«الآخر العدواني» والرواية العربية «سباعية» إحداثيات زمن العزلة ﻹسماعيل فهد إسماعيل

«الآخر العدواني» والرواية العربية  «سباعية» إحداثيات زمن العزلة  ﻹسماعيل فهد إسماعيل

ربما كان الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل هو مَن رسّخ لفن الرواية في الكويت، ولا غضاضة في أن تكون روايته «إحداثيات زمن العزلة» هي عمود الخيمة، على الرغم من أنها رواية مقاومة لمواجهة العنف، مع تجربة شرسة مع الآخر العدواني العربي، لتؤكد الرواية والروائي أن رواية المقاومة رسّخت لفن السرد الروائي منذ بشائر إنتاج الرواية العربية أواخر القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ20.

 

لم تغفل القريحة العربية «الآخر»، منذ أن نشطت وأنتجت شعرًا ونثرًا، تعبيرًا عن الذات الجمعية. صحيح غلبت قيم الحياة البدوية فانحسرت الذات الجمعية في العشيرة تارة وفي القبيلة تارة أخرى، إلّا أنها بدت وتبدت ناضجة مع نضج العقل العربي والانفتاح على العالم، خصوصًا بعد الفتوحات الإسلامية، والاحتكاك بالآخر المتنوع والمغاير.
إجمالًا، يمكن القول إن القريحة الإبداعية العربية لم تهمل «الآخر»، بل إنها فقط وضعته في إطار مفاهيمها السائدة، وقيمها المتجددة (قبل الإسلام وبعده)، والذي تحدد في التالي:
- الآخر.. (هو التاريخ وشخوصه، تلك التي تتلبس الفضيلة الكاملة أو الرذيلة، هو الفرد القريب/ البعيد في إطار الجماعة وقيمها، هو دواخل النفوس، حيث تعبّر الأفراد عن الصفات، هو الكوني الميتافيزيقى، من قمر ونجوم وكواكب متصارعة، أو حتى متحابة، هو المثل الأعلى خصوصًا بعد الإسلام).

 الآخر الذي نعني
يبدو أن «الآخر» كمصطلح، أو مفهوم أنطولوجى، يعدّ من المفاهيم الملتبسة، وإلا فما دلالة مقولة الشاعر الفرنسي رامبو: «الأنا شخص آخر»؟ كما قال المفكر أريك فروم: «تتجلى الرغبة في التوحد مع الآخرين عبر أدنى أنواع السلوك، مثل الجنس، وأسماها مثل التواصل الوجداني والعقلي»، وهو يدلل بذلك على حاجتنا إلى الآخر حتى نتكامل، لأن «الآخر» وهو كل ما يختلف عن «الأنا»، هو مجال الإنساني الذي يتخارج فيه الإنسان عن نفسه، ويتعيّن وجوده في شكل موضوعات خارجية.
وهو ما يراه د. رمضان بسطويسى، فيقول «إن الإنسان في حالة صراع دائم وبناء مع اليأس، ويمثّل الآخر جزءًا من وجودنا، ونحن نمثّل جزءًا من وجوده، ودائمًا ما تكون العلاقة بين الأنا والآخر ذات بُعدين، الاتصال والانفصال، فكثيرًا ما يكون وجودنا استجابة لما يثيره الآخر فينا من أفكار وردود أفعال تجاهه».
إن مفهوم «الآخر» في العقلية العربية تداخل - وانبثق في الآن نفسه - مع مفهوم «الهوية» خلال مرحلة النضج والانفتاح العربي على الآخر، مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولم تكن تلك المرحلة إلا محصلة جدلية لكثير من الأحداث والخبرات الجديدة على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية التي كثيرًا ما تغفل.
لقد تبدّى «الآخر» خلال القرن الماضي وبدايات الحالي (فترة الاتصال المباشر والكثيف مع الآخر الأوربي والأمريكي) في الأشكال التالية: الآخر الغربي بشموله الفكري والحضاري - الآخر الغربي نموذجًا يحتذى - الآخر الغربي القابل للتحدي والمواجهة - الآخر الغربي العدواني (سواء بالعدوان المباشر والاحتلال أو الهيمنة بأشكالها المختلفة).

