فريدا كاهلو التحليق بأجنحة الألم
صار استغلال اسم وصورة فريدا كاهلو Frida Kahlo ظاهرة لافتة في عالم الموضة، فكثيرًا ما نصادف أشكالًا من الساعات اليدوية والقمصان القصيرة وحاملات المفاتيح وحقائب اليد النسوية، وغير ذلك من الإكسسوارات التي تحمل اسم فريدا كاهلو وصورها، ويقبل عليها الرجال والنساء في مختلف بلدان العالم. فهل استغلت الرأسمالية اسم الفنانة الشيوعية؟
قد تكون الإجابة بنعم إذا أدركنا المكانة التي تحتلها فريدا في أوساط مختلف طبقات المجتمع بالعديد من بلدان العالم. وقد نجحت، عن غير قصد، في إلغاء الحدود بين الأيديولوجيات والأنظمة رغم يساريتها وعقيدتها الماركسية، كما هو شأن زوجها الفنان التشكيلي المكسيكي دييغو ريفيرا، حتى إنهما فتحا بيتهما للّاجئ السياسي ليون تروتسكي المعارض العنيد لنظام جوزيف ستالين، أما علاقته بفريدا فتلك قصة أخرى.
ولدت الفنانة التشكيلية المكسيكية ماغدالينا كارمن فريدا كاهلو في السادس من يوليو 1907، لأب ألماني مهاجر وأم مكسيكية، في كايوكان إحدى ضواحي مكسيكو سيتي. لم تكن طفولتها هانئة ولا سعيدة، ففي السادسة من عمرها أصيبت بشلل الأطفال الذي أقعدها لأشهر عديدة، وتسبب لها في عرج برجلها اليمنى لازمها حتى أودى بحياتها القصيرة. وقد اضطرت بسبب ذلك إلى ارتداء الجوارب الصوف الغليظة حتى في عز الصيف لتخفي عاهتها. وقد كان لهذا المرض تأثير كبير على نفسيتها وسلوكها، وكأن الأقدار قد أصرت على تنغيص حياتها بمزيد من الأسقام وهي بعدُ في غضارة الشباب، ففي سنة 1925 أُصيبت في حادث حافلة، وبقيت ممددة من دون حراك على ظهرها لما يقارب السنة، سهرت خلالها والدتها على راحتها، فصنعت لها سريرًا متنقلًا وثبتت مرآة كبيرة في سقف غرفتها. فقضت أيامًا بلياليها تحدق في وجهها الذي تعكسه المرآة، فتفتقت موهبتها وأورقت في فن الرسم، وقررت أن تتحدى كل الأنواء لتعيش حياة مختلفة لا مكان فيها للعجز والضعف مهما اشتد بها الألم، فاختارت الفرشاة والألوان سلاحًا لتحقيق ذاتها ونفض غبار الأحزان عنها، وشرعت ترسم وجهها الماثل أمامها بالمرآة مرة تلو أخرى. واستطاعت بعدها أن تصقل موهبتها بعصامية نادرة، إذ لم يسبق لها أن درست فنون الرسم في أي مؤسسة متخصصة بالفنون الجميلة.
الحب والتشظّي
تعرفت فريدا كاهلو على رسام الجداريات الشهير دييغو ريفيرا الذي يكبرها بعشرين عامًا، وكان ذلك حدثًا مؤثرًا في مسيرتها الفنية والحياتية، وشكل عاملًا كبيرًا في شهرتها. فقد أعجبت بالرسام الكبير وبأعماله، وتحول الإعجاب إلى افتتان وحب متبادل توج بالزواج سنة 1929.
انتقل الزوجان سنة 1930 إلى سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، حيث وجدا هناك عوالم الشهرة مفتوحة أمامهما، فشاركت فريدا في عدة معارض ساهمت في شهرتها، ما منحها الفرصة للمشاركة في معارض أخرى في نيويورك وديترويت وغيرهما. بعدها عادت مع زوجها إلى المكسيك سنة 1933 واستقرا في سان أنجل.
فترت جذوة الحب التي كانت تجمع فريدا ودييغو، وتم انفصالهما عام 1939، هي نفس الفترة التي سافرت فيها فريدا إلى باريس وبقيت هناك بعض الوقت عرضت خلاله بعض أعمالها، وتعرفت على الرسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو. وفي سنة 1940 عادت إلى دييغو وتزوجا مرة ثانية، لكنه كان زواجًا شكليًا من دون روح.
