حكايات جريم

حكايات جريم

تذكر السيدة آلموت دروك أن زوجها قد وجد هذه النسخة القديمة من الكتاب في بيت أمه بعد وفاتها، وبحساب التاريخ المكتوب عليها تعتقد أن حماتها ربما كانت في السادسة من عمرها حين كتبت تلك الكلمات المسجوعة. «هكذا تنشأ أول علاقة بين الطفل الألماني ولغته من خلال الحكايات» تقول دروك وعلى وجهها ابتسامة حنين.
قام الأخوان جريم بجمع تلك الحكايات في بدايات القرن التاسع عشر عن طريق الأصدقاء والمعارف الذين عاشوا بمدينة كاسل والمناطق المجاورة في ألمانيا، فقد اعتبرا هذه الروايات تعبيرًا عن روح الشعب الألماني. وبإعادة كتابة القصص مع التغيير البسيط في صياغتها كإضافة جمل الافتتاح والخاتمة المشهورة مثل «كان يا ماكان...» أو «لو لم يباغتهم الموت لكانوا أحياء بيننا اليوم..»، وأيضًا بفضل إضافة بعض الصور جذبت هذه الحكايات ابتداء من عام 1830 جمهورًا كبيرًا تزايد على مدى الزمن فصارت تلك الحكايات جزءًا أساسيًا من حياة العائلات الألمانية، بل وعرفها العالم كله إذ تمت ترجمة كتاب الحكايات إلى ما يقرب من 140 لغة. أما اليوم فلا يخلو بيت ألماني من مجموعة متنوعة من النسخ القديمة والجديدة من حكايات جريم. 
تجلس السيدة دروك العجوز على السلم الخشبي في منزلها وبين يديها نسخ متعددة من كتاب الحكايات، أخرجتها من مكتبتها لتستعيد معها ذكريات طفولتها وطفولة أبنائها الأربعة بل وأحفادها التسعة، تقول: «عندما وجدت هذه الطبعة القديمة وأخذت أتفحصها مع اعتقادي أنني أعرف كل القصص وجدت بالفعل بعض القصص التي لم أعد أتذكرها». تبدأ في استعادة تفاصيل قصة القط الذي اقترح على الفأر أن يتشاركا في منزل واحد، وهو بالطبع ما يصعب تصوره، لكنهما بالفعل يختاران مكانا آمنا تحت مذبح الكنيسة ملائمًا أيضًا لتخزين الطعام والدّهن استعدادا للشتاء. يتحجج القط بميلاد هريرة جديدة في عائلته ليتمكن من السفر ويتكرر ذلك ثلاث مرات، تقول دروك «من المعتاد في الحكايات الشعبية أن يتكرر الفعل ثلاث مرات». تستكمل إذ يسأل الفأر عن اسم المولود، فيقول القط إن الأول يسمى «الطبقة اولى» والثاني «نصف الكمية»، والمولود الثالث «كل الكمية» ويدرك الفأر أن تلك خدعة فيدخل البيت ليجد الدهن كله قد نفد ويكون قد دخل الفخ بنفسه فيأكله القط في نهاية الحكاية. «نهاية محزنة وعنيفة»! 
لا تستبعد دروك أن تسقط مثل هذه الحكاية أحيانًا من الذاكرة بسبب ما فيها من نهاية عنيفة حيث لم ينتصر الأضعف بل أكل القط الفأر وهي نهاية واقعية لكنها غير معتادة وتأتي على عكس النهايات السعيدة التي يحبها الأطفال، إلا أنها ترى أن الأفضل أن تحفظ الحكايات كما هي في أصلها وكما جمعها الأخوان جريم. 
تتناول وسائل الإعلام الألمانية فعاليات الاحتفال بحكايات جريم باهتمام بالغ، وقد دارت الكثير من النقاشات بين المحافظين والمحدثين، فمنهم من يتمسك بالحكايات التقليدية ويؤكد على أهمية الحفاظ على اللغة الكلاسيكية المرتبطة بهذا التراث ومنهم من يعبر عن قلقه من تضمنها بعض المفردات التي ارتبطت بمفاهيم سلبية في الوعي الحديث مثل كلمة «زنجي» مثلا. وقد عرضت قناة الدويتشه فيلا الألمانية أخيرًا تقريرًا عن آراء الأمهات اللاتي فضلت بعضهن قراءة الحكاية لابنائهن كما جاءت في التراث ليشكل هو مع الوقت وعيه الخاص بمثل هذه الكلمات ربما مع الإشارة له بذلك، ومنهن من قالت إنها تستعيض عن كلمة مثل هذه بكلمات أخرى تراها مناسبة أثناء القراءة. 
