رحلة السماء بين دانتي وأبي العلاء

رحلة السماء  بين دانتي وأبي العلاء

يعد أبو العلاء المعرّي (973 - 1057) ودانتي أليجيري (1265 - 1321) من كبار الشعراء في كل من «العربية» و«الإيطالية»، وكلاهما تمكّن بما قدّم من إسهام ثقافي، من أن يتخطى حاجز المحلية لبلاده إلى آفاق الثقافة الإنسانية الرحبة.  كان أبو العلاء كفيفًا لا يكاد يخرج من بيته، حتى إنه عُرف بـ «رهين المحبَسين»، (العمى والبيت)، حين عكف على كتابة عدد من الرسائل المهمة، من أبرزها «رسالة الغفران»، أما دانتي فكان محاربًا وسياسيًّا ينتمي إلى حزب الجولف الذي انقسم إلى بيض وسود.

 

كان السود - مدعومين من البابا أنوسنت الثالث - قد تمكّنوا من الانتصار على البيض في فلورنسا، وإلقاء القبض على ستمئة منهم، من بينهم دانتي الذي نُفي وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، فعكف على كتابة عمله الأبرز «الكوميديا الإلهية».
يمكن القول إنّ كلا الرجلين حمل على أكتافه الميراث الثقافي لأمته، حتى إننا نشعر ونحن نقرأ كلّا من «رسالة الغفران» و«الكوميديا الإلهية» بمدى انشغالهما بالتاريخ الثقافي العميق لهذه الجماعة، فأبو العلاء استعرض معرفته القوية بالشّعر العربي في العصر الجاهلي، ورموزه ومفرداته ومواطن جماله وهنّات ضعفه.
أما دانتي فقد أعلن من الأبيات الأولى في ملحمته مدى انتمائه للثقافة اليونانية القديمة، بشعرائها وفلاسفتها وخطبائها، واتخذها بما تمتلكه من تعدُّد وتنوُّع نوعًا من الرد على الثقافة الوحدانية المسيحية، وما انتاب مؤسسة البابوية من فساد، وما تقوم به من استثمار للدين في العمل السياسي.
حين نتأمل مسيرة الرجلين نجد أنهما كانا أكبر من كونهما شاعرين في ثقافتيهما، فأبو العلاء كان فليسوفًا وناقدًا وأديبًا كبيرًا، كان معتزلًا أقرب إلى الفلسفة الوجودية المتشائمة، فقد بصره في الرابعة من عمره بسبب الجدري، لكنّه كان مثالًا للنضال الإنساني، فسرعان ما طوّر حواسه الأخرى لتكون بديلًا عن البصر، فتوقّد ذهنه وقويت ذاكرته واشتعلت بصيرته، وانتقل من مسقط رأسه إلى دمشق لتلقّي العلم، حيث حفظ الشعر ودروس النحو، وكتب أول شعره وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم انتقل إلى بغداد عاصمة الخلافة، فسمع عن أشرافها، وقرأ عليهم شعره، حتى لمع نجمه وبرز كشاعر وناقد ولغوي وراوٍ، لكنّ وفاة والده أصابته بالحزن، فعاد إلى معرّة النعمان واعتكف في بيته لا يخرج منه، مجافيًا أي طعام من الحيوان، ومنتجًا ديوانه الشهير «سَقْط الزَّند»، وعددًا من الرسائل عن الجنّ والملائكة والغفران وغيرها، مبرزًا مدى عبقريته في ديوانه «لزوم ما لا يلزم»، حيث ألزم نفسه بغريب اللغة والوزن والقافية والتراكيب.

