حكايات الأغاني.. رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية

حكايات الأغاني..  رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية

رحلة شائقة يقطعها قارئ كتاب «حكايات الاغاني» لفارس يواكيم الصادر عن دار رياض الريس في بيروت (2013) حيث يستعرض المؤلف عبر صفحات كتابه (450 صفحة) حكايات عدد كبير من القصائد لعدد كبير من الشعراء الذين تحولت قصائدهم إلى أغنيات ملحنة ذاع صيتها وسكنت وجدان الناس وأفئدتهم عبر أجيال وأجيال.. 

ومن بين الشعراء العرب (الـ 37) الذين رصد المؤلف قصائدهم المغناة نذكر أبو فراس الحمداني وعمر الخيام وجبران خليل جبران وأحمد شوقي وأحمد رامي، وأبو القاسم الشابي وخليل مطران وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي وبدر شاكر السياب وكامل الشناوي وبشارة الخوري ومحمود حسن إسماعيل وبولس سلامة وعمر أبو ريشة ونزار قباني ومحمد الفايز وفدوى طوقان ومحمود درويش وجورج جرداق وسعيد عقل وسعاد الصباح ومنصور الرحباني وعبدالرحمن الخميسي وعبدالله الفيصل وغيرهم أما القصائد التي يروي حكاياتها فهي كثيرة نذكر منها «أراك عصي الدمع»، «المحبة»، «أقبل الليل»، «أعطني الناي»، «أضنيتني بالهجر»، «رباعيات الخيام»، «لست أدري»، «أصبح عندي الآن بندقية»، «يا مالكا قلبي»، «مذكرات بحار» وغيرها الكثير.. وقد شارك في غنائها نخبة من المطربين الكبار أمثال أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وفيروز ونجاح سلام وعبدالحليم حافظ وكارم محمود وصولا إلى ماجدة الرومي وكاظم الساهر وغيرهم..
في مقدمة الكتاب يذكر المؤلف نماذج من القصائد والأغاني التي قدمت في مناسبات معينة مثل قصيدة «سوف أحيا» التي غنتها فيروز للشاعر مرسي جميل عزيز وقد سجلتها مع أغان أخرى أنتجتها إذاعة صوت العرب أثناء زيارة فيروز للقاهرة سنة 1955..
أما الأغاني التي تعرضت للتعديل وحذفت منها أبيات أو أضيفت إليها أبيات أو جرى تعديل في ترتيب أبياتها فهي المقصودة في هذه الدراسة/ الكتاب وليس القصائد التي لم يلمسها قلم التغيير في رحلتها من الديوان إلى الغناء.. ومنها على سبيل المثال قصيدة «أيظن» المنشورة في ديوان «حبيبتي» لنزار قباني والتي لحنها محمد عبدالوهاب كاملة ومن دون تغيير كلمة وغنتها نجاة الصغيرة وهناك أغنيات لم يعثر المؤلف على كلماتها لكي يتمكن من المقارنة بينها وبين القصيدة الأصلية.. مثل قصيدة «لقاء» التي غناها عبدالحليم حافظ بلحن كمال الطويل عن قصيدة لصلاح عبد الصبور ويقول مطلعها: 
«بعد عامين التقينا ها هنا
والدجى يغمر وجه المغرب 
وشهدنا النور يخبو حولنا
فسبحنا في جلال الموكب»
هذه القصيدة ليست موجودة في دواوين الشاعر صلاح عبدالصبور وأغلب الظن أنه كتبها خصيصا للغناء عندما كان الثلاثة عبد الصبور والطويل وعبدالحليم في بداية المسيرة الاحترافية يتعاملون مع الإذاعة المصرية. 
 ويذكر المؤلف إحدى الحكايات التي رافقت ولادة أغنية «غني لي شوي شوي» وكان الشاعر بيرم التونسي الذي كتب كلماتها على النحو التالي «غني لي شوي شوي» «غني لي يا نور عيني» فقالت أم كلثوم «وخذ عيني».. قال بيرم هكذا أفضل.. وبالنسبة لأغنية «إنت عمري» التي كتبها الشاعر أحمد شفيق كامل ويقول مطلعها «شوقوني عينيك لأيامي اللي راحو» قالت أم كلثوم: «رجعوني عينيك» واستعذب الشاعر التغيير.
يتحدث فارس يواكيم في مقدمة كتابه عن الكثير من التسجيلات الممتعة وبعض الاكتشافات الطريفة من بينها أبيات شعرية للشاعر أحمد شوقي غير مثبتة في دواوينه ومن بينها قصائد لشعراء ما كان يتصور أن الملحنين عرفوها أو سمعوا بها ومنها قصائد لعباس محمود العقاد وخليل مطران والزعيم المغربي علال الفاسي. والشاعر عمر أبوريشة وقد تكون الصدفة هي التي جعلت الملحنين لا يلتفتون إلى قصائد شاعر بعينه برغم وفرة القصائد الجميلة والغنائية في دواوينه والقصيدة التي غنتها فيروز لعمر أبو ريشة ليست موجودة في ديوان الشاعر (الأعمال الكاملة) وكذلك القصيدة التي لحنها فيلمون وهبي.. وهناك قصائد ملحنة أيضا لشاعر الملاحم بولس سلامة غنت فيروز واحدة منها وثانية غنتها نجاح سلام وهي من مطولة شعرية بعنوان «فلسطين وأخواتها».

