ألويس موزيل.. شخصية أوربية فذّة وروح متوقدة حفزتها الرحلات والاكتشافات

ألويس موزيل.. شخصية أوربية فذّة وروح متوقدة حفزتها الرحلات والاكتشافات
        

          تستوقفنا اللوحة الرخامية المثبتة على مدخل «قصير عمرة» (من قصور الصحراء الأموية)، التي جاء فيها أن مكتشفه في العام 1898 هو الرحالة النمساوي - التشيكي ألويس موزيل، فمَن هو هذا العالِم الأوربي الذي قصد بلادنا مكتشفًا وباحثًا ومؤرخًا؟ سيرته الذاتية حافلة ومتنوّعة وتثير الاهتمام، لكن الدهشة والغبطة تعتريان القارئ العربي لدى تفحّصه الطابع البريدي الذي أصدرته تشيكيا في العام 2008 لتكريمه. الطابع المقصود حمل رسمته وهو يعتمر الكوفية، وفي الخلفية قافلة جمال في ترميز واضح للمشهد التقليدي للجزيرة العربية، وهو من الطوابع الأوربية الفريدة التي تحمل رموزًا تعود لمنطقتنا العربية.

          ومتى عدنا إلى الأبحاث والكتب والمواقع الإلكترونية التي أتت على ذكره، نلاحظ أن كتابة اسم ألويس موزيل Alois Musil (1868 - 1944) تعددت بالعربية، فقد ظهرت على شكل ألوي، وليوس، وموسيل، لكنه عرف أيضًا باسم موسى الرويلي. صحيح أن صيته ذاع بوصفه مكتشفًا ومستشرقًا ورحّالة وكاتبًا، لكن شهرته تعود باعتباره من أهم العلماء الأنتروبولوجيين الذين كتبوا عن الجزيرة العربية، خصوصًا ما يتعلق بالبدو والبادية. وتعد كتاباته من المصادر الأساسية للتعرف على تاريخ هذه البلاد وأحوال سكانها.

          وُلد ألويس موزيل في مدينة ريختاروف، وترعرع في مورافيا، وهي منطقة تاريخية تقع في الأراضي التشيكية وجزء من أراضي إمبراطورية النمسا آنذاك (لغاية 1918). كان ترتيبه الأول بين إخوته الخمسة في عائلة مزارعين متواضعة، ولذا كان قدره أن يكون راهبًا. حصل  على دكتوراه في اللاهوت في عام 1895، وفي السنوات 1895 - 1898 درّس في مدرسة الدومينيكان في القدس، وفي 1897-1898 مارس التدريس في جامعة القديس يوسف في بيروت، كما مارس التدريس أيضًا في كل من لندن وكامبردج وبرلين (1899). وفي عام 1902 أصبح أستاذًا في جامعة اللاهوت في أولوموك، وفي عام 1909 أسندت إليه مهام الدراسات التوراتية واللغة العربية في جامعة فيينا. خلال الحرب العالمية الأولى تم إرساله إلى الجزيرة العربية للمساعدة على الحدّ من محاولات الإنجليز للتحريض على الثورة ضد الدولة العثمانية. وفي العام 1920 أصبح أستاذًا في جامعة تشارلز في براغ، حيث تفرّغ للتدريس حتى العام 1938. انصرافه للتدريس لم يحل دون اهتمامه بالجانب البحثي، فكان واحدًا من مؤسسي معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم في براغ، واعترافًا بتقديماته العلمية، وخصوصًا فيما يتصل بجهوده في البحث في شئون التراث العربي، كرّمته دارة الملك عبدالعزيز (المملكة العربية السعودية) بالتعاون مع كل من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم التشيكية وجامعة تشارلز ومتحف فيشكوف في جمهورية التشيك، وذلك عبر ندوة علمية ركزت على جهوده العلمية ولفتت إلى أعمال عدة له لم تر النور بعد في العالم العربي، ومجهولة لدى كثير من الباحثين العرب.

          كان موزيل مفتونًا بدراسات العهد القديم، ولهذه الغاية قرر استكشاف المنطقة التي شكلت مهد الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية، المسيحية والإسلام). فبدأ رحلته الاستكشافية للبحث عن الجذور واقتفاء المواقع الأثرية المذكورة في الكتاب المقدّس. ولاحقًا أخذ اهتمامه يتزايد بشعوب المنطقة، وتحديدًا بدو الصحراء. ولعل أهم رحلة قام بها كانت في 1898 حيث جال في شرق عمّان واكتشف قصرًا صحراويًا صغيرًا يعود إلى بدايات القرن الثامن الميلادي، ونعني بذلك «قصير عمرة» الذي يعد من أهم النماذج لبدايات الفن الإسلامي والمعماري. وقد أصدر المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO في العام 2007 كتابًا فخمًا بعنوان «رسومات قصير عمرة، حمام أموي في البادية الأردنية»، تضمن الرسومات الجدارية للقُصير.

