الورق.. بوابة الحضارة الحديثة.. د. أحمد أبوزيد

الورق.. بوابة الحضارة الحديثة.. د. أحمد أبوزيد
        

          يرى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا التطوريون أن التقدم التكنولوجي هو العامل الأساسي في تطور الحضارة الإنسانية منذ البدايات الأولى للجنس البشري حتى الآن. وقد اختلف هؤلاء العلماء حول عدد المراحل التي مر بها ذلك التطور ونوع التكنولوجيا السائدة في كل مرحلة ومجال استخداماتها، ولكنهم اتفقوا جميعا على أن اكتشاف الصينيين للورق في القرن الثاني قبل الميلاد ثم استخدامه في الكتابة والطباعة علامة فارقة بين الحضارة الحالية وكل المراحل الحضارية السابقة التي كانت تعرف الكتابة بالحفر على الحجر أو النقش على ألواح الطمي المجفف أو المحروق أو على أصداف بعض أنواع السلاحف وحتى الكتابة على أوراق البردى وما شابه ذلك. فاكتشاف الورق كان مقدمة لكل التقدم الذي حدث بعد ذلك في تكنولوجيا الاتصال وتبادل المعلومات أي انتشار المعرفة بما في ذلك استخدام البرق والفاكس والكمبيوتر والإنترنت، وان ما يطلق عليه الآن اسم الثورة الرقمية ليس سوى أحد توابع اكتشاف الورق واستخدامه في الكتابة.

          تغلغل استخدام الورق في الحياة اليومية في المجتمع المعاصر وأصبح أمرا مسلما به قلما يحظى بالاهتمام أو الالتفات إلى المجالات الجديدة العديدة التي تتجاوز التعبئة والتغليف أو الكتابة والطباعة والنشر، واقتضت اختراع أنواع جديدة من الورق لها استخدامات لم تكن موجودة من قبل مثل المناديل والمناشف والمفارش الورقية أو الأكواب وصحاف الطعام أو الورق المقاوم للبلل والنار أو الأنواع المستخدمة في صنع الملابس الداخلية التي تحفظ الجسم من البرد القارس أو من الحرارة الزائدة. وقد أمكن صناعة أنواع من الورق تحتوي على مكونات زراعية أو حيوانية أعطتها كثيرا من القوة والصلابة والقدرة على تحمل مشاق الاستخدام الثقيل مثل حقائب السفر الكبيرة بل ونعال الأحذية وإطارات السيارات وأنابيب المياه وبعض قطع الأثاث كالمقاعد، كما أمكن صناعة الخيوط الرفيعة التي تستخدم في الحياكة بل وصناعة زجاج النوافذ الشفاف الذي لايحجب الرؤية أو الضوء وغير ذلك كثير جدا. وإذا كانت هناك مقولة قديمة نسبيا تنص على أنه «ليس هناك شيء لا يمكن صنعه من الجلود» فإن هذه المقولة تصدق تماما على الورق. ووصل الأمر الآن إلى بذل الجهود لاستخدام الورق بعد معالجته بطرق خاصة في صناعة الأدوات الصلبة والحادة والتي تتحمل العمل الشاق مثل الفئوس وما إليها.

          ولذا فقد يمكن تسمية المرحلة التي يمر بها المجتمع الإنساني الآن بالمرحلة الورقية التي تمهد لقيام مرحلة جديدة بدأت بوادرها في الظهور بقوة، وهي المرحلة الرقمية التي لن تقضي على أية حال على استخدام الورق. فلا يزال الورق والكتابة هما الأداتين الرئيستين في تلك العملية التي تعتبر أساس وجوهر الحياة والعلاقات الإنسانية والتي تعطي المجتمع طابعه الإنساني المتميز عن مجتمعات الكائنات الحية الأخرى. ويبدو أن ذلك الاستخدام سوف يظل قائما في المستقبل على الرغم من كل ما يقال حول اختفاء الورق من مجتمع الغد. فالمعروف أن تتابع المراحل الحضارية لايعني قضاء المرحلة اللاحقة على المراحل السابقة تماما، إنما تتعايش المراحل بشكل أو بآخر مع غلبة طابع معين على غيره بحيث تكتسب الحضارة اسم ذلك الطابع نتيجة هيمنة وسيطرة ملامحه وعناصره على مختلف نواحي الحياة.