من التراث
وبالعودة إلى تراثنا الغنائي نجد على امتداد العصور أن القصائد كانت دعامة الغناء وقد نهل الملحنون والمطربون كثيرا من معين التراث الشعري لأعظم الشعراء.. فقد غنى ناظم الغزالي قصيدة «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» لأبي الطيب المتنبي كما غنت ليلى مراد قصيدة أبي العلاء المعري «غير مجد في ملتي واعتقادي» من ألحان زكريا أحمد.. وغنت المطربة الجزائرية القديمة بهيجة رحال.. العديد من القصائد العربية التراثية.

 وفي القرن التاسع عشر غنى يوسف المنيلاوي (1850 – 1911) قصيدة أبي نواس «حامل الهوى تعب يستخفه الطرب».. ثم غنتها فيروز بلحن الأخوين رحباني في القرن العشرين. وثمة قصائد غناها أكثر من صوت بألحان مختلفة ومنها قصيدة:
«جاءت معذبتي في غيهب الغسق
كأنها الكوكب الدري في الأفق
فقلت: نورتني يا خير زائرة 
أماخشيت من الحراس في الطرق 
فجاوبتني ودمع العين يسبقها
من يركب البحر لا يخشى من الغرق»
وقد غنتها فيروز بلحن محمد محسن كما غناها بلحن آخر كل من صباح فخري ومحمد خيري. كذلك غنى ناظم الغزالي وصباح فخري قصيدة مسكين الدرامي «قل للمليحة في الخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبد». وغنت فيروز وعبدالهادي بلخياط موشح «ياليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده»؟ للحصري القيرواني.

