التنمية والثقافة

التنمية والثقافة

   للوهلة الأولى، قد تبدو العلاقة بين التنمية والثقافة غير منسجمة أو غير ذات صلة، ففي ذهنِ كثير من الناس التنمية تتصل بالبنى التحتية والتصنيع والعمران والاقتصاد بصفة عامة، بينما تتصل الثقافة بالكتاب والمسرح والموسيقى، مثل هذا المفهوم لا يسود سوى في مجتمعات جاهلة أو متخلّفة اجتماعيًّا وثقافيًّا.

 

لكي نبدأ بداية صحيحة لا بدّ أن نطرح أولًا مفهوم الثقافة الشامل، لكي نصل معًا إلى علاقة الثقافة بالتنمية، فالثقافة تعرّف بأنها مجمل النتاج المادي والروحي أو المعنوي لمجتمع معيّن في زمان معيّن، بما فيها أنماط السلوك والقيم العُليا والمنظومة الأخلاقية.
فالآداب والفنون هي مجرد التجليات الإبداعية في الثقافة، فكلما ارتفع الوعي الثقافي، الذي يتحقق عادة في ظل دولة مدنية، تطورت الفنون والآداب والمسرح، حتى الرياضة والنظم الإدارية، كل هذه وتلك تُسهم في تطوّر وارتفاع الذائقة الأدبية والفنية، وكلما ساد مناخ ثقافي رفيع تطوّرت هذه التجليات الإبداعية في الثقافة، وتطورت أيضًا رؤى التنمية واستراتيجياتها.
ولهذه الحالة متطلبات أساسية لكي تتحقق، إذ لا بدّ من الاهتمام بوجود تعليم متطور، يواكب أحدث النظم التي وصل إليها العالم في هذا المجال، ويجب أن تلغى كلّ الأشكال الاجتماعية والممارسات التي كانت فيما ما قبل الدولة بالقانون والوعي الجمعي، فتنصهر مكونات المجتمع في نظام الدولة الوطنية أو المركزية، أي تكون الدولة المركزية هي مرجع جميع أبناء المجتمع، الذين يصبحون في كنف الدولة المدنية مواطنين، يتبعون سلطتها وقوانينها، لا القوانين الفرعية مثل القبيلة والطائفة، أمّا إذا عادت مكونات المجتمع إلى نظام ما قبل الدولة المدنية، فسوف يسود المجتمعات صراعات واحتراب طائفي وعشائري، والأمثلة في بعض الدول العربية ماثلة، كما رأيناه يحدث في العراق ولبنان وليبيا واليمن.

البنية الفوقية
إذن المتطلب الآخر والمُلحّ هو أن تتجه الدول لبناء وتقوية الدولة المدنية، أي فرض القانون على الجميع وتطبيقه بحزم، والقضاء على المرجعيات الأخرى، بما فيها مرجعيات أصحاب النفوذ، التي تسهم إسهامًا كبيرًا في نشر الفساد وثقافته لمصالحها الخاصة والضيقة.
أما عن البنية الفوقية المتعلقة بالحريات العامة والخاصة، وبناء نظام ديمقراطي، فلا معنى لها في ظل التخلف الاجتماعي والثقافي وضَعف القوانين المنظمة، أو حتى عدم عدالتها أو مواءمتها للدولة المدنية، فالديمقراطية تزدهر في ظل ثقافة مجتمعية متحضرة وراقية، التي من خلالها يتم احترام الآخر المختلف دينيًّا وعرقيًّا وإثنيًّا، ويكون الحوار بين أفراد المجتمع حضاريًّا.
ولا يمكن إرساء مقومات دولة مدنية، في ظل تفكير وسلوك ماضوي، أو تفكير فيه غلوّ وتشدُّد، بل يكون هدف الدول وغايتها الانفتاح على العالَم، وليس الانغلاق والتذرّع بالعادات والتقاليد، ففي كل مجتمع عدة ثقافات، واختلاف في عادات وتقاليد كل مكون اجتماعي، كما أن العادات والتقاليد تتغير وتتطور عبر الزمن ومع تطور البشرية.

الثقافة في الكويت
هنا نسأل أنفسنا: هل تراجعت الثقافة في الكويت؟ برأينا الثقافة لم تتراجع لسبب يكمُن فيها، وهو أن الثقافة تراكمية وهي تتطور كل يوم، لكن ما يحدث من تغيّر هو في الثقافة السائدة، وهي التي نراها في الشارع والإعلام والمدرسة، وهذا ينعكس على الفنون والآداب والسلوك والرياضة، بينما الثقافة المتقدّمة والراقية بما فيها أنماط السلوك، ما زالت موجودة، لكنها متوارية، وكانت في فترة ما هي السائدة، ولن تعود هذه الثقافة وتنهض إلّا بإعادة مشروع الدولة المدنية، وهذا يتحقق بالإرادة السياسية والجرأة في التنفيذ، وبالاستعانة برجال الكويت ذوي الخبرة والإخلاص.
نخلص من ذلك إلى أن التنمية والثقافة مرتبطان عضويًّا، والمستوى الثقافي هو ما يحدد نوعية التنمية، أو وجودها أو عدمها، كما أنّ الاثنين يذهبان بنا نحو الحداثة، وهي ميزة الدولة المتقدمة والمنفتحة على الاستنارة ■