنوان بمنزلة إشارة غير مباشرة، وليس من السهل على المتلقي أنْ يجزم بإِحدى قراءاته، لكنّ للمتلقي أنْ يذهب صوبَ كلِّ قراءة لا يتسرّب إِليها الفساد، ولا تُعَدُّ مِن قبيل القراءات الواهمة. وإنَّما تتأتى القراءات الناجحة من خلال الاستمرار في القراءة، وتحرِّي الحقول الدلاليَّة المتقاطعة في العنوان والنص، وافتراض الدلالة التي تلامس شيئًا من إشارات النص وشفراته.
وإِذا كان العنوان قد افتقد جسرًا مباشرًا للدخول إِلى النص؛ فإِنَّ النصَّ لا يعدم وجود أكثر مِن معبرٍ (حقول دلاليّة) تُمَهِّد جميعها لقراءة متوازنة غير شاردة، ولا يخفى ذلك في المقطع السابق؛ حيث اشتمل على بعض الكلمات مثل: (الحنين، البلد، الرغاء، الحداء، الثرى، الأثر، القوافل)، وغيرها مِمَّا يكون له دور مهم في الاطمئنان إلى القراءة التأويليَّة.
وبمواصلة القراءة، والربط بين الحقول الدلالية في العنوان «ترن، الجلاجل، أعناق، الإبل»، وبين أقربائها في النص، وبتتبعنا لقصائد الرحلات العربية القديمة، ووسائل تلك الرحلات مِن نوق، وحداء، وهوادج، وطرق، إِضافة إِلى الوقوف على رمزيَّة التراكيب الذهنيَّة؛ نكون قد اقتربنا من الافتراضات الصادقة التي تُمهِّد لطرح دلالات النص.
إِنَّ الاهتداء إِلى التأويل النَّاجح لا يَذْهبُ بدهشة المتلقي، ولا يجعله يَعُود فيما ذَهَبَ إليه أوَّلًا مِن تفوّق الشاعر؛ ذلك أَنَّ مراحل الوصول إِلى هذا التأويل قد أَخَذَتْ مِن القارئ مأْخَذَها، وأنَّ لصعود السلّم نَحْو ذلك أَثرًا في النفس لا يغيب، كما أَنَّ الدَّهشةَ باقية ومستمرة تَسْتَفِزُّهَا كلُّ مُطالعةٍ جديدةٍ في النص.
 
الإِهْدَاءَات
مثلما يُفيد القارئُ مِن العناوين في بلوغ القراءة النَّاجحة؛ فإِنَّه يُفيد أَيضًا مِن الإِهداءات بوصْفِها بوصلة إِنْ لم تُحدِّد الاتِّجاه الصحيح فإِنَّها تُشيرُ إليه، وتنمُّ عنه، وتُوحي به، ولم يكن للإِهداءات مكانٌ مُحدَّدٌ مِن الديوان، بل يُعرَف مكانها حسب وجودها، فمنها ما يجيءُ في صدور الأَعمال (الدواوين)، ومنها ما يجيءُ في صدور (القصائد)، ومنها ما يجيءُ مُتأخرًا فِي نهايات (الدواوين والقصائد) على غير العادة، وأيًّا كان مكانها، فإنَّ وجودَها في «الدواوين أو القصائد»، في «صدورها أو نهاياتها»؛ له أهميته في توجيه القراءة ومقاربتها، وإِنتاج الدلالة؛ ووُجودها في صدر الديوان يُمثِّل مدخلًا لعالم كبير مِن الثقافات، والتقاطعات النصيَّة، والزمانية، والمكانية، وتفسيرًا لكَمٍّ مِن الإِشارات، والإِسقاطات، وغيرها. ولم تكن إهداءات مُحمَّد عفيفي مطر عفوية، وإنَّما كان يكتبها بعناية كتابته للنصِّ الشعريِّ، وفيها تكمن أبعاد تاريخيَّة، ودينيَّة، وفلسفيَّة، وسياسيَّة واجتماعيَّة، وقد يخلط فيها بين كلِّ ما سبق، ويشعر القارئُ بشموخ تلك الإهداءات، التي تلتقي معظمها، في مدح الحقيقة والإِنسانيَّة.
وعفيفي مطر في إهداء ديوانه «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، يقول: «جرأة إهداء / إلى محمد / سيدِ الأوجه الطالعة/ وراية الطلائع من كل جنس/ منفرطٌ على أكتافه كلُّ دمع/ ومفتوحةٌ ممالكهُ للجائعين/ وإيقاعُ نعليه كلامُ الحياةِ في/ جسدِ العالم». ثمّ يُوقّعُ «محمد».

