تعطُّل «الفيسبوك» لمحة من حياةٍ هشّة

تعطُّل «الفيسبوك» لمحة من حياةٍ هشّة

 كانت فقط 6 ساعات، ربع نهار، لكنّ قلب العالم توقّف فيها، فوجئ ملايين الأشخاص الذين يجلسون إلى أجهزة الكمبيوتر أو يعملون عليها، أنها قد أصبحت مجرد صناديق صمّاء، لا تصلهم بالآخرين، ولا تنجز أعمالهم، أو توفر لهم النوافذ التي تعوّدوا أن يطلوا منها على العالم، ولا توفر لهم المعلومات التي يحتاجون إليها، أو حتى تمدهم بأدوات الترفيه التي تعودوها من موسيقى وأفلام وأغانٍ، لم يحدث هذا بالنسبة إلى الأفراد فقط، بل إن الأمر شمل عددًا كبيرًا من الأعمال، ضاعت صفقات وتأخرت مواعيد وألغيت رحلات، وهبط عدد كبير من الأسهم في البورصة، وأول الخاسرين كان مارك زوكربيرج؛ الرجل الذي اخترع الفيسبوك، فقد خسر خلال هذه الساعات 7 مليارات دولار، بواقع مليار لكل ساعة، عندما تهاوت أسهم شركته إلى حدها الأدنى، وشاركته في الخسائر كيانات اقتصادية كبرى تعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي في مجال التسويق الإلكتروني والتجارة الإلكترونية والدعاية والإعلانات. 

 

كانت تلك حصيلة «ربع اليوم» الذي تعطلت فيه وسائل الاتصال الاجتماعي، فيسبوك وتويتر وماسنجر وواتساب، حيث انفصمت عرى ملايين العلاقات الافتراضية التي انعقدت بين الأفراد، وتبين أننا نعيش حياة هشّة مربوطة بخيوط واهية ونبضات غامضة، لا يعرف معظمنا كيف تعمل، ولكنه بالتدريج أصبح يعتمد عليها، وأصبح هذا الاعتماد يزداد يومًا بعد يوم، لقد تبين لنا أن العديد من اقتصادات العالم النامي تعتمد في معظم أنشطتها على هذه الأنظمة الخفية التي تقدمها وتتحكم فيها الكيانات التكنولوجية الكبرى، وتتحكم بالتالي في العديد من هذه الدول.

سجن صامت
من حُسن الحظ أن تلك الساعات الست كانت قصيرة، وقضى المستخدمون معظمها أمام الأجهزة يحاولون استنطاقها وبثّ الروح فيها، وكل واحد يعتقد أن هذا هو خطؤه الشخصي، لم يصدّق أن يسقط هذا الكائن الجبّار أو يتوقف عن العمل، كل هذه المحاولات كانت دفعًا لإحساس الاغتراب والضيق، لأنّ الوقت اليومي الذي كان يخصصه كل مستخدم للجلوس أمام هذا الجهاز قد تحوّل إلى سجن صامت، فلم تعد هناك أخبار جديدة، ولا تواصل مع العالم، مات - فجأةً - جزء صار من أكثر ظواهر العصر الحديث، وعلى العكس من ذلك، فقد رأى البعض أن هذه الساعات هي ساعات الحقيقة، الوقت الذي تخلّص فيه البشر فجأة من كل الأوهام الافتراضية، وبات عليهم أن يعودوا للاتصال المباشر فيما بينهم، فقد نجحت هذه الوسائل في سرقة الوقت، خاصة وقت الأطفال، كما أنها غسلت العقول وزرعت فيها قيمًا جيدة قد لا تستسيغها، واستغلها البعض في التبادل التجاري وربح الأموال، ووصل الأمر إلى استغلالها كوسيلة للابتزاز، سلبيات كثيرة تخلصت منها البشرية في هذه الساعات الست.
ورغم كل شيء، فإن بعض التقارير الدولية تؤكد التأثير الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي في النهج الذي نتّبعه إزاء العملية التعليمية، فقد زاد التركيز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتعلّم المهارات الشخصية والقدرة على التكيّف، وساعدت هذه الوسائل العديد من الأفراد على اكتساب مهارات جديدة والارتقاء بفكرهم حتى يؤدوا أعمالهم بطريقة أفضل، ويقوم الذكاء الاصطناعي بدور إيجابي في تجميع البيانات وتشخيص المشكلات في مجالات الزراعة والصحة والبيئة، كما أنه ساعد أيضًا المؤسسات الصغيرة في أداء أعمالها اليومية؛ مثل التعاملات المالية مع الزبائن أو متابعة الفواتير أو حتى دفع المرتبات. ورغم دور وسائل التواصل في كشف البيانات الشخصية، فإن هذا الأمر يمكن أن يصبح مكسبًا للفرد إذا أتيحت له صيغة لتنظيم ملكية البيانات الشخصية بشكل أفضل. 