علاقة وطيدة
في «رسالة الغفران» تجلّت معرفة أبي العلاء بالشعر، ليس فقط في العصر العباسي الذي عاش فيه، وأنجز  كتابه «معجز أحمد» عن أبرز شعرائه، وهو أبو الطيب أحمد المتنبي، ولكن أيضًا في العصر الجاهلي، حيث الشعراء الذين تتبَّع خُطى رواتهم، جامعًا عنهم، ومحققًا لرواياتهم، كاشفًا عمّا هو أصيل لهم، وما هو منسوب إليهم، عارفًا بمواطن الجمال والضَّعف لديهم، لنجد أنفسنا أمام مسرح يحاور فيه الكاتب شعراءه القُدامى، حيث يلتقي في الجنة زهير بن أبي سلمى، وعبيد بن الأبرص، وعديّ بن زيد العبادي، والنابغة الذبياني، ونابغة بني جعدة، وأعشى قيس، والشماخ بن ضرار، ولبيد بن أبي ربيعة، وعمرو بن أحمر، وتيم بن أبيّ، وحميد بن ثور، وغيرهم، ثم ينتقل إلى النار فيلتقي امرأ القيس، وعنترة العبسي، وعلقمة بن عبدة، وعمرو بن كلثوم، والحارث اليشكري، وطرفة بن العبد، وأوس بن حجر، وعامر بن الحليس، والأخطل التغلبي، والمهلهل، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، والشنفرى، وتأبّط شرًّا، وغيرهم، سائلًا إياهم عن شعرهم وما انتحله الرواة عليهم، وما يأخذه  كناقد على بعض نظمهم، وراصدًا مشاهد من العذاب وأخرى من النعيم، مستعينًا بما ورد في القرآن الكريم عن الجنة والنار، وما يمكن أن تقدّمه مخيلة عصره عن يوم الحساب وطلب الشفاعة وأسباب دخول بعض مَن لم يدركهم الإسلام الجنّة.
انطلق أبو العلاء في رسالته من الرد على رسالة لـ «ابن القارح»، وهو شاعر وأديب وسياسي خدم في بلاط الحاكم بأمر الله في مصر، وبلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، وبلاط أبي القاسم في إيران، وكانت له علاقة وطيدة بالقرامطة في البحرين، وقد أبرزت رسالته (حققتها ونشرتها د. عائشة عبدالرحمن مع «رسالة الغفران» في مجلد واحد صدر عن دار المعارف المصرية، ثم صدرت منه حديثًا طبعة جديدة عن مكتبة الأسرة في الهيئة المصرية العامة للكتاب) السيرةَ الذاتية الطويلة له، والتي انتهت بأن ضيّق عليه أبو القاسم، مما جعله يكتب في مثالبه ما شاء، لكننا لا نعرف ما الذي جعل أبا العلاء يتحمس للرد على ابن القارح، جاعلًا منه بطل رحلته المتخيلة بين الجنة والنار، ولسانه الذي يحاور به الشعراء القدامى، مستعرضًا من خلاله مدى معرفته بالشعر ورواياته وأخباره وغريب لغته ومشتقاته.