حملٌ ثقيلٌ
في إهداء ديوانه «كتاب الأرض والدم»، يقول: «صرخة إهداء / (إلى ولدَيَّ الطالعين من دمي عنقوديْن/ من عناقيد الحلم وشجاعة انتظار الشمس:/ إلى ناهد ولؤي)»، وفي إهدائه ديوانه «شهادة البكاء في زمن الضحك»، يقول: «إهداء لم يسعفه وقت الروح/ إلى الشيخ عفيفي عامر مطر:/ على الجمر الهادئ لقرآن الفجر وركوة / الأوراد وعنفوان الروح وصرامة / التحديق في مصائر الخلق بين موت/ وحياة وحق باطل... كانت كرمتي/ تخضرُّ وتُساقط منثورَ الحصرم ومنظومَ/ الدمع على بساطٍ من رماد الأزمنة».
فقد أهدى عفيفي مطر دواوينه الثلاثة السابقة إلى شخصيات مختلفة؛ حيث أهدى ديوان «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» إلى شخصية (محمد)، وقد نَعَتَه مطر بِعِدَّة نُعوت، جميعها تتَّفق على تَفَرُّد هذه الشخصيَّة، وسُمُوِّها، وإِعجازها الذي أُيِّدَتْ به، أَوَّل هذه النُّعُوت أَنَّه سيَّد الأَوجه الطالعة، وآخرها أنَّ إيقاعَ نعليه كلامُ الحياةِ في جسدِ العالم، وقد اعتبر مطر أَنَّ هذا الإِهداء جرأة منه. 
انتهى الشاعرُ مِنْ إِهدائه، وسوف يقع على المتلقي حملٌ ثقيلٌ، ويكون المتلقي أكثرَ جرأةً إِذا أَفْصَحَ عَنْ كُنْه هذه الشخصيَّة، أو أَجَابَ عن الأَسئلةِ التي يُثيرُها الإِهداءُ، ويأتي في مُقدِّمتِها: مَنْ (مُحمَّد) هذا؟... سوف يذهبُ المتلقي إِلى قراءة هذه الملامح في عِدَّةِ وُجُوه، وسوف يكونُ في مُقَدِّمتِها شخصيَّة الرَّسُول محمد صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ، لكنَّ قراءة الديوان سوفَ تكشفُ أكثر عَنْ ملامح هذه الشخصيَّة، ومع ذلك تظلُّ المُراوغَة قائمة، تَتَجَدَّدُ مَع كلِّ قِرَاءَة. وإِذا كانَ الشاعرُ في إهدائه للديوانين الآخرين قد كشف عَنْ هويَّة الشخصيَّات التي أَهْدَى إِليها؛ فإِنَّه قد حَمَّلَها محمولات فكريَّة، وسياسيَّة، ودينيَّة، واجتماعيَّة، وأطلق لتأَوُّلِها عِنان الرؤية والتَّخيل.

التَّصْدِيرَات
تعمل التصديرات الشعريَّة والنثريَّة في قصيدة عفيفي مطر، مع غيرها مِنْ عناصر النصِّ المحيط على مقاربة القراءة، وقد جاءت قصيدته «ألف قيامة لموت واحد» على أربعة مقاطع، كل مقطع يتصدره اقتباس، مجموع هذه الاقتباسات يُمثِّلُ أحد عناصر النصِّ الموازي، إِضافة إِلى العنوان الأَصلي والفرعي، ثم الملحق المترجم عن الأغنيتين اللتين وردتا في رواية «الحاج مراد»، لتولسْتوي.
وقد جاءتْ التصديرات النثريَّة التي قدَّم بها مطر لمقاطع القصيدة بمنزلة آلة تفكيك للتراكيب الرمزيَّة في القصيدة، فهو مثلًا يُقدِّم للمقطع الأَوَّل بقول تولسْتوي: «اجتمع الشيوخ في الساحة، جالسين في حلقات ليناقشوا الوضع. لم يتحدث أحد عن كراهيتهم للروس؛ لأنَّ ما كان يشعر به الشيشانيون صغارًا وكبارًا، كان شيئًا أقوى من الكراهية. ليست كراهية، بل اشمئزازًا ونفورًا وحيرة في مواجهة هؤلاء الكلاب الروس وعنفهم الغبيّ، والتطلع نحو محوهم كما تُمحى الفئران، والعناكب السامة والذئاب»، ثُمَّ يقول عفيفي مطر:

رفَّتْ على وجهِ الصبيِّ فراشتانِ
وحطَّتا غمازتينِ تشعشعانِ
إذا تبسَّمَ - بالحليبِ وشقشقاتِ الماءِ،
تنغرسانِ - إن غضبت ملامحُهُ - كبرعمِ دمعتين...

