نصف قرن على ميلاد نظرية في العدالة: المنطلقات والآفاق

نصف قرن على ميلاد نظرية في العدالة: المنطلقات والآفاق

مع انتهاء سنة 2021، يكون قد مرَّ نصف قرن على نظرية العدالة التي قدَّمها الفيلسوف الأمريكي جون رولز  في عام 1971، في كتابه: «نظرية في العدالة». ومنذ ظهورها وهي تتصدَّر المناقشات الفكرية والنظرية في المجالين العلمي و الفلسفي، وفي السجالات السياسية و الإيديولوجية بالمجال العام، و يتجدَّد حضورها النظري و العملي سواء بفعل الوقائع و الأحداث و التحوُّلات التي تعرفها مجتمعاتنا العاصرة، و بخاصة تلك المرتبطة بمسائل العدل و الإنصاف ورفع أشكال الظلم المختلفة التي تصيب الإنسان المعاصر، مثلما هو الحال المتعلِّق بالوضع الصحي الذي تعرفه البشرية منذ ما يزيد الآن على سنتين، و المتمثِّل في جائحة كورونا (كوفيد19)، و ما نجم عنها من تفاوتات ومظالم أصابت فئات اجتماعية كثيرة، وبخاصة تلك الفئات الهشة التي تعاني أمراضًا مزمنة، أو إعاقات مختلفة، أو إقصاء اجتماعيًا و سياسيًا، أو بفعل الإسهامات النظرية والفلسفية لمسألة العدل، والناجمة عن عمليَّات الإثراء والإضافة والنقد والاعتراض والتجاوز التي يقدِّمها أنصار وخصوم  هذه النظرية على حدٍّ  سواء.

 

الواقع، سواء تعلَّق الأمر بأنصار النظرية أو معارضيها، فإنَّ الجميع يتَّفق على قيمتها وأهمِّيتها ودورها في تجديد مسائل الفلسفة السياسية و الأخلاقية والاجتماعية المعاصرة، و أنَّها شكَّلت منعطفًا حاسمًا في نظريَّات العدالة التي عرفها تاريخ الفكر البشري عموما، وفي  العدالة الاجتماعية والسياسية على وجه التحديد. يدل على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ترجمتها إلى27 لغة في العالم، و إلى ما يزيد على (695000) إحالة إليها من قبل الباحثين والدارسين، فضلاً عن المؤتمرات والندوات التي نُظِّمت حولها من قبل المؤسسات الأكاديمية، أو الملفات التي أعدَّتها المجلات العلمية والثقافية، وهو ما يؤكِّد ليس فقط جدارة الأفكار التي قدَّمها هذا الفيلسوف المجدِّد، وإنَّما تأثيرها ونفوذها الفكري.