دافع مختلف
لكن الدافع لدى دانتي في كتابة «الكوميديا الإلهية» كان مختلفًا، فبعدما تم نفيه من فلورنسا وجد نفسه حبيسًا عن وطنه، معطلًا من قدراته السياسية والاجتماعية، وموقنًا بأن البابوية واستغلالها للدين هما سبب نكبته ونكبة وطنه، ومن ثم جاءت الكتابة نوعًا من فضح البابوية على استغلالها للدين من أجل أغراض سياسية، ساخرًا من هذه المنظومة التي ضربها الفساد، واضعًا «الكوميديا الإلهية» عنوانًا واضحًا لرغبته في السخرية والفضح، ومنتصرًا للثقافة اليونانية في مواجهة الفكرة المسيحية، لذا جاء عمله على غرار الملاحم اليونانية الكبرى؛ سواء «الإلياذة» أو «الأوديسة» أو «الإنيادة»، بل إنه اختار فرجيل، صاحب «الإنيادة»، كي يكون رفيقه ومرشده في الرحلة إلى العالم الآخر، معتنيًا بالتخطيط الفني الجيد لعمله الذي قسّمه إلى ثلاثة أقسام هي الجحيم والمطهّر والفردوس، وراسمًا جغرافية واضحة لدرجات وطبقات الجحيم والفردوس.
كان هدف دانتي في عمله بالأساس اجتماعيًّا سياسيًّا أكثر منه ثقافيًّا، لذا اشتملت الجحيم على دوائر الانتهازيين والشهوانيين والشرهين والجشعين والغاضبين، والهراطقة المسيئين للجار، والمسيئين لله والفن والطبيعة، والمنتحرين، وغيرهم، بينما اشتملت الجحيم السفلية على خنادق المخادعين والخبثاء والسمعانيين والعرّافين والمرتشين والمنافقين واللصوص والناصحين بالخديعة وزارعي الشقاق والمزيفين للنقود والكلمة والشخصية، وفي الحفرة المركزية للجحيم وضع خونة الوطن والأقارب والضيوف والأسياد، بينما اشتمل القسم الثاني المعنون
بـ «المطهر»، على هؤلاء الذين تأخروا في توبتهم، فتأخروا بدخولهم الفردوس ثلاثين ضعفًا، وهم الكسالى والموتى بلا مراسم والذين قُتلوا بالعنف والحكام المهملون والمتكبرون والحاسدون والغاضبون والمتقاعسون والجشعون والمبذرّون والشرهون والشهوانيون، وفي القسم الثالث (الفردوس) تصطحبه حبيبته بياترس، بدلًا من فرجيل الذي اختفى، فيمرّان على مدارات السماء، حيث الساعين إلى الشرف كالامبراطور جوستنيان، والمحبين كشارل مارتل، وفي مدار الشمس يلتقيان بآباء الكنيسة، ومن بينهم توما الأكويني والبابا دومينيك والقديس فرانسيس، كما يلتقيان بالفلاسفة والجنود الصليبيين، ثم الحكام العادلين والمعتدلين، مثل داوود وتراجان وحزقيا وقسطنطين ووليم الصقلي وريفيوس الطروادي، ثم المتأملون من أمثال دميانو الذي يكيل الانتقادات للفساد البابوي، والقديس بنديكت، وفي المدار الثامن، حيث ما أسماه بالنجوم الثابتة يلتقي دانتي بالمسيح ومريم العذراء والرُّسل والملاك جبرائيل والقديس بطرس والقديس يعقوب ويوحنا الرسول، حيث يعلن لهم دانتي عن رجائه في إنهاء نفيه عن فلورنسا، متشفعًا بقصيدته «الكوميديا»، وباختبار رجائه فإنه ينجح، وتتم إدانة الفساد البابوي من قبل القديس بطرس الذي يوضح أن البابوية أصبحت منظمة للسياسة والتفتيش، ومن ثمّ فهي منظمة دموية، معددًا جرائمها، وطالبًا من دانتي أن يذيع بين البشر في الأرض الغضب الذي رآه في السماء على البابوية وما صارت إليه.

بداية كلاسيكية
كان الموضوع لدى أبي العلاء مختلفًا عمّا طرحه دانتي في «كوميدياه»، حيث حكمت الفكرة لديه الثقافة السائدة في وقته، فقد جاءت «رسالة الغفران» في الوقت الذي بدأت الثقافة العربية إنتاج المصنفات الفنية الكبرى، كـ «الأغاني» للأصفهاني و«طبقات الشعراء» لابن سلّام الجُمحي و«إعجاز القرآن» للباقلاني و«الحيوان» للجاحظ وغيرها، وكانت في غالبيتها تمزج بين الشعر والأخبار والنقد الأدبي، وكان كل كاتب يختار الحيلة المناسبة له كي يستعرض من خلالها بحر ثقافته الواسع، لذا جاءت البداية لدى أبي العلاء كلاسيكية معتادة، بحسب تقاليد الكتابة في عصره، حيث الرسائل التي يبرز من خلالها الكاتب ما يودّ طرحه، أو يردّ من خلالها على ما طرحه غيره، ولأن أبا العلاء كان معنيًّا بالشعر أكثر من النثر، ولأن الانتقالات في الشعر أسهل وأبسط، والخيال فيه أكثر نشاطًا وسعة، فقد انتقل من مدح رسالة ابن القارح، حيث وصفها بالكلم الطيب الذي يرفع صاحبه إلى السماء، إلى تقديم تصوره الخاص بالجنة، وهو تصور استقاه من ثقافته الإسلامية، ومن تطور الحياة الاجتماعية في عصره، فضلًا عن بعض الخيال الذي أضفاه على مظاهر الحياة في هذا العصر. لينتقل بعد ذلك إلى الصراط، ونتعرف منه على كيف دخل ابن القارح الجنة، لكنّ فضول ابن القارح ورغبته في المعرفة يدفعانه للتعرف على أهل النار ومحاورتهم، ثم يعود أبو العلاء في النصف الثاني من رسالة الغفران ليردّ على رسالة ابن القارح.