وجه آخر

          ولكن للمسأله وجها آخر. فقد ترتب على اتساع نطاق صناعة الورق واستخدامه وزيادة استهلاكه الشعور بكثير من القلق في أوساط الصناعة حول إمكان استنزاف الموارد الطبيعية التي تمد الصناعة بالمادة الخام التي تقوم عليها هذه الصناعة وأعني بذلك الغابات. فحوالي خمسة وتسعين بالمائة من مكونات الورق العادي مستمدة من ألياف الأخشاب والباقي من عناصر أخرى بما فيها مخلفات الأقمشة القطنية والكتانية وما إليها. وكان لهذا الشعور بالقلق أثره الواضح في الاهتمام من ناحية باستزراع مساحات هائلة جديدة بالغابات لتعويض الفاقد، ومن ناحية أخرى باستخدام مصادر غير خشبية مثل البامبو وقش بعض أنواع النباتات مثل الأرز والقمح بل وقصب السكر وأشجار الموز بل وثماره في بعض الأحيان وعلى نطاق ضيق، لكن هذه الاستخدامات لا تكاد تغطي أكثر من عشرة بالمائة من احتياجات الصناعة.

          والواقع أن صناعة الورق تواجه الآن كثيرا من الصعوبات وتخضع لكثير من التغيرات التي تتمثل في المحل الأول في تراجع الطلب بشكل محسوس سواء في أمريكا أو الاتحاد الأوربي على أنواع معينة من الورق وخاصة الورق المستخدم في الصحف.واشتداد التنافس على سوق متراجعة نتيجة انصراف بعض الأنشطة التقليدية عن الاعتماد على الورق بالنسبة نفسها التي كانت لديها لعقود طويلة، ودخول بعض الدول الآسيوية في مجال التصنيع والمزاحمة في الأسواق. وقد أدى هذا الموقف المتأزم من صناعة الورق إلى حدوث اختلالات اقتصادية وثقافية في كثير من دول العالم، ولم تنج من هذه الاختلالات الدول الغربية التي تعتبر أكبر منتج وأكبر مستهلك للورق في الوقت نفسه، وهذا التراجع في الاستهلاك يؤدي بغير شك إلى التوقف عن إنتاج ملايين الأطنان من الورق في مجال الطباعة والصحافة وحده والاستغناء عن أعداد كبيرة من الأيدي العاملة والمتخصصة في ذلك المجال.

          والطريف في الأمر هنا وهو ما يكشف في الوقت نفسه عن قدر كبير من المفارقة أن الكثيرين يرون لأزمة الورق جوانب إيجابية لايستهان بها. فالورق في نظر هذا الفريق عنصر مناوئ للبيئة النظيفة وعامل من عوامل تلوثها لأنه يشكل نسبة كبيرة جدا من القمامة في كل الدول بغير استثناء ويزيد من خطورتها في المجتمعات الأكثر تقدما والأكثر استخداما للورق في الوقت نفسه. فإذا كان استخدام الورق يعتبر مؤشرا ودليلا على التقدم الاقتصادي ورمزا للتفوق العلمي والتكنولوجي والثقافي فإنه في الوقت ذاته مصدر هائل لتلوث البيئة من ناحية، والاعتداء عليها عن طريق قطع الغابات التي تعتمد عليها صناعته من الناحية الأخرى. ولكن هذا هو حال التقدم الحضاري الذي يتحقق من خلال الاعتداء على المراحل الحضارية السابقة وإن لم يقض عليها تماما. فالصناعة قامت على حساب الزراعة في تاريخ التطور البشري والحضاري وفي الحالة الراهنة تقوم «صناعة» الورق على أنقاض الثروة الزراعية الطبيعية المتمثلة في الغابات. وفي أمريكا التي تستهلك حوالي خمسة وثمانين مليون طن من الورق في السنة يستغني الناس عن حوالي أربعة أطنان تلقى كقمامة، وهي كمية تكفي حسب بعض التقديرات لإقامة جدار من الورق المستهلك ارتفاعه أربعة أمتار ويمتد من نيويورك حتى كاليفورنيا.