نظرية رولز في العدالة
على الرغم من أنَّ الفيلسوف جون رولز لم يتوقَّف عن تعديل نظريته منذ أن نشر بداياتها الأولى في بعض مقالاته ومحاضراته، فإنَّه حافظ على معالمها الأساسية التي عرضها بشكل منهجي في عام 1971 بعنوان: نظرية في العدالة.  وتتكوَّن هذه النظرية من قسمين كبيرين: نظري و عملي؛ اشتمل القسم الأول الموسوم بــ «النظرية» على ثلاثة فصول، قدَّم فيها مفهومه للعدالة بوصفها إنصافًا، والمبادئ التي تقوم عليها، وما سمَّاه بالوضع الأصلي. أما القسم الثاني وعنوانه: «المؤسسات»، فيتكوَّن من ستة فصول، حلَّل فيها مسائل الحريات، الحصص التوزيعية، الواجب والالتزام، الخير من منظور عقلي، والمجتمع المنظم تنظيمًا جيِّدًا، وقيمة العدالة. 
يرى رولز أن العدالة تمثِّل الفضيلة الأولى للمؤسَّسات، مثلما تمثِّل الحقيقة الفضيلة الأولى للمعرفة. وتشكِّل الحرية والمساواة الركيزة الأولى في بناء نظرية العدالة. وتتقدَّم الحرية على المساواة في نظره، لأنَّ حرية الاختيار أكثر أهمية من الشيء الذي نختاره. من هنا يجب وضع قوانين تحمي أكبر قدر ممكن من الحرية، وأنَّه يجب عدم التضحية بالحرية مقابل منافع اقتصادية أو اجتماعية، وأنَّه إذا لزم الأمر التضحية بالحرية فإنَّ ذلك لا يكون إلّا من أجل الحرية. و هو ما يعني أن أحد أركان نظريّته يتمثَّل في الليبرالية التي تعطي الأولوية لحرية الفرد قبل كل شيء.
 لكن الذي يميِّز هذه النظرية عن غيرها من النظريَّات الليبرالية التي جاءت بعدها، وبخاصة تلك التي نقدتها كما سأشير إلى ذلك، هو أنَّها لم تتوقَّف عند هذا المستوى الأولي لمفهوم الحرية، أو بتعبير دقيق لم تكتفِ بالحريَّات الأساسية، و ذلك بحكم أن مآل  الحرية هو التفاوت أو  اللامساواة. و إذا كانت الليبرالية ترى أن ذلك يعدُّ جزءًا من طبيعة الأمور، بحكم أنَّ الناس غير متساوين في إمكاناتهم وجهودهم المبذولة في سوق تنافسية، وأنَّ على الدولة ألا تتدخَّل لوضع حدٍّ لأشكال التفاوت، فإنَّ رولز يرى أنَّ الحرية الفردية يجب ألا تستبعد المسؤولية الاجتماعية المتمثِّلة في العدالة. ومن هنا يعدُّ أول فيلسوف قدَّم نظرية في العدالة الليبرالية عمومًا، والليبرالية الأمريكية على وجه التحديد. 
وتعدُّ نظريته في العدالة بوصفها إنصافًا بمنزلة البرهان المفصَّل على فكرة ضرورة المساواة بالحريات والفرص الأساسية، والإقرار بما سمَّاه بمبدأ الفرق الذي يشكِّل المبدأ الثاني في نظريته مقارنة بمبدأ الحريات الأساسية والمتساوية. ويعني مبدأ الفرق أنَّ الحرية تؤدِّي بالضرورة إلى اللامساواة في النتائج، لأنَّ هنالك تفاوتًا في الفرص التي تظهر في أشكال الصعود و النزول بالمراتب الاجتماعية و الاقتصادية، لذا يجب العمل على أن تخدم التفاوتات العدد الأكبر؛ و هو ما يعني أن رولز يعمل على الحدِّ منها  باسم الإنصاف، الذي تحوَّل إلى مقولة مركزية في نظريَّته للعدالة. 

