قصص على الهواء

   قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

          عادة ما يثير إبداع الشباب ما يدهش، وما يتعمد القطيعة والتقاليد الأدبية الراسخة كما نلمح في هذه النصوص المختارة. فهي تتميز بنقضها للواقعية الراسخة في التقاليد القصصية، واقترابها من الحكي الشعبي، إلى جانب تأثرها بمراوغة اللعب السائد في الوسائط الترفيهية والمهنية، مختزلة القصص عبر مقتطفات تعبيرية، وحسية، ورمزية قد تمزج النثر والشعر في آن معا، وهو ما نراه في هذه القصص:

  • القصة الأولى: «يومان في حياة اليابس» لعبدالجواد خفاجي: - مصر

          يُختصر الموقف القصصي في يومين من حياة قرني اليابس يفصلهما عام، يتحول فيه من فقير إلى غني بفضل كيس وجده في اليوم الأول ورفض تسليمه إلى مسجد الرحمن تلبية لنداء صاحبه، وحينما يجد كيسا من المخلفات في اليوم الثاني من العام التالي يسرع بتسليمه إلى المسجد. والمفارقة في البنية المتوازية ساخرة تدعو إلى تأمل الحقيقة المعكوسة، والتي تنطوي على نقض التمسك المظهري بالأخلاق دون الالتزام بفحواها الأعمق. وهذا ما يتجسد بالمشهدين المتوازيين للعامين الأول والثاني، اللذين تم اختزالهما في مشهد خارجي ومشهد داخلي.

  • القصة الثانية: «جراح العشق وانكسار الألم» لمحمد محقق: - المغرب

          تنتمي هذه القصة لما يوصف بقصيدة النثر. ويتشكل النص من مقطوعات قصيرة تنطوي على مفارقة كامنة حتى في العنوان: فانكسار الألم ينفي جراح العشق. والمفارقة في مقطوعة «اعتياد» في ضرورة الاغتراب للتقارب في العلاقة الزوجية. ينشأ الاغتراب عن نقض الصورة النمطية للذات، مما ينقض بدوره الصور النمطية للعلاقات الاجتماعية، والتي تفتر بالاعتياد. والمفارقة عينها تتكرر في «جرح غائر» في ازدواجية العلاقة بين الزوجين وهما يتبادلان النظر من موقعين متغايرين. ازدواجية العلاقة تجسد تلامس الواقع والخيال ليغدو العشق «سرابا» متواترا بين اللذة والألم، ويغدو الافتنان بالأنثى واجتياح الرغبة متمثلا في ولع الثور بالأحمر في نص «كوريدا».

  • القصة الثالثة: "كتابة" لهناء عبدالجواد: - مصر

          يجسد النص ممارسة الكتابة عبر حوار داخلي دال على احتواء الذات على غيريتها. وبينما تحمل نصوص محقق مفارقة ساخرة لما تكشفه من تناقضات أو تضاد في العلاقات، يتجسد الصراع الداخلي في نص هناء من منظور مغاير، تظل الورقة بيضاء فارغة من الكتابة حتى تحين لحظة الاندماج بين ذاتين: الذات الدافعة للفعل والذات الصاغية، أو الفعل الإرادي واللاإرادي، وكأن فعل الكتابة مرادف للحظة التوازن الداخلي أو لحظة الميلاد. كما تتمثل خصوبة التجربة في خصوبة التربة التي تزهر باكتمال النص، مصحوبة بالموسيقى لحظة الفرج. أما في نصوص محقق فبدلا من التفاعل بين الذات والآخر الذي تحتويه، يظل التعرف على الغيرية في الذات مجالا للعب المفتوح أو التساؤل المطلق. وبينما تجسد لنا نصوص محقق القسوة الكامنة في جمال التجربة، يبرز نص هناء التوازن بين الجمال والألم لترادف مخاض الميلاد وتشكل براعم الكتابة، زهور الإبداع.

  • القصة الرابعة: «الضرير» لعبدالله علي المطمي: - السعودية

          يتجسد الواقع في النصوص المختارة، وبينها هذه القصة، من منظور جديد. يتشكل عبر الحواس، حيث يغدو الضرير كيانا مشاركا في نبض الحياة لا في أحداثها - نبض تستشعره عصاه، حاسته المبصرة. وهناك علاقة ملتبسة بين الضرير وعصاه، حيث يصعب الفصل بين القائد والمنقاد. فتعاضد الضرير وعصاه يمثل علاقة تبادلية بين الإرادي واللاإرادي. وبخروج الضرير يوما عن مساره المعتاد نتبين قدرته على كشف المواطن الخفية التي قد تغيب عن المبصر، متيحة المدهش من التجارب التي باتت معتادة للمبصر.