تقول السيدة دروك إنها قرأت أخيرًا إحدى الحكايات المفضلة لديها في نسخة حديثة مختصرة، اهتم فيها الناشر على ما يبدو بصنع كتاب صغير للجيب فحافظ على مضمون الحكايات ولكن مع بعض الاختصار بحيث فقدت القصة قدرا من البلاغة وحلاوة أساليب الحكي التقليدية. تستطرد دروك: «إن بطل تلك القصة خياط ضعيف نحيف لا يملك سوى ذكائه ومهارة صنعته، إلا أنه رغم ضعفه يحلم بالزواج من ابنة الملك الذي يشترط أن يكون المتقدم رجلًا قويًا يستطيع أن يقضي على الوحوش العملاقة التي تسكن الغابة المقابلة للقصر. وفي يوم من الأيام مرت بائعة الحلوى على الخياط فاشترى منها بعضًا وقرر أن يؤجل الأكل إلى أن ينتهي من حياكة قميصه. ولكن وقفت سبع ذبابات على الحلوى، فاغتاظ وضرب ضربة قوية من شدة غيظه قتلت سبعًا في مرة واحدة. أحس الرجل في نفسه قوة لم يعرفها من قبل وكتب على قميصه بالخيط الملون (سبعًا في مرة واحدة)». 
«أحيانا أنسى بعض التفاصيل، لكن المهم أن الخياط قرر أن يحارب الوحوش العملاقة ويفوز بابنة السلطان فذهب بالفعل إلى الغابة ودار سجال بينه وبين أحد الوحوش الذي استضعف هيئته وسخر من ضعفه».
لا تستطيع دروك أن تتذكر كل الحيل التي استخدمها الخياط الضعيف لكنها تذكر منها تحدي الوحش: «الفائز هو مَن يرمي حجرًا إلى الأعلى رمية أقوى فلا ينزل الحجر من السماء إلا بعد مدة طويلة». يرمى الوحش بالحجر إلى أعلى بذراعيه الطويلتين فيستغرق الحجر ساعة إلى أن يسقط من السماء عائدًا إلى الأرض، فيتحايل الخياط على ذلك بأن يخرج من جعبته عصفورًا يدفعه بذراعه الضعيفة إلى الأعلى لكن العصفور يطير في السماء ولا يعود للأرض أبدًا، فينخدع الوحش ويظن أنه خسر الرهان. تستكمل دروك الحكاية إلى أن يدعو الوحش الخياط لينام في سريره الليلة حتى يستكملا التحدي في اليوم التالي، بينما يقرر قتله أثناء نومه إلا أن صغر حجم الخياط ينقذه حيث يقرر أن ينام تحت السرير العملاق، ويجيء الوحش الثاني لينام في السرير بدلا منه فيضربه الأول. تختلف التفاصيل في رأس السيدة العجوز لكنها تقول إن الحكاية تنتهي على كل حال بأن يقتل الوحشان كل منهما الآخر ويفوز الخياط بابنة السلطان كما هي النهاية السعيدة في كل حكايات الأطفال.
اللافت أن فكرة تنقيح الحكايات أو إعادة صياغتها بلغة أكثر معاصرة لم تزل مجرد فكرة قيد النقاش، ورغم وجود نسخ مختلفة من الحكايات تمت معالجتها بالفعل لتناسب مختلف المراحل العمرية إلا أنه لم يتم نشر طبعة جديدة من الكتاب بمناسبة الاحتفالات، وهو ما أكده أيضًا السيد كريستيان فولفرام مسئول المكتب الإعلامي لسلسلة مكتبات هوجن دوبل الألمانية الشهيرة، كما قال: «في الحقيقة لا توجد مؤشرات واضحة على ارتفاع نسبة مبيعات كتاب الحكايات بالتزامن مع الاحتفال بمرور مائتي عام على نشر الطبعة الأولى منه، لكن حكايات جريم تظل جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية وهي مرتبطة بذكريات الطفولة لدى الألمان، لذلك فإن مبيعاتها تظل طوال الوقت في الصدارة، ولا شك أن كتاب الحكايات يظل هو الهدية المناسبة للأطفال دائمًا في مختلف المناسبات كأعياد الميلاد أو يوم التعميد». ويتابع فولفرام أنه رغم تغير الأحوال في عصر الكتاب الرقمي وتراجع مبيعات الكتب الورقية بشكل عام يظل اقتناء نسخة على الأقل من كتاب حكايات جريم تقليدًا مهمًا في كل بيت ألماني.