تصور فلسفي
من ثمّ فإن منطق السرد لدى المعرّي مختلف عنه لدى دانتي، فالأول كان منشغلًا باللغة والأدب والشعر ورواياته وغريب مفرداته وألفاظه، ولم ينشغل - على نقيض دانتي - بنقد الواقع الاجتماعي، ولا تقسيم طبقات الفردوس والجحيم، ولا إعادة توزيع أهل هذه الدرجات وفقًا لتصور فلسفي اجتماعي، كما فعل دانتي، هذا الذي هدف إلى تقويم مظاهر الفساد في مجتمعه، بدءًا من الفساد الشخصي الصغير، وصولًا إلى الفساد البابوي المنظم الذي يستغل الدين لمصلحة الحروب والمكاسب السياسية، مما يهدر مزيدًا من الدماء، ويغضب أهل السماء على البابوية وفعلها في أهل الأرض.

بين الفصل والمزج
لا يمكن القول إن أبا العلاء هدف إلى السخرية من التصور الإسلامي للجنة والنار، فرغم أنه كان معتزليًّا متشككًا، فإنه سعى إلى أن تحظى رسالته بالقبول لدى المجتمع الرافض للتشيُّع والتصوف، ومن ثم اعتمد في بناء تصوره عن الجنة على الكثير من المفردات الواردة في القرآن الكريم والسنّة وبعض روايات السلف، إلّا أننا نرى أن مجرد طرح هذا التصور في حد ذاته هو نوع من الجرأة على المخيلة العربية الحاكمة في هذا الوقت، والذي لا نستطيع نحن في زماننا الآن أن نقدّم على طرح مماثل له، لأنّ الثقافة الإسلامية قامت على الفصل التام بين السماء والأرض، بينما قامت المسيحية على المزج بين السماوي والأرضي فيما يُعرف بطبيعة المسيح (الإلهية والبشرية)، ومن ثمّ كان من السهل لدى دانتي أن يسخر من المنظومة الدينية في زمنه، وأن يقدّم تصورًا متكاملًا عن طبقات الجحيم والفردوس، متجاوزًا الوقوف عند العتبات إلى محاسبة البابوية على فسادها.
اعتمد دانتي في رحلته على فرجيل كمرشد له في العالم الآخر، والتقى مئات الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية، فضلًا عن الشعراء والفلاسفة والمفكرين، مقدمًا مبررات دخولهم الجنة أو النار، وهي مبررات وأسباب غير التي اعتاد البابوات الركون إليها في كنائسهم، وبدا احتماؤه بالثقافة اليونانية والرومانية واضحًا في مواجهة البابوية أو الوحدانية المسيحية، فحسبما يقول حنّا عبود في مقدمة ترجمته لـ «الكوميديا الإلهية»: «إن المحور الأساس الذي يجعلنا نفهم دانتي وموقعه وموقفه في الكوميديا وغيرها هو الوحدانية المسيحية الغربية كما كانت تمارسها البابوية في العصور الوسطى، ولم يكتفِ دانتي بالوقوف ضد الممارسة البابوية وحسب، بل طرح أيضًا العقائد الوحدانية وناقشها، ووقف ضد بعضها تصريحًا أو تلميحًا، لكن ما هي الوحدانية المسيحية؟ إنها مجموعة الأفكار والعقائد التي انتشرت في روما، ثم في بقية الأقطار والمدن الإيطالية وغير الإيطالية، لتقف وتكافح الثقافة اليونانية القائمة على التعددية، حماية لمصالحها وتأكيدًا لكاريزميتها واحتكارها القرار الإلهي».