تراجع حضارة الورق

          كذلك تعاني صناعة الورق ازدياد الإقبال على الكمبيوتر والإنترنت في التواصل عن طريق البريد الإلكتروني الذي يوفر الوقت واستهلاك الورق في الكتابة وتبادل الرسائل ويكفي أن ينظر المرء إلى عدد الرسائل التي يتسلمها أو يرسلها يوميا عن طريق البريد الإلكتروني من وإلى جميع أنحاء العالم ويقارنها بتلك التي يتعامل معها بالبريد العادي ليدرك مدى التراجع والخطورة التي تتعرض لها الآن حضارة الورق والتي سوف تزداد لو استمر الحال على هذا المنوال. وأغلب الظن أنه سوف يستمر ويستفحل. فقد ازداد الاتجاه في كثير من الإدارات الحكومية والشركات في الخارج إلى تقليص الاعتماد على الورق بل والتخلص منه كلية إذا أمكن وذلك تحت شعار Paperless Office والاعتماد بدلا من الورق على الإمكانات الإلكترونية للاحتفاظ بالمعلومات والبيانات والوثائق بطريقة آمنة و«نظيفة» على أقراص مدمجة أو غير ذلك من الأساليب الإلكترونية الحديثة بدلا من الوثائق المكتوبة والمعرضة للفقد أو التدمير ونشوب الحرائق مع توفير مساحات في تلك الإدارات كانت تشغلها الملفات الورقية.

          وهذا الاتجاه نفسه يتنامى الآن في مجال نشر الكتب والمجلات العلمية بعد أن سيطر تماما على الصحافة التي تنشر نسخة إلكتروتية من أعدادها اليومية. وقد اتجه العديد من الكتاب والمؤلفين إلى نشر أعمالهم على الإنترنت بأنفسهم دون الحاجة إلى الالتجاء إلى ناشرين يتحكمون في عملية الطباعة والنشر والتوزيع على حساب أصحاب العمل علاوة على أن النشر الخاص فيه توفير للوقت ولا يتكلف كثيرا مع ضمان فرصة الانتشار الأوسع والوصول إلى قطاعات عريضة من القراء يصعب تحقيقها عن طريق النشر الورقي المعتاد. ويتزامن مع هذا النشاط في النشر من دون ورق ازدياد الميل إلى ما يمكن تسميته بالنشر الصوتي من خلال الكتاب المسموع الذي قد يسجله المؤلف بصوته، وبذلك يبدو نابضا بالحياة بشكل يعجز العمل الورقي عن تجسيده وذلك فضلا عن إمكان «قراءة» هذه الأعمال المسموعة أثناء الانشغال بأنشطة أخرى أو حتى أثناء الظلام.

          ومن الطريف ما يذهب إليه بعض المهتمين بنشر الكتاب المسموع في مجال أدب الطفل من أن سماع الطفل لهذه الأعمال وهو يتأهب للنوم يساعده على النوم العميق لأن الذين يتولون القراءة هم في العادة أشخاص متمرسون في التعامل مع الصغار من خلال القراءة بأسلوب علمي تربوي لايتوافر عادة للأم التي تقرأ لأطفالها قبيل النوم.