نظرية العقد الاجتماعي
وإذا كان هذان المبدآن: مبدأ الحريَّات و مبدأ الفرق، يشكِّلان المستوى النظري في نظرية العدالة، فإن ثمَّة عناصر أساسية تشكِّل الجانب العملي، يأتي في مقدِّمتها المجتمع المنظم تنظيمًا جيِّدًا، والذي يحتكم إلى قوانين متَّفق عليها، وهو ما يعني الاستناد إلى نظرية العقد الاجتماعي التي أسَّسها فلاسفة معروفون في العصر الحديث على رأسهم جون لوك، وجان جاك روسو، وكانط و غيرهم من الفلاسفة الذين تصوَّروا مجتمعًا ينتقل من المرحلة الطبيعية إلى المرحلة المدنية أو السياسية من خلال إبرام عقد اجتماعي يوافق عليه المواطنون الأحرار، ويجد تعبيره في ما سمّاه رولز بـ «حجاب الجهل» الذي يسمح للمواطنين بتصوُّر مجتمع عادل. 
إن هذه المبادي والتحليلات التي عرضها بالتفصيل في كتاب: نظرية في العدالة، أعاد صيَّاغتها، ونشرها عام 2001 في كتاب عنوانه: «العدالة بوصفها إنصافًا، إعادة صياغة»، وذلك قبل سنة من وفاته، فقد ولد عام 1927 وتوفي عام 2002، لكن من دون تغيير جوهري في المبادئ التي قدَّمها. يقول: «لنتحوَّل بغية الإجابة عن سؤالنا، إلى الصيغة المنقَّحة لمبدأي العدالة اللذين نوقشا في كتاب(نظرية)، فيجب قراءتها الآن كما يلي: (أ) لكل شخص الحق ذاته في الحريَّات الأساسية المتساوية. (ب) يجب أن تحقِّق ظواهر اللامساواة الاجتماعية و الاقتصادية شرطين: أولهما يفيد بأن اللامساواة يجب أن تتعلَّق بالوظائف و المراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص، وثانيهما يقتضي أن تكون ظواهر اللامساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم الأقل مركَزًا ».(148). 
لم تمر ثلاث سنوات على صدور نظرية العدالة لرولز حتى نقضها الفيلسوف الأمريكي روبرت نوزيك ونقدها باسم مبدأ الحرية، والحق في الملكية المطلقة، و ذلك في كتابه: الفوضى، الدولة و اليوتوبيا(1974)، دعا فيه إلى دولة الحدِّ الأدنى التي لا تتدخَّل في مسائل الملكية، ولا تهتم بمسائل توزيع الثروات أو الحدِّ من التفاوت، وكانت وراء ظهور تيَّار جديد في الليبرالية لا يقيم وزنًا للعدالة الاجتماعية و يسمى بالتيار الليبرتاري. 
لم يقتصر الرفض و النقد على هذه الليبرالية الزائدة التي ترفض العدالة باسم قيم الحرية و الفرد و الملكية المطلقة، وإنَّما  تعدَّاه إلى تيَّار آخر داخل الليبرالية يُعلي من قيم الجماعة، ويعرف بالتيار الجمعاتي، ويمثِّله فلاسفة بارزون منهم الفيلسوف الإنجليزي السدير ماكنتاير في كتابه: لمن العدالة، وأي عقلانية؟ (1988)، والفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في كتابه: التعددية الثقافية: الاختلاف والديمقراطية (1992)، وقبلهما الفيلسوفان الأمريكيان: مايكل ولزار، في كتابه: فضاءات العدالة (1983)، ومايكل ساندل، الذي اختص في موضوع العدالة، وذلك منذ أن نشر كتابه الأول: الليبرالية وحدود العدالة (1982). 
لم يتوقَّف النقد وتأثير نظرية العدالة بوصفها إنصافًا، على العالم الأنجلوسكسوني، بل شمل الفكر العالمي، و الأوربي تحديدًا، يشهد على ذلك الحوار الذي جرى بين الفيلسوف جون رولز نفسه والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عام 1995، والذي صدر بعنوان: نقاش حول العدالة السياسية (1996). كما ظهر هذا النقاش الفلسفي في فرنسا عند الفيلسوفين: بول ريكور  في كتابه: العادل (1997)، و عند إيمانويل رينو في كتابه: ما السياسة العادلة؟ (2004). 