ومثلما لم يتحدث الشيوخُ - كما جاء في التصدير مِن المقطع الأَوَّل - عن كراهيتهم للروس؛ لأَنَّ ما يشعرون به أَقوى من الكراهية؛ تبعهم مطر في النصِّ الإِبداعيِّ؛ حيث ركَّز على البطل بؤرة اهتمام النص، وبزيادة الضغط على ضمير المخاطب ترتفع كفّته، وتهبط كفة أعدائه. 
وقد أسهم التصدير النثري الذي جاء به الشاعر في توجيه القراءة؛ حيث كانت أقرب إِلى ذكر شامل باسييف في العنوان، ثُمَّ إنّ الضمائر في المقطع الشعري دارتْ بين الغيبة والخطاب، وهي للشخصية ذاتها.

مفاتيح حقيقية
هكذا يُصدِّرُ مطر المقاطع الثلاثة الباقية بكلمات لكلٍّ مِن سولجنيتسين مِن روايته «أرخبيل جولاج»، والجنرال باراكوف، وبوريس يلتسين، والجنرال أليكساندر ليبيد، ويجدُ المتلقي في هذه الكلمات مفاتيح حقيقية يصلُ مِن خلالها للنصِّ الشعريِّ، يُضاف إِلى ذلك المقدمة النثريّة التي ذَكَرَها مطر في صدر الملحق، وترجمته لأُغنيتين وَرَدَتَا في رواية «الحاج مراد» لتولسْتوي: «أُغنية أم»، و«أغنية ثأر»؛ فجاء هذا الملحق تأكيدًا على أَنَّ رثاءَ باسييف رثاءٌ لكلِّ المناضلين في هذا الشعب القوقازي، بل في كلِّ الشعوب المغتالة.
وعلى الرَّغم مِن اليقين الذي قد يُسَيْطر على المتلقي - منذ تَعَرَّفَ العنوان على النصِّ - بالتسليم بالدلالة الكلية للنصِّ؛ فإِنَّه بمجرد الدخول إلى قراءة النصِّ الشعري تأخذه بعضُ التراكيب بعيدًا حتى يكاد يفقد تلك الملامح الأوليَّة التي استقرتْ عنده في أوَّل الأمر، لولا أنْ تتداركه بعضُ الحقول الأُخرى التي تُعيد التوازن إلى القراءة.
كلُّ هذه الاقتباسات التي صدَّر بها الشاعرُ مقاطعَ قصيدته لا تنال مِنْ حريَّة المتلقي أو النص الإبداعي شيئًا؛ ذلك أَنَّها تُمثّل إشارات على جوانب النص، تستوقف المتلقي ولا تُعيقه، وتحمل النصَّ على مواصلة السير، تستعيد طاقته الإنتاجية، وتجدد أفقه الدلالي، كما أنَّها تُوجد مساحةً زمنيةً تتفجَّر مِنْ خلالها دراما شعريَّة عالية، تستمد ملامحها مِن الإيقاع، والبناء التشكيليّ، والسرديّ، كما تمثّل هذه الاقتباسات أحد طرفَي مفارقة صنعها اتحاد النص النثري مع الشعري؛ وتعمل على خلق أجواء متّسعة من التحاور النوعي الممتد بين النصوص. ولو أننا جرَّدنا النصَّ الشعريَّ من هذه الإِشارات، وأهملنا التعامل مع العلاقات والصلات التركيبيَّة داخل النص؛ لذهبنا إلى قراءات شتى، يتشظَّى معها النصُّ تشظيًا تَصعب معه القراءة الناجحة، والتي مِن شروطها توجيه الإشارات توجيهًا صادقًا.