عبقرية الألم
لقد كتب على فريدا ألا تتفتق عبقريتها إلا بين أحضان الألم، كأنها تجسد ما ذهب إليه الشاعر الفرنسي ألفرد دي موسيه حين عدَّ الألم وسيلة للوصول إلى السمو والعظمة. قد لا يكون هذا الرأي قاعدة ثابتة، لكنه يقود إلى ملاحظة ظاهرة مألوفة في حياة كثير من العباقرة على اختلاف مشاربهم ومجالاتهم. وهو ما ينطبق على كاهلو التي لم تصقل موهبتها إلا في مستنقعات الشقاء الذي تحدَّته وحولته إلى أداة لإنتاج الجمال، ولم تركن إلى تفتيت الذات في صمت، بل نفضت عنها رماد الاحتراق، وقاومت عاهتها بالريشة، ونثرت أحزانها ذرات ملونة على قماش لوحاتها، وحلقت بعيدًا بأجنحة الفن، وخلقت الدهشة والإبهار.
كاهلو... تجَلِّي العذاب الإنساني
كان الواقع الإنساني القاسي التيمة الجوهرية في أعمال كاهلو، وقد استطاعت عبرها أن تجعل المتلقي يرى الألم بين الألوان ويتمثل المعاناة بكل تجلياتها، وعلة ذلك أنها تنقل تجربتها الشخصية بصدق متجذر في عمق المعاناة التي شحذت خيالها، معتمدة في كل عمل على معادِل موضوعي خارجي يرمز بوضوح إلى حالة العذاب المستمر الذي يفتت ذاتها الفردية والجماعية. في إطار خيال مرتبط بالواقع ومرتكز على أرضيته الصلبة، يستطيع المتلقي إدراكه بسهولة بين ثنايا السريالية الخفيفة التي تطبع أعمال فريدا.
... وسقطت الريشة
تكالبت الأمراض على فريدا قبل وفاتها، حيث عاشت أربع سنوات من الآلام الممضة بعدما أصيبت بالغرغرينا في رجلها اليمنى سنة 1950، حيث أمضت ما يقارب السنة بين مباضع الجراحين وعقاقير الأطباء، وأجريت لها عدة عمليات لم تكلل بنجاح. ورغم حجم المعاناة لم تفقد فريدا روح التحدي، فقد ظلت متشبثة بالصمود والطموح إلى مزيد من الشهرة. ففي سنة 1953 أقيم أول معرض خاص بها في المكسيك، فأصرت على حضوره وهي على سرير متنقل محمول في سيارة إسعاف.
اشتدت وطأة الغرغرينا على فريدا، وتآكلت ساقها اليمنى، فقرر الأطباء بترها، وكان هذا الحدث كافيًا لدخولها في نوبة ممتدة من الاكتئاب حاولت خلالها الانتحار. وفي يوليو 1954 أسلمت الروح وعمرها لم يتجاوز 47 سنة بسبب انسداد رئوي، رغم أن هناك من يرجع سبب الوفاة إلى الانتحار.
بعد وفاتها ازدادت شهرة فريدا، وتم تحويل بيتها إلى متحف سنة 1958، وفي عام 2002 قامت المخرجة جوليا تيمور بإخراج فيلم سينمائي في «هوليوود» يتناول السيرة الذاتية للفنانة الراحلة بعنوان «فريدا»، من بطولة سلمى حايك، وكان لهذا الفيلم دور كبير في إقبال عدد من الشركات ودور الأزياء على استغلال اسم فريدا وصورها ولوحاتها لترويج منتوجاتها التجارية والصناعية المختلفة التي لاقت إقبالًا كبيرًا لدى السواد الأعظم من المعجبين بفريدا، لكن أكثرهم لا يدركون حجم معاناتها التي تجرعتها بمرارة طافحة، وكان كل ما أثار إعجابهم هو تمردها اللامحدود على كثير من القيم، والذي لم يكن إلا انتقامًا من عدو مجهول، قد يتمثل في زمانها، وتعبيرًا عن ازدراء الحياة، التي لم تبرز لها سوى جانبها القاتم، لدرجة أنها كانت تتمنى أن يكون موتها جميلًا وهادئًا عكس حياتها المتقيحة الأليمة، لذلك كان آخر ما كتبته في مذكراتها قبل موتها: «أتمنى أن تكون مغادرتي للدنيا ممتعة، وأتمنى ألا أعود إليها ثانية» ■