ساجدة الموسوي شاعرة الشتات العراقي

ساجدة الموسوي شاعرة الشتات العراقي

لم تتوهج أرض عربية، في العصر الحديث، بشعر المرأة كما توهجت أرض العراق. ومنذ تفجر نهر الشعر العراقي بشعر شاعرة العرب الكبرى في القرن العشرين نازك الملائكة ولشعر المرأة في العراق حضوره وسطوعه وتنويعاته. وفي هذا المسار الشعرى الثري، كان شعر نازك غوصًا في أعماق النفس الإنسانية، وسبْرًا لخفايا الوجدان، ونفاذًا إلى قرارة الموجة البعيدة، واستكشافًا لمدارات البوح والإفضاء. ثم كان شعر لميعة عباس عمارة ضربًا على أوتار الدلّ الأنثوى، وتجسيدًا لجموح العراقية العاشقة، وفتنتها للقلوب المنسحقة قلبًا بعد آخر، وفي المقدمة منها قلب «السياب».

أما عاتكة الخزرجية فقد ازدحمت بطيوف عالمها الأثير وكائناته الليلية، في رحلة روحية عميقة، حققت لها  قدرا كبيرا من الخلاص بالإيمان، والتجرد للعشق الإلهى، ومراجعات النفس التي كانت تتأبي - في منعطفات الشباب - على القيود الصارمة والتقاليد المحكمة. ثم تجيء ساجدة الموسوي، حلقة أكثر قربا وحداثة في هذه السلسلة الذهبية لشاعرات العراق، وقد كتب عليها أن تكون شاعرة الشتات العراقي في مشهده العبثىِّ الأخير.
تعتز ساجدة، بانتسابها إلى بغداد، ميلاًدا ونشأة، كما تعتزّ بتسميَها نخلة العراق، بكل ما تمثله النخلة من أطياف ورؤى وتعبير عن الهوية العراقية، كما تعتز بأنها واحدة من بين ست شاعرات عربيات حظين بمرتبة أبرز شاعرات الوطن العربي، في استطلاع للرأى، أجرته وكالة أنباء الشعر العربي. وأخيرا تعتز ساجدة بأنها من أغزر شاعرات العراق عطاءً وإبداعا، بعد أن أصدرت أربعة عشر ديوانا، وشاركت بقلمها في المجالين الثقافي والاجتماعي على صفحات الصحافة العراقية والعربية، وبمشاركاتها في العديد من المهرجانات والملتقيات الشعرية والثقافية العربية.
في ديوانها الأحدث «بكيت العراق»، الذي صدر لها في العام الماضي، تكتمل لساجدة الموسوي دورتها الشعرية الحافلة. وتبكي، ومعها قصائدها، بقسوة الشتات العراقي الذي تعيشه، والذي يتسع مداه وتعنف مشاهده، ليصبح شتاتا عربيا متجسدا في أكثر من بلد عربي. ويصبح بكاؤها العراق، دمعة تنسكب من شاعرة مرهفة الحسّ، صادقة الوجدان، منذ كانت دمعة مالك بن الريب، التي تضعها الشاعرة في مستهل ديوانها الرابع عشر:
تذكّرت من يبكي عليّ، فلم أجدْ
سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا
وأشقر عسّالٍ يجرُّ عنانه
إلى الماء، لم يترك له الدهر ساقيا
ومعها كلمات سطرها رعد بندر في مقدمة الديوان يقول فيها: ساجدة الموسوي: المرأة الشجاعة التي انتصرت على الوجع والضعف وجحود الآخرين، والشاعرة التي قُدّر لها أن تحمل فانوس الشعر في النهارات المعتمة، وحيدة مثل نخلة في صحراء، حزينة مثل سيف على حائط، دامعة مثل دلاءٍ على بئر راكدة، ومع هذا كلّه فهي مضاءة بوحدتها وحزنها ودموعها.