أسرارنا في مهب الريح
على الجانب الآخر، توجد هناك الكثير من السلبيات، كما عبّر عنها أحد خبراء الكمبيوتر قائلًا: «لقد أصبحت أسرارنا في مهب الريح»، فقد صارت الحياة الشخصية مُنتهَكة، في ظل تطور التكنولوجيا - التي أصبحت لديها القدرة على اختراق الجدران - وتستغل الدول والمؤسسات وكذلك أجهزة الأمن هذه المعلومات للاستفادة منها في تتبُّع الأفراد، وتقسم هذه المعلومات إلى نوعين؛ الأول معلومات نقدمها طائعين عن أنفسنا إلى هذه الأجهزة، ونوع آخر تتوصل إليه هذه الأجهزة عن طريق الذكاء الاصطناعي، فيكفي أن تبدي على شاشة فيسبوك رغبة - ولو بسيطة - مثل قضاء إجازة قصيرة في مكان هادئ حتى تُفاجأ بالموقع وقد امتلأ بكل أنواع الفنادق والمنتجعات وشواطئ البحار، لقد تلقفت شركات الإعلانات رغبتك وحوّلتها الأجهزة إلى صور مجسّدة لكل مكان يخطر على البال، وإذا كتبت عن رغبتك في شراء حذاء مثلًا، فستجد الشاشة قد أصبحت حافلة بكل أنواع الأحذية، فهناك خط مباشر بين هذه البرامج وشركات الإعلان، وهم يتركون لك بالطبع حرية الاختيار، ولكن من بين الأشياء التي يختارونها هم لك، وما يحدث للأفراد يحدث أيضًا للمؤسسات، فقد استطاعت هذه البرامج التدخل في انتخابات كبرى مثل الانتخابات الأمريكية، وتدخلت في القرارات الاقتصادية للعديد من المؤسسات، وأخيرًا استطاع بعض المخترقين «الهاكر» وهم لصوص الإنترنت معرفة شفرة إحدى الشركات التي تقوم بتغذية أنابيب النفط، واستطاعوا قفلها بشفرة مضادة، وتوقف تدفّق النفط بالفعل، وتم إرغام الشركة على دفع مبلغ كبير من المال قبل أن تفكّ الشفرة وتسمح بسريان النفط.
وقد أصبحت هذه المشكلة محل اهتمام الحكومات والمؤسسات، بل ومنظمات حقوق الإنسان، التي تهتم بصيانة خصوصيات الأفراد وحمايتهم من متابعة أجهزة الأمن والتجسس على حياتهم، خاصة في الدول القمعية، فليس من المنطقي أن تكون معلومات المتعاملين على شبكة الإنترنت العملاقة ملكًا لبعض الشركات، أو سلاحًا في حوزة أجهزة الأمن، وربما يكون تسريب وثائق «ويكيليكس» هو الأضخم في مجال تسريب الأسرار، وقد قام بها صحافي أسترالي  هو  جوليان أسانج، الذي كشف عن آلاف الوثائق المهمة، وأصبحت «ويكيليكس» عنواناً لأشهر قضايا تسريب الأسرار والمعلومات التي تمسّ الأمن القومي للعديد من دول العالم، ونظرًا للكمية الضخمة من الوثائق، فقد تم تقسيمها حسب أهمية الأسرار التي تكشفها، فهناك «وثائق بنما» التي تكشف الأموال التي قام بتهريبها كبار المسؤولين حول العالم لبنما، وهناك وثائق «صندوق باندورا» التي تكشف عن الشركات الوهمية التي أنشئت للتهرّب من الضرائب بعيدًا عن موطنها الأصلي، فيما يسمى بالملاذات الضريبية، وهي تضمّ أسماء لزعماء وسياسيين حول العالم، ويقال إن بينها أسماء عربية، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوربي لإصدار قوانين جديدة ومختلفة لحماية البيانات الشخصية على اعتبار أنها حق أساسي للفرد، ولحقته في ذلك  دول عدة، لذلك تم تفعيل اللائحة العامة لحماية البيانات، كإطار جديد لحماية هذا الحق. وتمكّن هذه اللائحة الأوربيين من استعادة السيطرة على معلوماتهم الشخصية داخل نطاق الإنترنت وخارجه. ويشمل تفعيل حماية البيانات الشخصية مجموعة من الممارسات والضمانات والقواعد الملزمة قُصد بها ضمان التحكّم فيها، وأتمنى أن يتم تفعيل هذا القانون في البلاد العربية. 
لكن، هل يمكن أن تتمادى التكنولوجيا لتصبح اليد العليا في حياتنا؟ هل يصنع البشر بأيديهم الآلات التي تتحكم في تصرفاتهم؟ الإنسان هو أرقى المخلوقات وأكثرها ذكاءً، فهل يمكن أن توجد آلات أكثر ذكاءً منه؟ 
في قصة قصيرة لا تتجاوز 500 كلمة بقلم كاتب الخيال العلمي الشهير إيزاك أسيموف يقدّم رؤيته الخاصة جدًّا لهذه المسألة، فهو يحكي عن اختراع كمبيوتر عملاق يمكن أن تتصل به كل أنواع الآلات على وجه الأرض؛ سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تخص الأفراد أو المؤسسات، كل التوصيلات قد تجمعت في وصلة واحدة تغذي هذا الجهاز الأوحد، وحانت لحظة البدء في المشروع، واشتعلت كل الأضواء ودبّت الحياة بكل الدوائر، ووقف العالم الذي أشرف على المشروع أمام الجهاز العملاق وهو يسأله: هل تعرف الإجابة عن أي سؤال؟ قال الجهاز في ثقة: يمكنك أن تسأل ما تشاء، تردد العالم قليلًا ثم قال السؤال الذي حيّره طويلاً: هل  الله موجود؟ وقالت الآلة بلا تردد: الآن يوجد إله، وتنتهي القصة بمعناها الرمزي عند هذا الحد، إنها ليست تجديفًا، ولا مناطحة لمكانة الله سبحانه، لكنها صيحة تحذير أطلقها هذا الكاتب في السبعينيات، حتى لا تسيّرنا الآلات بدلًا من أن نسيّرها، ولم يكن يدري إلى أي حد يمكن أن تصل، كما يحدث في زمننا الحالي، وكيف أصبحت تتحكم في الكثير من نواحي حياتنا.
أمثال هذه التحذيرات ظهرت على شاشة السينما في أكثر من مناسبة، ففي الفيلم الشهير «أوديسا الفضاء»، الذي أخرجه ستانلي كوبريك، وهو مأخوذ عن كتاب للكاتب الأمريكي راي برادبري، تقوم الآلة التي تتحكم في سفينة الفضاء بقتل كل طاقم الرواد، حتى تستقل وحدها بقيادة السفينة، لكنّ أحد أفراد الطاقم ينجو من عمليات الاغتيال ويدخل في صراع مع الآلة حتى ينتصر عليها، وهذا هو المنطق، فمهما بلغت سطوة هذه الآلات، علينا ألا ننسى أننا نحن مَن صنعها، ولا يوجد إله إلا الله. 