          في عهد تم اختزال الزمن والمسافة عبر الوسائط الإلكترونية، وتعددت الهوية بتضاعف التفاعل بعوالم الفضائيات المغايرة، يفي التجريد في القص عبر البنية المتوازية المعكوسة، والشعرية النثرية، والتجسيد الحسي بنقد المألوف، حيث تغدو التجربة المكثفة رمزا يختزل طبقات من المعاني.

----------------------------
«يومان في حياة اليابس»
عبدالجواد خفاجي - مصر

السبت 28 يناير 2000م

1 - ليل خارجي

          التفت قرني اليابس فجأة إلى جانب الطريق.. توقف لبرهة قصيرة.. تلفت يمنة ويسرة.. كان الليل يرخي سدوله، وأعمدة الإنارة تفرش ضوءها الهزيل على التراب الداكن.. لم تكن ثمة أرجل أخرى على مقربة منه.. هنالك انحنى إلى الأرض والتقط كيسًا أسود، وأكمل بعدها سيره في هدوء.

2 - ليل داخلي:

          قبل منتصف الليل بقليل، سمع مكبرًا للصوت ينادي : يا أولاد الحلال «ضاع اليوم من محمود أبو الورداني مبلغ مائة ألف جنيه مصرورة في كيس أسود» من يجدها يسلمها لإمام جامع الرحمن، وله الأجر والثواب من رب العباد.

          تحرك من موضع نومه إلى سقيفة البيت المظلم.. ونظر من خصاص الباب، رأى في ضوء الشارع الهزيل سيارة بيضاء، وكان مثبتًا في أعلاها مكبر للصوت.. تأكد من صاحب الصوت الجالس بجوار السائق.. أغمض عينيه قليلا فيما يشبه النعاس.. رأى نفسه في سيارة بيضاء، لابسًا جلبابًا أبيض، جالسًا نفس الجلسة بجوار السائق، وقد لف جسده بعباءة زاهية.. فتح عينيه ثانية، ونفض عن رأسه بقايا حلم قديم.. همّ أن يخرج إلى الرجل الجالس ي السيارة.. تردد للحظة، ثم... لسبب ما ارتأى أن يعود إلى موضع نومه.

الخميس 15 فبراير 2001م

1 - نهار خارجي:

          كعادته بعد انفضاض السوق، كان يتمشى في الرحبة، قبيل الغروب، يتفرس التراب ومخلفات السوق، وسط العيال والنعاج والماعز.. لمح كيسًا محشوًا ملقى بإهمال وسط كومة من أوراق الخص والبقدونس والطماطم المفعَّصة.. التقطه بتؤدة ومضى عائدًا إلى بيته.

2 - ليل خارجي:

          بعد العشاء بقليل، كان قرني اليابس لابسًا جلبابًا أبيض، وقد لف جسده بعباءة زاهية، جالسًا بجوار السائق في سيارة بيضاء، ماسكًا سماعة مكبر للصوت، والسيارة تجوب أطراف البلد.. إلى أن سمع الناس قرني اليابس رافعًا عقيرته: يا أهل البلد جميعًا.. قرني اليابس لقي كيسًا في أرض السوق، فيه طماطم وبصل وأربعة أرغفة.. والكيس موجود مع إمام جامع الرحمن.

----------------------------
«جراح العشق وانكسار الألم»
محمد محقق - المغرب

          اعتياد

          بطلب من زوجها..

          اعتنى بها في غيابه..

          أحبت قدومه اليومي..

          حين عاد الزوج..

          !وجدها امرأة أخرى..

          ................................

          دلال

          رآها وهي تتمايل بين المارة،

          اختفت فجأة بين الزحام..

          تحسس ذاته بلذة..

          فشعر بصفعة قوية

          على قفاه..!

          ................................

          وخز الذكرى

          أسند ظهره متكئا على سارية عشقه الواهي...

          تعكر صفو ناظريه بلامبالاة،

          تتحدى أفق نيرانهم العصيبة ....

          وفجأة انتابته حالة تيه،

          فوخزته الذكرى و أطلق العنان لابتسامة

          ماكرة....

          ................................

          سراب

          انتبه فج..أأأأة..

          و جدها متربعة في أعماق قلبه..

          بات الليل كله ينسج زرابي حلم جميل..

          ولما أشرقت شمس الصباح..

          اختفت وقد لملمت خيوط عشقها البالية

          !حينها أخذ يكتب تراتيل الألم..

          ................................

          جرح غائر

          من نافذته،

          كان ينظر إلى زوجين سعيدين..