خصوصية التجربة الكويتية
يصعب الانتقال إلى صورة «الآخر العدواني» في التجربة الكويتية، فلمّا كان التناول السابق يشير إلى «الآخر العدواني» غير العربي، المدفوع بنزعات ومبررات سياسية/ اقتصادية تخصه، نجد التجربة الكويتية عام 1990م تتعرّض لعدوان من «آخر» عربي، وتدفعه نوازع شريرة شرسة غير مبررة.
كان الآخر المعبّر عنه في الرواية العربية: هو غير العربي؛ رواية «أديب»/ طه حسين»، «الحي اللاتيني/ سهيل إدريس»، «نيويورك 80/ يوسف إدريس»، «بالأمس حلمت بك/ بهاء طاهر»، «ترحالات/ يحيى الرخاوي»، «موسم الهجرة إلى الشمال/ الطيب صالح»، «ملف الحادثة 67/ إسماعيل فهد إسماعيل»، «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل/ إميل حبيبي»، «اللاز/ الطاهر وطّار»، «الجبل الصغير/ إلياس خوري»، «السفينة/ جبرا إبراهيم جبرا»، «حكاية زهرة/ حنان الشيخ»، «الوشم/ عبدالرحمن مجيد الربيعي»، «قلوب على الأسلاك/ عبدالسلام العجيلي»، «كوابيس بيروت/ غادة السمان»، «عائد إلى حيفا/ غسان كنفاني»، «لن نموت غدًا/ ليلى عسيران»، «الوباء/ هاني الراهب»، «وسمية تخرج من البحر/ ليلى العثمان»... وغيرها.
أما الصورة التي استجدّت فهي قيام «آخر» بإلغاء هوية «آخر»، واللذين تجمعهما العديد من الأمشاج، حيث جاء ذلك مع مخاض عالَم جديد، كشف عن نفسه جليًّا مع بدايات القرن الواحد والعشرين بتلك الحروب الإقليمية في منطقة البلقان وأفغانستان، وأخيرًا العراق.
وربما كانت جملة قيم المرحلة التي بدأت مع غزو العراق للكويت، ومازالت، هي التوسع في الاستخدام التكنولوجي بديلًا عن الإنسان حتى في مجال العواطف، واللامبالاة الأخلاقية، وطريقة التفكير التي تتخذ من ثقافة معيّنة المثل الأعلى للتفكير، وحروب الإنسان ضد الإنسان تحت شعارات زائفة، وبات التواصل المباشر بين البشر أقل حميمية بعد ثورة الاتصالات الهائلة.