رحلتان إضافيتان

          اكتشافه لهذا الأثر المعماري الأموي لم يعر انتباه المجتمع العلمي، ولم يُؤخذ بعين الاعتبار التقرير الأولي لموسيل عن هذا الاكتشاف، ولم يُعتمد تقريره هذا بشكل كبير، خصوصًا أن شروحاته المفصّلة للرسوم الفنية في «قصير عمرة» كانت مغايرة عمّا ورد آنذاك من أبحاث لعلماء أوربيين عن تقاليد الفن الإسلامي، لم تثنه هذه اللامبالاة عن تحقيق مراده. لذا، قام برحلتين إضافيتين كانت الأخيرة في العام 1901، وكله إصرار لتوثيق هذا الاكتشاف فوتغرافيًا. ونجحت مساعيه هذه المرة، فبالإضافة إلى «السكيتشات» والمخططات الهندسية التي رسمها مرافقه الرسام ألفونس ل.ميليش (Meilich Alphons L)، عاد بـ120 صورة فوتغرافية نشرت للمرة الأولى في العام 1907 في أكاديمية فيينا في النمسا. وقد أدى هذا المسعى العلمي الموثق بالصور إلى إنقاذ سمعته المهنية وإلى نيله اعتراف المستشرقين الأوربيين بـ«قصير  عمرة» باعتباره موروثًا معماريًا عربيًا وتحفة أثرية عالمية ونادرة.

          هذا الشغف بارتياد المناطق العربية بهدف الاكتشاف والمعاينة والتدوين، رافقه في مختلف رحلاته في البلاد العربية، فاتسعت رقعة ترحاله فيها حتى عام 1917، وقد لقي دعمًا من قبل جامعته، وزوّدته مؤسسة الجغرافيا العسكرية في فيينا بالمعدات العلمية الضرورية لتنفيذ بعض رحلاته. وعبر عقدين من الزمن قام برحلات في منطقة بادية الشام وشمال بلاد العرب ومنطقة البتراء. ولم تبق منطقة من المناطق إلا وزارها وتعرّف عليها ابتداء من طرف تدمر الشمالي حتى شمالي نجد. وعلى سبيل ا لمثال فقد تتبع في رحلته الرابعة (1908 - 1909) خط سير الشاعر العظيم المتنبي من مصر إلى الكوفة. وفي إحدى المرات رافقه الأمير «سكتوس» أمير بارما وذلك في صيف عام 1912، وتجولا معًا في الصحراء الصغرى وفي جزء من منطقة ما بين النهرين. عاش مع بدو عشائر الرويلة لفترات زمنية طويلة واكتسب اسم «موسى الرويلي» نسبة إليهم، وصار كواحد منهم وخاصة مع الأمير نوري بن الشعلان، الذي اتخذه وتبناه أخًا له. وكُرّم من قبل بدو عشائر بني صخر وبذلك اكتسب تقدير واحترام العشائر والقبائل في المنطقة، ساعدته قدرته على التلاؤم مع أهل هذه المناطق، وعلى اكتساب ثقتهم، على جمع كمّ هائل من المعلومات العلمية، فغدا من الجغرافيين والأثنوغرافيين والخبراء الملمين بأحوال الشعوب العربية. فبالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية الفصحى، كان موزيل ملمًا بـ35 لهجة عربية، اتصفت أعماله بالسمة العلمية وتنوع المعالجات ما بين السياسي والاقتصادي والتاريخي والجغرافي، ويبدو ذلك بينًا في مختلف كتبه ونذكر منها: «الصحراء العربية» ترجمة مؤسسة عبدالعزيز السديري الخيرية، «الفرات الأوسط: رحلة وصفية ودراسة تاريخية» ترجمة صدقي حمدي وعبدالمطلب عبدالرحمن داود، «آل سعود: دراسة في تاريخ الدولة السعودية» ترجمة سعيد بن فايز السعيد.

          سيرة حياة هذا الباحث التشيكي المنبت والعربي الهوى هي في الحقيقة نموذج حيّ للشغف العلمي والنوستالجي الذي عرفته وعايشته أجيال من المستشرقين الأوربيين الذين اجتذبتهم غوايات الشرق العربي وأسرار صحراء العرب وبواديها. فجالوا في ربوعها، وأحبوها، ودرسوها، واكتشفوا خباياها، وتركت بصماتها في مسارات حياتهم مثلما في نتاجهم العلمي.
------------------------------
* باحثة من لبنان.

----------------------------------------

همُ اجتمعُوا يطلبونَ بِكَ الفرحَ المستحيلْ
أنت يا نبعَ دمعٍ، وتاريخَ حزنٍ
تعالَ ادّعِ الفرحَ المستحيلْ
زوّرِ الليلَ، أخرجْ من الكمّ شمساً
ومن جرحكَ القاتمِ اسحبْ ضياءَ الصباحِ الجميلْ
ها همُ اجتمعوا: جهّزوا لك السرج والفَرَسَ،
استقبلِ الشوطَ،
فالفرسُ الدميةُ استقبلت شَوطَها والصهيلْ

ممدوح عدوان

 

 

هدى طالب سراج*