الاعتراف ومفهوم العدالة
والحق أنَّه إذا كانت هذه المناقشات قد أثرت نظرية العدالة بوصفها إنصافًا، و بيَّنت في الوقت نفسه حدودها، فإنَّني أستطيع القول إن أهم تطوُّر في مفهوم العدالة تمثَّل في ما قدَّمته الفلسفة الاجتماعية المعاصرة باسم الاعتراف الذي لم يعد يركِّز فقط على العدل بما هو توزيع للخيرات والمناصب، بل يهتم بالجوانب الرمزية المتعلقة بهوية وكرامة الإنسان. وبرز فيه فلاسفة من مختلف بلدان العالم، منهم على وجه التحديد الفيلسوف الألماني اكسيل هونيث في كتابه: الحق في الحرية (2011)، والفيلسوفة الأمريكية نانسي فريز في كتابها: ما العدالة الاجتماعية؟ (2005)، و الفيلسوف الفرنسي، إيمانويل رونو: تجربة الظلم (2004). وكذلك الفيلسوف العالمي أمارتيا صن في كتابه: فكرة العدالة (2009)، الذي أهدى كتابه إلى جون رولز، لكن ذلك لم يمنعه من بيان حدود نظريته في العدل بوصفها إنصافًا، وتقديم بديل نظري ينطلق من واقع تجارب الظلم التي يعرفها العالم، والطرق الكفيلة للحدّ منه، والتركيز على السلوك والتصرفات، أو  ما اصطلح عليه واشتهر به، ألا و هو منظور القدرة أو القدرات، والتنمية البشرية، والتنمية و الحرية، وعدم الاكتفاء بالمؤسَّسات العادلة. يقول: «بخلاف نظريَّات العدالة الأكثر حداثة، التي تركِّز على المجتمع العادل، يحاول هذا الكتاب دراسة المقارنات القائمة على الواقع التي تركِّز على تقدُّم أو تقهقر العدالة (...)،و يهتم بالسؤال: كيف يمكن إعلاء العدالة؟ بدلًا من سؤال: كيف تكون المؤسَّسات العادلة تامَّة؟». (صفحة 44-45). 
وإذا كان المجال لا يتَّسع للوقوف عند هذه الاتجاهات على أهميَّتها، فإنَّه يجب الإشارة إلى علاقة الفكر العربي المعاصر بهذه النظرية. ولعل ما يستوقف الباحث والمهتم بهذه النظرية هو هذا المعطى الثقافي الأولي، ألا وهو تأخر اهتمام الفكر العربي المعاصر بهذه النظرية رغم طابعه السياسي والإيديولوجي الغالب عليه منذ بزوغ النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.  ومن مظاهر هذا التأخر أن ترجمة كتاب: نظرية في العدالة، الذي نشر عام 1971، لم تتم إلا عام 2011، أي بعد مرور أربعين سنة من صدور الطبعة الأولى للنظرية، وأن أغلب المفكرين العرب المعاصرين، سواء أولئك الذين عرفوا بمشاريعهم الفكرية الشاملة، أو أولئك الذين اهتموا بالفكر السياسي والأخلاقي تحديدًا، لم يهتموا بهذه النظرية رغم أنَّها تشكِّل المدخل الأول للإصلاح السياسي والاجتماعي، و قبل هذا وذلك المدخل للإصلاح الفلسفي الذي يسمح بانتقال الفكر الفلسفي العربي المعاصر من حالة الطرح السيَّاسي و الأيديولوجي المباشر إلى الطرح الفلسفي النظري الذي يهدف إلى الكشف عن الحقيقة بالحجة و البرهان.
 لكن ثمة استثناء لا يمكن تجاهله أو تخطِّيه، ألا وهو أنَّه منذ نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة و تحديدا منذ عام 2010 وما أعقبه من أحداث سياسية واجتماعية شرع الفكر العربي في دراسة ومناقشة هذه النظرية، وذلك بتقديم جملة من الأبحاث و الدراسات و الأطروحات التي تتناول  جوانب من هذه النظرية، ولعل أهم دراسة نُشرت في هذا الصدد هي دراسة المفكِّر العربي عادل ضاهر: نقد الفكر السيَّاسي في الغرب (2018)، الذي تبنَّى بعض أطروحات رولز، وقارنها بغيرها من نظريَّات العدل، وبخاصة نظريات العقد الاجتماعي، ونظرية المنفعة، والنظرية الماركسية، وخلُص إلى موقفٍ يجمع بين الليبرالية بما هي محاولة للحدِّ من سُلطة الدولة، وضرورة توسيع مجال المساواة بين المواطنين، وليؤكِّد أنَّ النزاع بين الحرية والمساواة يعود إلى فهم معين لليبرالية، مستعينًا في ذلك بما ذهب إليه أمارتيا صن، أي ضرورة تعزيز الحرية الإيجابية التي تقضي بأن يكون الشخص الحر هو الذي يمتلك القدرات الضرورية لتحقيق غاياته المفضَّلة بالطرق المناسبة بعيدًا عن تدخل الآخرين. 
والحق أنَّه إذا كانت هذه الدراسة تكشف عن أهمية نظرية رولز في العدالة بالنسبة لفكرنا العربي المعاصر، مادامت قد اكتفت بعرض ملامحها العامة، فإنَّ ما يجب أن يكون منَّا على بال هو أنَّ العدالة بوصفها إنصافا تعدُّ أولاً و قبل كل شيء تعبيرًا عن مثال سياسي وأخلاقي لا يمكن تحقيقه ما لم ندرس طبيعة مجتمعاتنا وخصوصيَّتها التاريخية والثقافية وعملية ارتباطها بالقيم الكونية والإنسانية، وعلى رأسها قيمة الحرية والعدالة، وذلك من منظور يتجاوز الطرح الكلاسيكي للفلسفة السياسية المعنية بما يجب أن يكون، إلى طرح فلسفي جديد يعنى بما هو كائن و ما يجب أن يكون، مستفيدًا في ذلك من البحوث و النتائج التي تجريها العلوم الإنسانية و الاجتماعية المعنية بدراسة تجارب الظلم، و كاشفًا عن القواعد العامة التي تشكِّل الأساس الفلسفي لقيام فلسفة اجتماعية عربية معاصرة يكون موضوعها المركزي هو العدل بوصفه اعترافًا ■