التيراريوم حدائق زجاجية مصغّرة

 التيراريوم  حدائق زجاجية مصغّرة

  نباتات خضراء أم زهور ملونة، طبيعية أم صناعية، مهداة أم مشتراة؟ إنها أشياء كمالية، ولكن لا يكاد منزل يخلو منها، مهما كان حجمه.  إن للألوان عمومًا واللون الأخضر تحديدًا أثرًا مبهجًا للنفس البشرية، فهو رمز للتفاؤل والعافية والحياة الصحية، لذا كثيرًا ما نراه خلفية لإعلانات المستحضرات الطبية. واللون الأخضر يُعدّ لمسة جمالية وعاملًا فنيًّا يساعد على خفض التوتر وتهدئة النفس، لذا يكثر استخدام المزروعات الطبيعية والصناعية داخل الأماكن المغلقة، لكونها تعطي إشارة إلى وجود حياة.

 

مع تزايد الحديث عن ظاهرة الاحتباس الحراري الآخذة في التصاعد، وتناقص الرُّقعة الخضراء مقابل المدّ العمراني، فإنّ الحديث عن أهمية الزراعة وزيادة مساحة الغطاء النباتي أمر قد فرض نفسه على طبيعة الأنشطة التجارية، خصوصًا أن الوعي البيئي بدأ بالانتشار في مجتمعاتنا العربية، والملاحظ ظهور أنشطة ربحية وغير ربحية تسعى إلى تعزيز مفهوم التنمية المستدامة من خلال الزراعة، ولا مانع إن تمثّلت في العودة إلى أنماط الزراعة القديمة.
 
التيراريوم... في الكويت اليوم
في دولة الكويت، انتشرت الحدائق الزجاجية المصغرة، أو كما تُعرف بـ «التيراريوم»، التي يبعث منظرها في النفس البهجة، فضلًا عن أنها تجارة بدأت تعرف طريقها في الوطن العربي أخيرًا.
التيراريوم، أو الحدائق الزجاجية المصغرة، ظهرت للمرة الأولى عام 1842م، بالمصادفة على يد عالم النبات الإنجليزي ناثانيال وارد، عندما كان يراقب سلوك حشرات في جرّة زجاجية مُحكمة الإغلاق، لاحظ العالِم أن الطحالب والنباتات بدأت تنمو في البيئة التي صنعها للحشرات بالمصادفة، فقرر أن يجرّب أكثر بوضع نباتات من خارج إنجلترا، في أحواض زجاجية مغلقة، ونجح في زراعتها ونموها في بيئة محمية رطبة.
إن قِدَم الفكرة وبساطتها لا يمنعان استحضارها وتوظيفها في إطار تجاري معاصر يتناسب مع القرن الـ21 مثلما فعل عبدالله الصالح، وهو من أوائل الذين بدأوا هذا النوع من الزراعة في الكويت كمشروع تجاري ربحي، وفي حديث معه ذكر لنا أن فكرة الحدائق الزجاجية (التيراريوم) جديدة نسبيًا في الكويت، وقد طبّقها على أرض الواقع بهدف تقريب أجواء الغابات والحدائق المنتشرة حول العالم، لا سيما نباتات المناطق الاستوائية وأعشاب الجبال، وتكثيف مساحة اللون الأخضر في مجتمعنا الصحراوي.  فأن تبصر العيون اللون الأخضر والنباتات المزهرة أينما نظرت فهذا أمر جميل، لكنّه ليس سهلًا، فنحن أبناء الصحراء نفتقر لتلك المناظر الطبيعية الخلابة. ولربما تتماشى هذه الفكرة مع أجواء منطقة الخليج العربي تحديدًا، لكونها إقليمًا صحراويًّا حارًّا وجافًّا معظم أيام السنة، مقارنة ببقية الدول العربية، التي يتمتع معظمها بأجواء معتدلة نسبيًا.

تعزيز عنصر الإبداع
الصالح لديه شهادة جامعية في المحاسبة، لكنّ الزراعة وفكرة التيراريوم بدأتا معه كهواية، تعرّف إليها من خلال أسفاره الدائمة، حيث تعمقت لديه الفكرة من منطلق أهميتها وجمالها وديمومتها، ليتبناها هو واثنان من أصدقائه كمشروع عام 2012، بدأ يروّج له في الكويت، بل حرص على توعية الأطفال والناشئة بأهميته، فأقام ونظّم ورشات عمل للأطفال والكبار وكل المعنيين بالأمر. وينطلق الصالح في توضيح فكرة التيراريوم بأهمية حرفة الزراعة وضرورة العودة إلى الأعمال اليدوية والتشكيل بالرمل والطين، والتأكيد على أن النباتات من الكائنات الحية الرقيقة التي تحتاج إلى عناية واهتمام دقيق، والتي نحتاج إليها دومًا لأهميتها في دورة الحياة الطبيعية، وإضفاء جو منعش وصحي داخل المنزل، إضافة إلى تمكين الجميع من صنع حديقته الخاصة كما يشاء بأقل الإمكانات ووقتما يريد.
ويذكر الصالح أنه يركز على الأطفال ويبسّط لهم الفكرة، فيرى أن زجاجة مصغرة ستعلمهم مسؤولية رعاية الكائنات الحية، وحب الزراعة والتخضير، وتعزز لديهم عنصر الإبداع، كما أنها مصدر تعليمي ممتاز للأطفال، إذ تمكنهم من معرفة أنواع النباتات المختلفة، وملاحظة نموها.ويحرص الصالح دومًا على توضيح فكرة التيراريوم على أنها انعكاس واقعي وتصميم مصغر للغابات التي تتضمن نباتات وصخورًا وهضابًا من العشب، يتم تصميمها وتوزيع النبات فيها بطريقة معيّنة، بهدف إبراز جمال تلك الطبيعة.
 