تقول ساجدة الموسوي - نخلة العراق الشعرية - في قصيدتها «أفول الطوفان»:
كان العيش رغيدًا
وكلام الناس بوقت الشاي كطعم السكّر
في رمشة عين هّبت ريح فارتجفت أبواب البيت
حطّ غراب فانك
حطّ غراب فانكسر المصباح
الضوءُ تعثّر،
ماذا حلَّ بنا؟
من أيّ جهات الأرض تجيءُ الريح؟
تهدأ حينا ثم تصيح
غبراء 
غريب مسراها
كانت تعصف دون هواده
ارتعب الناس وضمّوا الأطفال بأذرعهم
قيل هو الطوفان
قيل الطاعون
قيل بوادر غزو مجنون شُدّى ياروح على
الأولاد نطاق الروح
ولنمسك سارية الله بقوة
لا غالب إلا هو
طاف الطوفان علينا فتجبّرْ
والريح المجنونة مازالت تعصف
وتُدمّر
أما الطاعون فقد أودى بملايين الأكباد
لكنَّ الأرض هي الأرض
مازالت، مازلنا
ونوارس دجلة مازالت ترتاح إذا تعبت، عند وافدنا
مازلنا فوق هدير الموح وعصف الريح نغني 
نحن هنا
مزروعون بطين الماء
مازالت غابات النخل وأشذاءُ الحناء
مازال العهدُ وأشرعهُ الشهداء
مازلنا
بابلُ تشرق ثانيةً بين منازلنا
مازلنا نمخر والمد يصارعنا
غيض الماءُ وبان النخل
نوشك أن نصل البرَ
ما شاء الله 
تلك منازلنا
مازلنا فوق الطوفان نُجدّف
للعام التاسع لم يغمض جفن كرامتنا
والدينا تعرف
وبماذا أحلف
سنعانق بغداد قريبا ونزف البشرى
وسنكتب فوق سفين البلوى
قصصا ما مرت من قبل على إنسٍ أو جان
لملايين غرقت تحت العصف ومنهم من سلّمها
تحت القصف
لملاييٍن دمّرها الطغيان
وتفطّرت الأكباد من الحرمان
وسترسم فوق الألواح جباها شربت ماء الشمس
ووجوها تنزف
وعيونا تذرف
وسنترك في قلب المركب ذكرى نار خمدت
وقدور قلبت
وعهود حرقت
سنخط كتابا يروي حادثة الطوفان
وقصائد تبكي
فيسيل الدمع على القمصان
وتتوقف ساجدة الموسوي - في ثنايا ديوانها الجديد - عند أطياف ليلى المريضة في العراق، عندما كان مجنونها يهتف بقلب منشطر وشعر تبلله الدموع: 
يقولون ليلى بالعراق مريضة
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
فتبدع قصيدتها: «قيل ليلى تموت» قائلة:
من عذوق النخيل الأسى والنوى والحمِامْ
فأين ينام الحمام؟
وأسهر وحدي
سوى صوت ناىٍ بعيد
يجيء مع الريح عبرَ البحار
وعبرَ المدى والرّدى والفراق
يئنُّ: عراقٌ، عراقٌ، عراق
على من يئنُّ
فليلى هناك بأرض العراق تموت
ولا مَنْ يداوى
ولا من يُضمد جرح الحبيب
كأنَ الوداد انقضى، والوصال انتهى
صار وجه العراق غريبا
يرى في المواويل طِباًّ
ويورى عناقيد أوجاعه
تحت ثوب الغروب
***
لليلى مساءات مسكٍ تُطرّي النسيم
وآه تحاكي اعتلال جوارحها من شمال جدائلها
وانتهاء بنخل الجنوب
ومن وهنٍ ما تكاد على طولها
تتكى
طولها الخيزران
ومن وجع دَرزتْ فمها ما عساها تَقول
لمن تشتكي، والقوافل راحلة، ليس من أملٍ بالقفول
سميرةُ دجلةَ، أختُ الفرات
تُبغددُ كلَّ العصور بريحانها والبخور
وظلّت عليها الرّحى من جميع الرزايا تدور
ألفُ ثقبٍ على قلبها
فترى الدمعَ نهرا وقهرا
وسالت مزاريبُ حزن العراق 
***
ثم تقول ساجدة الموسوي:
وأبكى لليلى المريضة في .. كلّ يوم
وليلى بمنديل وجدٍ
تكفكف دمعي الهتون
***
ألا يا طبيب الزمان
هل تفَّقَدْتَ «ليلى» بوادي العراق؟
هل تحسّسْتَ ما كابَدتْ من جراح؟
وما كتمت من رعودٍ، بروقٍ، رياح
أم تُراكَ اعتراك الفتور؟
تريَّثْ قليلاً فليل على دائها لن تهون
ومن جُرحها يطلعُ النخلُ والوردُ
والزعفران
يا طبيب الزمان
المواعيدُ حبلى، ورُبَّ عليلٍ تشافى
ورُبِّ صحيح تداعى
على لحظة قد يكون الذي لا يكون
على لحظة كلٌ شيءٍ يعودُ إلى عهدِه
والبلاد اختبار
فرُبً رمادٍ يخبّئُ نارا
ورُبً رمادٍ
تُفتِّقُ منه الورودْ!
ومن القصائد اللافتة في ديوان «بكيت العراق» لساجدة الموسوي قصيدتاها «تساؤلات عراقية» و«قلبي لحبيبة قلبي». في الأولى تعرض الشاعرة لوصف العراق - منذ أقدم العهود في تراثنا العربي بأرض السواد - وقتها كان السواد يعني الخصوبة والنماء والازدهار والمخالفة لأرض الرمال الصفراء  والصحراء القاحلة. لكن السواد الآن عند الشاعرة يعني سواد الحداد وسواد الحزن الدائم المقيم.
تقول ساجدة:
لماذا تُسمَّى بلاد السواد؟
لأن الحروب ترشُّ الدخان
تبيع الحِداد إلى الأمهات، إلى اللافتات
ومن سهر الأعين الخائفات
تصير المدائن بحرا من الحدقات
لماذا النخيل طويل؟
لكي يرفع الأرض عن حزنها المستديم
إلى قمر مزُهرٍ، وصلاة
إلى حُلُمٍ لا يموت
إلى زمن لا يفزّز نوم القطاة
إلى خيطِ فجرٍ ندى
قد يُطلٌ بما يتيسّرُ من معجزات!