بُؤْرَةُ الاسْتِدْعَاء
يُسهم الاستدعاءُ - إلى جانب التناص داخل النصِّ وخارجه - في تفكيك النصِّ الشعريِّ عند عفيفي مطر؛ حيث يكون للاستدعاء أكثر مِنْ وظيفة، فضلًا عن وظيفته الفنية، يعمل على اتساع دائرة الدلالة؛ إذْ يمثّل أثرًا قويًّا يفتح الآفاق المعرفيَّة أمام المتلقي.
 وليس هناك مكانٌ محدد لوجوده في النص، فقد يجيء في متنِ النَّصِّ الشعريِّ، وقد يجيءُ في العناوين، أو التصديرات، أو في خاتمة النص، أو فيها جميعًا، وتتنوع صور الاستدعاء، ويأتي في شعر عفيفي مطر ما بين آياتٍ قرآنيَّة، وأبياتٍ شعريَّة، وأَقاويل نثريَّة، قد تجيءُ في صدر القصيدة أو المقطع، كما تجيءُ في نهاية القصيدة أو المقطع، وتمثّل مفاتيح للنصِّ تعملُ على فكِّ «شفراته»، وتُسهم بشكل كبيرٍ في إنتاج الدلالة، ومنها على سبيل المثال استدعاء مطر لقوله تعالى: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ» في صدر قصيدته «معلّقة دخان القصيدة»، والتي يَسْتَهِلُّها بقوله: «أنتَ لم تقرأ كتابَ الكون إلاَّ لمحةً»، ومنها استدعاؤه في صدر قصيدته «إيقاعات الوقائع الخُنوميَّة»، لهذين البيتين:
اللهُ يعلمُ أَنِّي لا أُحِبُّكُمُو 
ولا أَلُومُكُمُو أَلّا تُحِبُّونِي
لوْ تَشْربونَ دَمِي لَمْ يُرْوَ شَاربُكُمْ
وَلا دِمَاؤُكُمُو جَمْعًا تُرَوِّينِي

وهما مِنْ شعر ذي الإصبع العدواني، مِنْ قصيدة كتبها في أحد أبناء عمومته، في واقعة ما، وحين يستدعي عفيفي مطر قول ذي الإصبع العدواني؛ فإنَّه يجعله قبالة أعيننا، بملامحه، وثقافته، ومواقفه، ودُفُوعه، ومن خلال هذا الاستدعاء؛ نستطيع أنْ نقرأ قصيدة عفيفي مطر، ونعي ما فيها مِن تراكيب ذهنيَّة، ورُموز، ونكون على مقربة منه. ومن ذلك أيضًا استدعاؤه لبيتَي المعرّي في مطلع قصيدته «آخِرُ الصيدِ أوَّلُه»:
أرى العَنْقاءَ تَكْبُرُ أن تُصادا؛ 
فعانِدْ مَنْ تُطِيقُ لهُ عِنَادَا
وما نَهْنَهْتُ عن طلَبٍ، ولكنْ
هيَ الأَيَّامُ لا تُعْطي قِيادا
وتُمثل هذه الاستدعاءات في شعر مطر بُؤرًا مركزيَّةً تُسهم في الكشف عن مغاليق القصيدة، ومِنْ خلالها تتفجَّرُ كثير مِن خبايا شعره.

   فِي خَاتِمَةِ المَقْطَعِ والنَّص
إنَّ خاتمةَ النصِّ شيءٌ افتراضيّ، والقول بوجودها لا يَحدُّ مِنْ تعدُّدِ الدلالة واتّساعها، بل إِنَّها مِن العناصر المهمّة التي تُساعد على قراءة النصّ رغم تأخرها، وتمثِّل إحدى أَيقونات تأويله. ورُبَّما لم يهتم بعضُ النّقاد بخاتمة النصِّ مثل اهتمامهم بِمُقَدِّمتِه، وقد لا يُدْرِجُونها أَصلًا ضمن عناصر النصِّ المحيط؛ على أَنَّها في الغالب تأتي من رحم النصِّ الإبداعيِّ. لكنّ قراءة الخواتيم وتتبُّعها لا يقلُّ أهمية عن قراءة المطالع وتتبُّعها، لا سيَّمَا إذا اشتملتْ الخواتيم على تناصّ أو استدعاء، وكان ذلك لأحد الشعراء القدامى أو المحدثين. وقد تجيء الخاتمةُ لمقطعٍ، أو لقصيدةٍ. وقد احتفى مطر كثيرًا بخواتيم المقاطع والقصائد؛ فاستدعى إليها مِنْ قديمِ الشِّعرِ، كما فعل ذلك في بعض مَطَالع قصائده، وقد جاءتْ تلك الخواتيمُ تتمَّةً، أو تلخيصًا، أو تلميحًا أو بُؤرةً دلاليَّة مِنْ شأنها أَنْ تُبقي على استمرار إِنتاجيَّة النصِّ لِمَا بَعْد الخاتمة، ومثالها فِي المَقْطع عند عفيفي مطر، ما وَرَدَ فِي نهاية المقطع الثاني مِنْ قصيدته «يصيدون الأسماء»:
وتقطَّعت سبلي إلى نفسي،
وروَّعني مقامُ الشعرِ في الفوضى،