الحدائق الزجاجية... لماذا؟
توفر الحدائق الزجاجية أجواءً طبيعية لمحبي الزراعة والمساحات الخضراء، الذين ليست لديهم المساحة الكافية لممارسة هذا الهواية، فتُعد خيارًا مناسبًا لقاطني المساكن الصغيرة الشائعة في وقتنا الحالي، ولأماكن العمل مثل المكاتب والفصول الدراسية والتي غالبًا ما توفر إضاءة صناعية جيدة إلى حد ما.
كما يعتبر هذا النوع من الزراعة مكتفيًا ذاتيًا ولا يحتاج إلى جهد أو وقت للاعتناء، فنظام الري مرة كل أسبوع أو مرة في الشهر، على حسب نوع النباتات المستخدمة، لذلك بجانب شكلها المميز، إلّا أنها تحظى بقبول الأشخاص المشغولين على الدوام ولا تسمح لهم أعمالهم بالتفرغ أو الخروج للزراعة، غير أن ذلك لا يعني إهمالها أو تركها من دون رعاية واهتمام، فالنباتات كائن حي مهما طال صمته.
ولعل أبرز ما يميز الحدائق الزجاجية هو عدم حاجتها إلى مساحات كبيرة، فهي تبقى بوعائها الزجاجي مدة طويلة بلا عناء أو كلفة، كما أن النباتات تتأقلم وتنمو بهذه البيئة المهيأة لها مهما كان حجمها أو إضاءتها. ويعد التيراريوم خيارًا جيدًا أيضًا لأهالي المناطق الباردة معظم أيام السنة، حيث تزرع النباتات الاستوائية داخلها، لأنها توفر بيئة رطبة وأجواء معتدلة نسبيًا - تقارب الجو داخل المنزل - تساعدها على النمو.

صمّم حدائقك الزجاجية 
تبدأ الزراعة في الحدائق الزجاجية بطبقة رملية بيضاء ناعمة، توضع فوقها طبقة من حبات الرمل الأكبر حجمًا، وبعد ذلك تُرص الصخور الصغيرة (الصلبوخ) التي تعمل مرشّحًا للماء، ثم يتم وضع السماد العضوي، وبذلك تعمل الطبقات على تهوية التربة والسماح بتصريف الماء، دون التأثير على جذور النباتات، كما يمكن وضع العشب أو الطحالب الطبيعية في النهاية.
إن تصميم الحدائق الزجاجية مرتبط بالمصمم والأسلوب الفني المعتمد لديه في إيصال فكرته، فمثلًا في أحد المشاريع التجارية استوحى تصاميمه من الثقافة اليابانية، إلّا أنه أضاف إليها لمساته الخاصة ومزجها بأفكار مستوحاة من الفولكلور والتراث والبيئة الكويتية. 
وتبرز تلك التصاميم ألوانًا من البيئة الكويتية، مثل الأخضر بدرجاته المختلفة، والبنّي، والبيج، لافتًا إلى أن الأصائص المستخدمة في الزراعة مكونة من الفخار الطبيعي ومزخرفة بالرسم اليدوي.
وبشأن توظيف الفولكلور الكويتي، يستعرض الصالح فكرة الاستعانة بالمبخر - أداة مستخدمة في إشعال البخور وشائعة جدًا في منطقة الخليج العربي، وتوضع في منتصفها قطعة من الفحم مشتعلة تتوسطها كسرة بخور - وبدأ بضمها إلى التصاميم الزراعية، والمزج بين البيئة الاجتماعية والزراعية بشكل حضاري وعصري.

نحو توعية المجتمع
ولأن الفكرة أعمق من مشروع تجاري، فهي متاحة لمحبي الزراعة وإشاعة اللون الأخضر في كل مكان، ولا يشترط عملها سوى الرغبة في إنعاش مكان ما بطريقة يسيرة ماديًا، فإنه بأي إناء زجاجي أو فخاري يمكنك صنع حديقة صغيرة، وتضيف لها ما ترغب في مشاهدته، ويعكس محيطك البيئي أو ما تودّ أن يحيطك. فلا مانع من أن تكون هذه الحدائق حيلة ذهنية تسهّل اتصال المرء بالطبيعة عندما يعوقه العمل عن الخروج إلى الحدائق!
إن حدائق التيراريوم إذا أخذت على محمل الجَدّ من قبل الأفراد والجماعات والمؤسسات يمكنها أن تنهض بالتنمية المستدامة والمضي قُدمًا باتجاه بيئة سليمة وصحية، إنها بمنزلة خطوة نحو توعية المجتمع وتثقيفه بأهمية الزراعة وأهمية خفض الكلفة المادية أيضًا في الإنفاق والمتعة. ولا مانع من تقديمها لمريض أو لصديق أو قريب في مناسبة ما، بدلًا من باقات الورد غير المستدامة، ذات العمر القصير ■