***
لماذا العراق حزين؟
- لتبكي السماءُ عليه،
ومن دمعها تولدُ الأنهرُ الصافيات
تدورُ النًواعيرُ، تسقي الزروعَ فيربو النبات
ومن دمعها،
يشربُ الناس ماء الحياة!
***
لماذا الغمام حزين؟
- لأن العراق يتيمٌ
على وجهه دمعتان
هكذا قالت الأغنيات
في قصيدتها الثانية «قلبي لحبيبة قلبي» تتحدث الشاعرة عن ابنتها فتقول: «وجدتُ في دفترها الصغير كلماتٍ تقول: من يكره العراق ندمان، ومن يرسمه فنان، ومن يحسده غيران، ومن يحبه إنسان، ومن يحتله خسران».
في عيد ميلادها سألتني، فأجبتها بهذه القصيدة:
قالت: بعد غدٍ ميلادي
ماذا تُهديني يا أمي
وتأملتُ قليلا، فتَّشْتُ بروحي عن أمرٍ يرضيها
قلتُ لها: في الشوق هدايا لا تُحصى
أغلاها لا يرقى لحبيبة قلبي
وشرائطهُ لا ترقى لجمال يديْها
ضحكت قائلةً: ما الحلٌ إذن؟
قلت: سأعطيكِ الأغلى والأجمل
قالت: ماذا؟
قلت لها: قلبي
ابتسمت، وبكلّ براءتها قالت: لا،لا
قلْبكِ نار أخشى أن تُحرقني
قلت: سأخمد ناري بدموعي
وعلى موج الدمع أفكُّ شراعي
وسنبحر في القلب سوّيا
ستريْن هناك سماءً صافيةً بنجوم زُرقٍ
ومدائنِ نور
وهناك جزائرُ نخلٍ، وشذى طلْعٍ، وطيور
تتخلَّلها أنهارٌ من مسكٍ وعبيرِ 
سترين بيوتًا من فُلً وحنين
وقناديلاً من وهج العزِّ ترفٌ طَوال الليل
أسماءُ الشهداء عليها
وعبارات وداعٍ قالوها من غير وداع
لرحيلٍ لا يشبهُ أىٍّ رحيل
سترين وجوها تسكنني
وقلوبًا تتفتح كالريحان
    وصولاً إلى قولها:
كلُّ سنيني تتجلى بين يديك
تتجلّى في ضوء شموع الميلاد
الشمع النابتُ في طين القلبِ
كنخل البصرة
أو كالعنقاء قُبْيَل تجلِّيها
تنفضُ عن رئتيها كلَّ رماد
للوعد ستنهض، شمسَ يقين
فتضيءُ جميع الأبعاد
هاهو ذا قلبي فخذيهِ
بأجملِ من يسكنُ فيه
***
ما الذي يُجسّد «جمال العربية» في شعر ساجدة الموسوى؟ هل هو هذه البساطة التي تكتب بها، متأثرة بفيض كبير من كتاباتها النثرية، عوَّدها التدفق والانسياب والابتعاد عن وعورة اللغة وتعقيد الصورة أو التركيب؟ فجاء شعرها أشبه ببيان للناس، لا يحجب شيئا عن العين، ولا يحتاج إلى فكً رمزٍ أو إجراء تشبيه أو استعارة!
أم هي الحال الشعرية التي تعيشها الشاعرة الآن - بعيدة عن العراق - تتقلَب في أتون الشتات، وتتململ نخلة عراقية بعيدة عن أرضها وزمانها، حيث لم يعد يجدي استزراع أو جني ثمار؟ مثل هذه الحال لا تدع للشاعرة وقتا لتخمّر المعنى الشعري وإنضاجه على نار المعاناة؟ إن الجمر الذي تقبض عليه في يديها، سرعان ما يلسعها، فتتخلص منه في كلماتها القريبة المأتى والتناول، فيكون من ثَمً هذا الحصاد الشعري.
ساجدة الموسوي سليلة الشجرة الشعرية العريقة في العراق، ووصلة إبداع الشاعرة العراقية منذ نازك الملائكة (العملاقة الرائدة شعرا وفكرا) ولميعة عباس عمارة (التي يئودها العمر عن مواصلة الشعر، بارك الله في حياتها) وعاتكة الخزرجية أو الخزرجي التي رحلت بعد إقامة طويلة في الكويت ومعها أسرارها وكلماتها المختومة وتجلياتها الروحية التي لم تتكشّف لأحد. ساجدة هذه، تحمل مسئولية رعاية النخلة الشعرية الصامدة، وعبء إنضاج عالمها الشعري وإثرائه لغةً وآفاقًا ومعطيات، وصوت كثيرات من شاعرات العراق الراهن، لا نكاد نستمع إلى بوحهن وهتفات شُجونهن، في داخل العراق وفي خارجه، ذلك أن أرض السواد في العراق، لم ولن تتوقف عن الإثمار والإبداع .