الحرب العالمية... لعبة
لم تنتهِ شهادة السينما في التحذير من مخاطر الاعتماد الكلي على الآلة، فأي خطأ أو عطل يمكن أن يقود إلى كارثة، في فيلم «ألعاب الحرب» الذي أثار كثيرًا من الجَدل حول مدى قرب حدوث هذا الفيلم في الواقع، استطاع مراهق أمريكي، وهو يمارس اللعب على جهازه، أن يخترق نظام التشغيل في «البنتاجون» ويدخل بغير قصد إلى حاسوب، فائق الأهمية للجيش الأمريكي مبرمج للتنبؤ بالنتائج المحتملة للحرب النووية، لم يكن الأمر بالنسبة للمراهق أكثر من لعبة، يلعبها على أزرار ملونة، ولم يدرِ أنه عن طريق الخطأ يمكن أن يقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة ستكون مدمرة، لأنها تستخدم أقصى أسلحة الدمار. والذي أثار الجدل هو أن الفيلم يطرح احتمالية واردة الحدوث، فمَن يستطيع اختراق هذا النظام يمكن أن يوجهه كما يريد، حتى ولو كان طفلاً صغيرًا لا يدري ماذا يفعل.
علاقتنا بالتكنولوجيا معقدة وتتطلب مزيدًا من الاعتماد عليها، ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها. لكن جمعية أكسس ناو، الناشطة في مجال حماية البيانات الشخصية على المستوى الدولي تجد أن وسائل التواصل الاجتماعي التي تربط بين نحو نصف سكان العالم بالكامل، يمكنها أن تعزز أشكال التحيز وتزرع الفرقة، بإتاحة منبر لخطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة، عن طريق تضخيم أصداء هذه المعلومات. 
وبرأيها، يمكن لخوارزميات وسائل التواصل أن تعزز تجزئة المجتمعات على نطاق العالم، وهو أمر مخيف، علينا أن نعمل حتى لا ننزلق إليه ■