«سباعية» إسماعيل الفهد 
كانت صورة الآخر العدواني في الرواية الكويتية واحدة تقريبًا، تتصف بالفظاظة والقسوة والشراسة إلى حد اللاإنسانية، ونكتفي هنا بالإشارة إلى رواية إسماعيل فهد إسماعيل المسماة «إحداثيات زمن العزلة/ سباعية روائية»، التي تقع في 2500 صفحة بحجم كبير، مع اﻹشارة إلى المنتج الروائي لليلى العثمان وفاطمة العلي وغيرهما.
الرواية بأجزائها السبعة - (الشمس في برج الحوت - الحياة وجه آخر - قيد الأشياء - دوائر الاستحالة - ذاكرة الحضور- الأبابيليون - العصف)، تعدّ رحلة ممتدة لأحدهم، لعلّه الروائي نفسه (من أين له همّة ينهض لكي يتوجه يلتقط سماعة التليفون... «آلو... نعم»...» سيدي سلطان، أردنا نسألك إن كنت تأذن لنا نقفل المكتب؟!»... «ماذا؟»... الصوت يعرف مصدره. شاب من العاملين لديه... «لعلك لم تعرف بعد!»... «وأضاف في وضوح: «الجنود العراقيون).
  (يوم احتلال عربي متفرد بطبيعته.. الأحداث.. تواتر لاهف ولا منطقي في الوقت نفسه... الحياة حالة التحام بالموت، والموت.. «من أين لك قدرة التأقلم؟!».. كانت الساعة جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل حين أوى سلطان إلى ديوانيته... ينام).
(رفضك أو سخطك.. قلقك أو جزعك.. حالات انتيابك.. التحامك بالحياة وهي تتأهب للموت.. نقاط السيطرة بانتشارها طول البلاد وعرضها، عسكر الاحتلال واستخباراته.. انبثاثهم في كل مكان... وجود مكثف ضاغط يُشعرك بأنه عندك، يراك، يراقبك، يترصدك، يؤكد حضوره بأفعال بطشه...).
(شهر أغسطس - من خلال ارتهانه - بدا أطول شهور العمر. شهر سبتمبر - بمخاضاته - صار أطول من سابقه، وها هو أكتوبر.. «حتى متى؟! «سؤال محدد كاد يحتل مكان الصدارة بأذهان الكويتيين»).
(طال أمد الاحتلال، لدرجة اعتياد وجوده بالصيغة التي تفرّد بها، مقارنة مع أيّما احتلال آخر في زمان ومكان معيّنين. العسكر - كما هو بادٍ - يحكمون البلاد من خلال آلاف نقاط السيطرة، وقد رابطت لدى كل تقاطع شوارع أو منعطفات... بحثًا عن مخربين وأسلحة).
(الأيام العشرة الأخيرة من ديسمبر. شتاء الاحتلال يختلف عن شتاءات أخرى سبقت. مراوحة ما بين اليأس والقنوط. نفاد الصبر إزاء إيغال سلطات العدو إجراءاتها الهادفة إلى طمس الهوية الكويتية أكثر).
(اعتياد الناس - داخل الكويت - على الحرب الجوية أكثر فأكثر. قناعتهم بأن الأخطار لا تتهددهم بشكل مباشر، في هذه المرحلة على الأقل. الحياة - يومًا بعد يوم - تعود إلى الأسواق الطارئة على ضفاف المناطق الكويتية، مع ملاحظة تناقص أصناف السلع المعروضة، وندرة الأساسي منها).

حنكة روائية غالبة
هكذا يعرض الروائي لجُملة ملامح الاحتلال على أرض الكويت، في صياغة أقرب إلى السَّرد الزماني المستقيم، والمكاني المتعدد، مع الشخوص الأقل رسمًا، حتى يكاد أغلبها يبدو بلا ملامح محددة.. وبلا صراعات جانبية تحيد القارئ عن محور العمل الأساسي، ألا وهو إبراز أفاعيل المحتل يومًا بيوم، وربما ساعة بساعة.
والرواية، في هذا الإطار، تقع بين فن اليوميات/ المذكرات، وفن القص الروائي. فإذا قُرئ العمل على أنّه مذكرات، فالحنكة الروائية غالبة. وإذا قرئ على أنه رواية، فالتتابع الزمني المستقيم والبعد عن التفاصيل وخصوصية الشخصيات، كلها تجعل العمل أقرب إلى الرواية الوثائقية التسجيلية. ذلك «الفورم» أو الشكل الروائي الذي ابتدعه الأدباء الروس بعد الحرب العظمى، ثم راج وانتشر، وإن ارتبط أكثر بروايات «أدب المقاومة». 
 وينتهي العمل الروائي وقد مات من مات، وسُجن من سجن، وخرب ما خرب، وبقي البحث عمّن غاب أو اختفى هدفًا، حتى يعرف أهله ما آل إليه.. موتًا أو سجنًا!
تعدّ الرواية من الأعمال الراصدة لتجربة حربية ثقيلة على النفس وعلى الوطن، ويبقى للروائي فضل الصبر عليها حتى أنجزها على هذا الحجم الضخم. ولعل هذا التوجه هو ما يبرر «الإهداء» المسجل في الصفحة الأولى: «إلى كل من يهمّه الأمر»... كأنه بلاغ إلى البشرية!

كلمة أخيرة
ستبقى للتجربة الكويتية خصوصيتها بالنظر إلى معطيات القيم الدينية والتراثية، بل والإنسانية، ولعلها في كل جوانبها السياسية والعسكرية والإنسانية والفكرية، فهي تعد نهاية مرحلة وبداية أخرى على مستوى الوطن العربي، لعلها في ذلك توافقت مع كل متغيرات القرن العشرين.. الذي هو نهاية وبداية للتاريخ والتجربة الإنسانية بكاملها ■