وجوهرُ جمرةٍ يرفضُّ في شرر الغواية والسؤال:
أأنتَ ما كنتَ ابتغيتَ
أم الترحُّلُ محضُ غاشيةِ المنامْ؟! 
وعدَدْتُ آبائِي إِلى عِرْقِ الثَّرَى
 فدَعَوْتُهُمْ فعلمتُ أَنْ لم يَسْمَعُوا
ذَهبُوا فلم أُدرِكهمُو ودَعَتْهُمُو 
غُولٌ أَتَوْها والطَّرِيقُ المَهْيَعُ

إذْ يختتم مطر المقطع الثاني ببيتين مِنْ شعرِ «مُتَمِّم بن نُوَيْرة اليَرْبُوعي»، وقد جاءتْ الخاتمةُ المُسْتَدْعَاة مِنْ قول مُتَمِّم بن نُوَيْرة مُنْسَجِمَةً مع ما قبلها مِنْ قول عفيفي مطر في الوزن والسياق، وإِضافة إلى أنها تُمثل إحدى أيقونات الدلالة فِي النصِّ؛ فإِنَّها تُحيلُ على أُخرَى تنبثقُ عَن النصِّ الغائب؛ لِيُؤسِّسَا معًا تلاقيًا مُمْتدًّا وإرثًا باقيًا، يَشْهد على التشابه والتعاقب.

عامل مشترك
مِنْ استدعاءات مطر الشعريَّة فِي نهاية القصيدة استدعاؤه ثلاثة أبيات مِن شعر عبدالقادر الجيلاني، تقع في نهاية المقطع الأخير مِن قصيدته «ألف قيامة لموت واحد - مرثية لاغتيال شامل باسييف»:

مَا فِي الصبابةِ مَنْهَلٌ مُستعذَبُ 
إِلاَّ وَلِي فيهِ الألذُّ الأطيــبُ
أوْ فِي الوصالِ مكانةٌ مخصوصَةٌ
إِلاَّ ومنزلَتِي أَعـزُّ وأَقـــربُ
أنا بلبلُ الأفراحِ أملأُ دَوْحَها
طربًا، وفي العلياءِ بازٌ أشهب

وهي كما هي مِنْ ديوان عبدالقادر الجيلاني، وهذا الاستدعاء يُحفِّزُ القارئ للبحث عن إِيجاد علاقة، أو للسؤال عَن علاقة الجيلاني بـالنص الشعري، أو بشامل باسييف، ولعل مطر قد تَحَسَّسَ عاملًا مشتركًا بين باسييف والجيلاني يَكْمُن في التأييد الإلهي، والاختصاص الرَّبَّاني؛ ليكونَ البعدُ الصوفيُّ مُعْطًى مِن معطيات النص؛ ويتحوَّل فعل المناضل باسييف إلى حالة مِن حالات الوجد الصوفيّ.
 وقد اتسع الفضاءُ النَّصيُّ فِي شِعر مطر لِغير ذلك مِن الجسور، والحقول الدلاليَّة، والبُؤر التناصيَّة والاستدعائيَّة، التي يكون لحضورها أثر فِي إغناء المُتلقي عن التخبُّط والتحيُّر والتردُّد، وهي بصفةٍ عامةٍ تعملُ إلى جانب عناصر النصِّ المحيط على كشف مغاليق النصّ الشعريِّ، وتؤدي إِلى قراءته قراءة صائِبة، تزيد من انفتاحه، ونماء دلالاته، وهذا ما يدفع إلى القول: بأنّ كلّ سطرٍ في شعر مطر يُوحِي أكثر من دلالة؛ ممَّا يجعل تلك الدلالات تتزاحَمُ في الحضور؛ عِنْدَئِذٍ لن نصفه بالغموض؛ ذلك أنّ تلك الأيقونات المعرفية، والإِشارات المركزيَّة - إذا ما وُجِّهَتْ تَوْجيهًا صحيحًا - تقود المتلقي إِلى الاطمئنان فيما يذهب إليه ■