أراك عصي الدمع 
قصيدة «أراك عصي الدمع» للشاعر أبوفراس الحمداني (932 - 968م) التي كتبها الشاعر عندما كان أسيرًا عند الروم فيها الكثير من الحزن والأسى.
 تقول الحكاية «ذات يوم كان أبو فراس عائدا من الصيد مع بعض الأصدقاء فتعرض لكمين وتم أسره وظل في الأسر أربع سنوات وقد كتب قصيدته تلك «أراك عصي الدمع» وغنتها أم كلثوم 3 مرات الأولى عام 1924 بلحن عبده الحامولي والثانية عام 1942 بلحن زكريا أحمد ولم تسجل، والثالثة بلحن رياض السنباطي وهي المعروفة والشائعة.
تتألف القصيدة من 54 بيتا غنت أم كلثوم في الإصدار الأول ستة منها.. وفي لحن السنباطي عشرة أبيات من ضمنها الأبيات الستة السابقة بلحن مختلف، والأبيات الخمسة الأولى تطابق أبيات الديوان.. في الترتيب وفي اللحنين. وقد تعرضت الكلمة الأولى في البيت الثاني للتعديل ويعتبر ذلك مخالفة لقواعد اللغة العربية.
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟
«بلى» أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر 
«بلى» أصبحت في الأغنية «نعم» وهذه مخالفة ،لأن السؤال بصيغة النفي «أما للهوى»؟ يستوجب الرد بـ «بلى» ولو كان السؤال «هل للهوى» لأمكن الجواب بـ «نعم» وفي النسختين غنت أم كلثوم «نعم» لعلها أرادت تفادي المدلول العامي المصري لكلمة «بلى» التي تعني «بلاء» لكن في طبعة بيروت 1910 نقرأ البيت كما غنته أم كلثوم «نعم أنا مشتاق».
وفي لحن عبده الحامولي ارتجال تطريبي جعل أم كلثوم تغني «عليك» الواردة في البيت الأول بالنطق العامي المصري والأمر تكرر في مطلع البيت الثالث «إذا الليل» فغنت أم كلثوم «الليل» بالعامية بكسر اللام. ويواصل المؤلف شرح الأبيات الأخرى التي شدت بها أم كلثوم مراوحة بين العامية والفصحى لنطق بعض الكلمات وقد تعرض البيت السادس في الأغنية لتعديل أجراه الشاعر أحمد رامي وهو الذي اختار الأبيات التي غنتها أم كلثوم بالتفاهم مع ملحنها رياض السنباطي.

رباعيات الخيام
ومن الترجمات العربية لرباعيات الخيام اختارت أم كلثوم أن تغني نص أحمد رامي وكانت ترجمته رقيقة سلسة تصلح للغناء.. وكلفت رياض السنباطي بمهمة التلحين ومن الرباعيات الـ 175 بيتا التي ترجمها رامي لحن السنباطي خمس رباعيات، الأولى والأخيرة ظلتا في موقع متطابق.. علما بأن رباعيات الخيام المنشورة لم ترتب وفقا للسياق التاريخي لإبداعها بسبب غياب الأدلة فكان اللجوء إلى الترتيب الأبجدي.
في القصيدة المغناة جرى استبعاد بعض المفردات خصوصا ما يتعلق منها بالخمريات.
تقول الرباعية الأولى:
سمعت صوتا هاتفا في السحر 
نادى من «الحان» غفاة البشر 
هبوا املأوا كأس الطلى قبل 
أن «تفعم» كأس العمر كف القدر 
تدخل قلم أحمد رامي فشطب من ترجمته ثلاث كلمات ونظم ثلاثا أخرى استبدلت بـ«الحان» كلمة «الغيب» وحلت «المنى» محل «الطلى» واستخدم «تملأ» بدلا من «تفعم». 
ولم يطرأ أي تعديل على الرباعيات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة أما السادسة فخضعت لجراحة رقابية..
أفق خفيف الظل هذا السحر
وهاتها «صرفا» وناغ الوتر 
فما أطال النوم عمرا
ولا قصر في الأعمار طول السهر 
وقد تغير البيت الثاني وغنته أم كلثوم: 
نادى دع النوم وناغ الوتر.
التعبير الغائب هو «برد الشراب» والبديل كان «شهد الرضاب» وأصبح البيت «أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب»، إلى جانب تغييرات أخرى طالت النص الأصلي ليصبح في الغناء أجمل.