          فجأة كانت الزوجة

          تنظر من نفس النافذة صحبته،

          إلى زوجها وحيدا..

          ................................

          كوريدا

          لأنه من نوع الثيران الهائجة،

          عشق اللون الأحمر الداني،

          وحين رآها تمشي بتؤدة،

          تعطش لمائها الزلال،

          فعاث في أرضها فسادا

----------------------------
"كتابة"
هناء عبدالجواد - مصر

          كِتَابَة

          فِى تِلْك الْلَّيْلَة

          حَاوَلْت الْنَّوْم فَلَم أَقْدِر ..أَخَذَت أَتَقَلَّب فِي الْفِرَاش كَمَوجُوّع لَيْس لَه دَوَاء

          فِى الْفَجْر وَجَدْتُك تُنَادِيَنّى - أَن انْهِضَى فَنَهَضْت مُسْرِعَة نادِيْتَّى أُخْرَى - أَن امْسُكَى الْقْلُم اكْتْبَى

          أضَات نُوْر الْغُرْفَة .. أَحْضَرَت الْوَرَق وَالْقَلَم حَاوَلْت وَحَاوَلْت فَلَم اسْتَطِع حَاوَلْت ثَانِيَة و ثالثه

          اشْرَقَت الْشَّمْس و تَكَرَّر هَذَا الْمَشْهَد لَيَالِى كَثِيْرُه

          ومَا زَالَت الْصَّفْحَة بَيْضَاء.

          وَذَات لِيّلَه رفعت غِطَاء الْقْلُم - اذَا بِالْسِّن الْطَّوِيل الْطَّوِيْل و الَقَلَم فَارِغ وَالاوْرَاق بَيْضَاء

          نادَيْتَنّى مِن اعْمَاق الْعُمْق مِن بَيْن سَرَاديب الْصَّمْت

          - أَن اغَرْسَى الْمِحْقَن فِى الْوَرِيْد امَلِئِى الْقْلُم

          - أَكْتْبَى مِن فَرْط الْالَم فَفَعَلَت

          - سَحْب الْقْلُم الْدَم مِن اعْمَاق الْقَلْب -----

          - إِمْتَلَا الْقَلْب بِالْوَجَع و امْتِلَاء الْقْلُم بِالْدَّم

          امْسَكْت الْقْلُم الْمِحْقَن و كَتَبْت

          - فِجاااااء الْفَرَج

          فَغَطَّت الْزُّهُوْر صَفَحَاتِى الْبَيْضَاء وَارْتَفَعَت أَصْوَات الْمُوْسِيْقَى .....

----------------------------
«الضرير»
عبدالله علي المطمي - السعودية

          يسير في الأزقة وقد رفع هامته ينظر إلى الأعلى وعصاه تمسح له الطريق، يعرف الدرب الذي يسلكه من بيته إلى السوق، حيث مجلسه اليومي يتبادل الأحاديث مع أصحاب الحوانيت وباعة البسط، يرى بيديه ويسمع بأذنيه، نادراً ما يغير خط سيره إلا عندما تجنح به عصاه عن الدرب المعتاد وهو يحركها يمنة ويسرة مفسحة له الطريق من المارة، أحس بإحساس الأعمى الذي نادراً ما يخيب، وبحساسية قدميه خروجه عن دربه المعتاد إلى درب آخر، زاد حذره وأرهف سمعه، لم يعد يسمع أحد من المارة ماشياً أو مسلماً مواصلاً سيره الوئيد الحذر، لفحة عطر عبرت أنفاسه تبعتها يد ناعمة قبضت على معصمه التي بها العصا حولت مساره إلى جهة اليمين، تبعها منقاداً دون أن ينبس ببنت شفة، سمع صوت الباب يقفل خلفه، سار حتى ولج باب آخر وصوته يقفل خلفه أيضاً، كهرباء تسري في سائر بدنه عبر اليد الناعمة التي ما زالت مطبقة على معصمه، وقف وقد أحس أنه يقف علي سجادة وهواء بارد يلفح وجهه المتعرق، اسلم نفسه للأحداث التي توالت، والصمت مطبق على المكان إلا من آهات وشهقات، خمسة عشرة دقيقة فقط واليد الناعمة تمسك معصمه من جديد وتسير به متخطية الباب الأول ثم أطلقت معصم اليد القابضة على العصا ودفعته في ظهره ليخرج من الباب إلى فضاء الشارع وهو يسمع صوت المزلاج يقفل خلفه، تنفس بعمق وواصل سيره وعصاه تشمشم الأرض أمامه تقوده في الطريق.
-----------------------------------
* ناقدة وأكاديمية بجامعة الكويت.

 

 

 

د. ماري تريز عبدالمسيح*