عمل صعب
جاء دانتي بعد أبي العلاء بنحو ثلاثة قرون، لذا كانت فكرته أوضح من فكرة أبي العلاء، فالقصدية الفنية فيها أقوى، والتخطيط لها أكبر وأكثر دقة، وأهدافها الاجتماعية والسياسية والدينية أكثر ثورية وشمولًا، حتى إننا يمكننا أن نعتبر أنها «الكوميديا الإلهية» كانت حجر الأساس الذي خرجت منه حركة التنوير والنهضة الأوربية في القرنين السابع والثامن عشر، ورغم أن الفارق الزمني بين دانتي وأبي العلاء كبير، فإنه من الصعب الجزم بقراءة دانتي لرسالة الغفران، لأنه لو قرأها بـ «العربية» ما تمكّن من فهمها، إذ إنها عمل صعب، يحتاج إلى شخص واسع الاطلاع على اللغة والثقافة العربية، فضلًا عن حيوات الشعراء وطبقاتهم ومشكلاتهم، ولا أعتقد أن حركة الترجمة الأوربية في ذلك الوقت كانت قد نشطت إلى حد الإقبال على عمل شاعر مهتم بغريب اللغة ومهجورها، فضلًا عن أنه في المشرق العربي وليس في مغربه القريب من روما. لكن ربما سمع دانتي بالإطار العام لرسالة الغفران فأعجب به، ومن ثمّ أعاد إنتاجه بكامل الحرية والقصدية والتخطيط المحكم وفقًا لمعطيات ثقافته وشؤون عصره، وربما - وهو الأرجح في نظرنا - أنه تأثر بالخيال الشعبي الإسلامي عن الجنة والنار، والمأخوذ في مجمله من رحلة الإسراء والمعراج، حيث الأقوام الذين سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعذابهم طوال رحلته، فكان يسأل رفيقه فيها «من هؤلاء يا أخي يا جبريل»، فيجيبه بقصتهم، وهم فئات أشبه بالتقسيم الذي قسّمه دانتي لدوائر جحيمه، منهم النمامون والمتكاسلون والكذابون وغيرهم، وفي الجزء الثاني من الرحلة المعروف بالمعراج كانت طبقات السماء وسكّانها، وفي كل مرة كان يدور الحوار بينهم وبين النبي الكريم  وجبريل عليه السلام، ولعل اسم فرجيل هو الأقرب من بين شعراء اليونان لاسم جبريل، ومثلما رفض الأخير الصعود مع النبي  إلى سدرة المنتهى، قائلًا لرفيقه «إنك إذا تقدمتَ اخترقتَ، أما أنا فإذا تقدّمتُ احترقتُ»، فقد اختفى فرجيل عند الفردوس الأرضي، وهو بداية عالَم الفردوس، وليس بعده إلا الانطلاق أو المعراج إلى دوائر السماء، ومن ثم استعان دانتي بحبيبته بياترس كي تكون مرشدته في العالم السماوي، كأنه يشير إلى أن الحب هو مصدر الشعر والرُّقيّ والإشراق.

نقاط اتصال مهمة
كانت في القرن الرابع عشر العديد من روافد ونقاط اتصال مهمة  يمكن القول إنها نقلت الخيال الإسلامي إلى أوربا، سواء عبر التجار المسلمين الذين سيطروا على مناطق مثل البندقية وجنوة وغيرها، أو عبر الجنود الصليبيين الذين شاركوا في الحملات الصليبية وعادوا إلى بلادهم بثروات الشرق وثقافته وأساطيره، متأثرين بالقصص الإسلامي عن المسجد الأقصى بوصفه نقطة التقاء بين الثقافات الدينية الثلاث، وفي مقدمتها قصص الإسراء والمعراج وما بها من خيال متقدم على الجنة والنار والعالَم الأخروي بشكل عام، هذه الأساطير والحكايات التي يسهُل نقلها شفاهية بين الشعوب، ما يجعلنا أكثر ميلًا إلى أن دانتي تأثر بقصص الإسراء والمعراج أكثر من تأثره برسالة الغفران.
فأبو العلاء لم يقدّم تصورًا كبيرًا لعالم الجحيم ولا درجاتها ولا سكانها، ولم ينشغل إلا بمحاورة الشعراء فيها، باحثًا عن مدى صدق الروايات؛ سواء فيما نُسب للشعراء القدامى أو للجنّ أو حتى آدم عليه السلام، بينما قدمت قصص الإسراء والمعراج مشاهد كاملة للعذاب وطرقه، فضلًا عن التعريف بأسباب هذا العذاب، وكانت غالبيتها تهدف إلى الوعظ والتقويم الاجتماعي، وهو المنهج نفسه الذي اعتمده دانتي في ملحمته ■