تندهش السيدة دروك حين ترى نسخة عربية من كتاب الحكايات الذي تربطها به علاقة طويلة لكنها لا تعرف شكله إلا في نسخته الألمانية وبالحروف اللاتينية من اليسار إلى اليمين. تضحك حين تفتح الكتاب «من نهايته» - بحسب تعبيرها - وتتصفحه بعناية، تقارن الرسوم الموجودة فيه بالنسخ الألمانية المختلفة، فتتذكر حكاية «موسيقيو مدينة بريمن»، وهي قصة حمار يتقدم به العمر فيسيء صاحبه معاملته، لذا يقرر أن يرحل إلى مدينة بريمن ليشتغل بالموسيقى، في الطريق يقابل كلبًا يعاني نفس ظروفه فيدعوه للرحيل والعمل معه، ثم يقابلان قطًا عجوزًا وديكًا كادت سيدته تقدم على ذبحه فيكونون بذلك فريقًا موسيقيًا كاملًا، لكنهم في الطريق يمرون على بيت يسكنه اللصوص، وقد كانوا يجهزون طعامًا كثيرًا وشهيًا للعشاء، توقف الكلب حين شم رائحة الطعام وأثار المشهد فضول المجموعة كلها التي كان الجوع قد اعتصر معدتها فأحنى الحمار ظهره للكلب الذي حمل بدوره القطة فصعد الديك على ظهرها لإلقاء نظرة من نافذة البيت على الطعام، ثم بدأوا في الصياح واحدًا تلو الآخر «إي آاااه..هاو هاو.. ميااااو.. كوكو كوكووووو! فزع اللصوص وفروا هاربين فدخل الموسيقيون الأربعة وملأوا بطونهم الخاوية بعد الرحلة الطويلة وقرروا البقاء في البيت حتى الصباح، ولما أراد أحد اللصوص التسلل إلى البيت ليلًا تلعثمت خطواته في الظلام وفزع حين رأى عيني القطة تضيء فهرول إلى الخارج بينما كان الكلب في انتظاره ليعضه ويمزق قميصه وحين مر على الحمار ركله هو أيضًا ركلة قوية فعاد اللص إلى أصحابه وأخبرهم أن غولًا أو وحشًا غريبًا قد استولى على البيت واعتبر أن ذلك عقاب للصوص أمثالهم ممن يسرقون بيوت الآخرين. 
تضع دروك النسختين العربية والألمانية أمامها ثم تقرأ بصوت عالٍ بإلقاء جدة متمرسة على الحكي، وتستعذب سماع الترجمة العربية، لاسيما الأجزاء الغنائية حيث تمتلئ القصة بالكلمات المسجوعة والأشعار، بل وبعض العبارات التي صارت بمنزلة أمثال شعبية في الحياة اليومية الألمانية المعاصرة. ثم تحضر كتابًا آخرًا يحتوي على مجموعة مختلفة من الصور والرسومات التي تناولت نفس هذه الحكاية بمعالجات مختلفة. فهي من أشهر الحكايات الشعبية التي ألهمت الكثير من الأعمال الفنية والمنحوتات واللوحات المصورة، بل إن تأثيرها امتد للحياة السياسية فقد استخدمتها بعض الأحزاب في دعايتها الانتخابية، ومن أبرز تلك الأمثلة حزب FDP (الحزب الديمقراطي الحر) الليبرالي الذي استخدم صورة الحيوانات الأربعة فوق بعضها البعض عام 1991، بينما مثًّل الديك - الذي يقف بالأعلى فيرى المشهد من فوق - الحزب نفسه وذلك تحت شعار «الرؤية هي الفيصل».
......
«على كل حال لم يكن الأخوان جريم أنفسهما بعيدين عن السياسة» تقول دروك التي تستعيد تاريخهما كاثنين من أهم علماء اللغة الألمانية، فقد لعب الأخوان دورًا مهمًا في وضع أسس فقه اللغة الألمانية من خلال دراسة اللهجات المشتركة وما طرأ عليها من تحول وتطور حتى أنهما وضعا ما يسمي بقانون جريم الصوتي. لم تكن الحكايات وحدها موضع اهتمامهما بل جمعا الكثير من عناصر التراث الشعبي فكان من ضمن أهم أعمالهما مجموعة الأمثال الشعبية الألمانية بالإضافة إلى توثيق الأغاني الفولكلورية الحماسية وغيرها، وكان لذلك أيضًا دوافعه السياسية والأيديولوجية، حيث أراد الأخوان التأكيد على الهوية الألمانية الجامعة. وقد انضما في بداية القرن التاسع عشر إلى ما سُمّي بمجموعة «أساتذة جوتينج السبع» وهي المجموعة التي وقعت بيانا احتجاجيا ضد إلغاء الدستور الليبرالي من قبل إرنست أغسطس الأول حاكم هانوفر، فأدى ذلك إلى فصلهم من عضوية هيئة التدريس بالجامعة مما اضطرهم لمواصلة أبحاثهم اللغوية والعلمية بشكل فردي، وكانت الحكايات في ذلك الوقت هي المنبع الأكثر غزارة الذي اتخذ الأخوان منه نقطة انطلاق لأبحاثهما اللغوية. كما أن من المواقف المشهورة في التاريخ الألماني مشاركة ياكوب جريم في الجمعية الوطنية عام 1848 وإلقاءه كلمة في كنيسة القديس بولس بفرانكفورت حيث قال: «إن الأمة الألمانية هي أمة من الرجال الأحرار، وإن الأراضي الألمانية لا تحتمل العبودية بل تحرر المستعبدين» .