أعطني الناي – المحبة 
ومن قصائد جبران خليل جبران (1883-1931) غنت فيروز «سكن الليل» التي لحنها محمد عبدالوهاب ومن كتابه العواصف اختارت المغنية الفلسطينية كاميليا جبران خاطرة نثرية.. بعنوان أنا غريب (وغنتها أنا غريبة في هذا العالم وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية ما رأتها عيني)..
قصيدة أعطني الناي غنتها فيروز وهي مأخوذة من قصيدة طويلة مؤلفة من مائتين وثلاثة أبيات بعنوان «المواكب» يقول مطلعها.
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا
والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا 
وأكثر الناس آلات تحركها
أصابع الدهر يوما ثم تنكسر 
وكلما انتهى الحوار حول موضوع ما.. كرر جبران بيتين أشبه باللازمة الموسيقية.
أعطني الناي وغن
فالغنا سر الوجود 
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود 
لحنها نجيب حنكش وقد اعتمد الأخوان رحباني لحنه عندما غنته فيروز وأدخلا عليه بعض اللمسات وقاما بالتوزيع الموسيقي لهذا اللحن المستوحى إلى حد ما من أغنية الكومبارسيتا للموسيقي الأوروغوياني غيراردو ماتوس رودريغر (1897-1948) أما الأبيات التي غناها حنكش فتقول:
ليس في الغابات موت
لا ولا فيها القبور
فإذا نيسان ولى
لم تمت معه الزهور
إن هول الموت وهم
ينثني طي السطور
فالذي عاش ربيعا
كالذي عاش الدهور
ومن كتاب «النبي» الذي لاقى رواجا منقطع النظير في العالم وترجم إلى ثلاثين لغة بعد وفاة جبران عام 1931 اختار الأخوان رحباني بعض المقاطع ولحنا لوحة غنائية حملت عنوان «المحبة» ولأن جبران صاغ كتابه بالإنجليزية فالترجمة العربية يمكن تصنيفها في باب قصيدة النثر التي يمكن أن تشكل عائقا أمام الملحن فالنص خال من الوزن وعلى الملحن أن يبتكر ما يعوض هذا النقص وهو ما فعله الأخوان رحباني بنجاح.. النص الرحباني أعاد صياغة بعض التعابير.. حتى تنسجم مع الموسيقى الخاصة بالنص.

مذكرات بحار
ومن الحكايا الشائقة التي يرويها المؤلف في كتابه قصة «مذكرات بحار» للشاعر الكويتي محمد الفايز (1938-1991) الذي كتب ملحمة شعرية من ثماني عشرة لوحة يدور موضوعها حول رحلات الغوص البحرية التي مارسها أهل الخليج العربي بحثا عن اللؤلؤ وقد لحن غنام الديكان بعضا من أبياتها وغناها شادي الخليج ولم يكن ترتيب الأبيات في الأغنية مشابها للديوان وكانت بداية الأغنية موفقة لأنها تضع السامع في جو الحكاية: 
سأعيد للدنيا حديث السندباد 
ماذا يكون السندباد؟
شتان ما بين خيال مجنون وعملاق تراه 
يطوي البحار على هواه 
بحباله بشراعه بإرادة فوق النجوم 
بيد تكاد عروقها الزرقاء ترتجل النجوم 
هذه الأبيات لم يغنها شادي الخليج
مازلت أذكر كل شيء عن مدينتنا القديمة 
عن حارتي الرملية الصفراء والمقل الحزينة 
لما نحدق في السماء على السطوح 
نضبت جرار الماء والغدران مثل يد النخيل 
وسمعت والدتي تقول 
في البحر رزق الناس يا ولدي وأيام الجفاف 
في الأرض ما برحت ومن يلق الشباك 
يأكل وفي قاع البحار 
الخاتم المسحور والرزق الكثير.. 
وقد أضاف الشاعر بيتين غناهما شادي الخليج:
ويضيء لؤلؤنا على تلك الصدور
ويظل صدرك خاليا يا أنت 
يا عبق الزهور..
ها نحن عدنا ننشد الهولو
على ظهر السفينة عدنا للمدينة 
ها نحن عدنا يا كويت
إلى شواطئك الأمينة .