المعرفة بدون ورق

          وهذه كلها وسائل لنشر المعرفة من دون ورق، ولكن لها بغير شك آثارًا سلبية على الصناعة وإن كانت تحافظ بطريق غير مباشر على البيئة والغطاء الأخضر لكوكب الأرض. بيد أن هذا لايعنى اختفاء الحاجة إلى الورق واستعماله وتراجع دوره في الحضارة الحديثة خلال هذا القرن كما يتنبأ البعض. فقد لجأ رجال الصناعة لضمان استمرار نشاطهم وفي الوقت ذاته المحافظة على البيئة إلى إعادة تصنيع الورق المستخدم أو تدويره للاستهلاك مرة أخرى في صنع كثير من المنتجات المستخدمة في الحياة اليومية بعد معالجته بحيث يصلح للاستخدام الآمن من جديد. وقد بلغت نسبة استخدام هذا النوع من الورق في الولايات المتحدة عام 2009 حوالى63% من الحجم الكلى للورق المستخدم. وهناك دراسات ميدانية حول تدوير الورق وتقدير العائد الاقتصادي والمردود الاجتماعي والثقافي لهذه العملية إلى جانب إسهامها في المحافظة على البيئة. ويقوم بهذه البحوث بوجه أخص المعهد الدولي للبيئة والتنمية في بريطانيا بتمويل من بعض الشركات الصناعية ويتولى إجراءها هيئات علمية وأكاديمية ودولية مع الاتحاد الأوربي.

          ولكن على الرغم من كل هذه المظاهر التي توحي بتراجع الاعتماد على الورق وبالتالي تدهور حضارة الورق (لو قبلنا هذه التسمية) فلايزال إصدار ونشر الكتب في ارتفاع مطرد، ولايزال الكتاب المطبوع على الورق هو الأداة الفعالة الأساسية في التعليم، ولا يزال الورق يحل محل الكثير من الأشياء في مجال الاستخدام اليومي.. وعلى العكس من كل ما يقال أيضا عن قرب اختفاء استخدام الورق مع تقدم التطور الرقمي فقد تراجعت فكرة الإدارات بغير ورق، وأصبح يشار إليها على أنها أسطورة The Myth of the Paperless Office إذ لاتزال الوثائق الورقية إجراء معمولا به في كل هذه الإدارات والمكاتب والمصالح والشركات رغم التسجيل الإلكتروني المتقدم. كما لاتزال بعض أساليب الاتصال الحديثة مثل الفاكس والتجارة الإلكترونية تزيد من استعمال الورق. وقد ظهر تعبير «النهضة الورقية  Paper Renaissance» لوصف المرحلة الحضارية الحالية والتي ساعد على قيامها حتى الآن رغم انتشار الإنترنت سهولة نقل البيانات من الشاشة باستخدام الطابعات الخاصة الرخيصة الثمن والتي تعتمد في كفاءتها على الليزر. وليس أدل على صدق ذلك من أنه في التسعينيات من القرن الماضي كان يتم طباعة حوالي مائة وخمسة عشر مليون ورقة في المتوسط سنويا، فإذا بالرقم يقفز الآن إلى ما يزيد على ترليون ورقة في الولايات المتحدة وحدها، ولاتزال كل الإدارات الحكومية والمنشآت الخاصة تستخدم الورق على الرغم من الثورة الرقمية. واستخدام الورق مقياس للتقدم الحضاري. وتشير بعض التقديرات إلى أن استهلاك الورق في الولايات المتحدة يصل إلى حوالي ثلاثمائة كيلوجرام في السنة بالنسبة للفرد الواحد، ولكنها تنخفض إلى ثمانية عشر كيلوجراما للفرد في المجتمعات النامية بشكل عام، ثم تنخفض مرة أخرى إلى أربعة كيلوجرامات فقط في الهند لكي تتدهور إلى أقل من كيلوجرام واحد في إفريقيا.

          وهذا لا يعني أبدا أن صناعة الورق لا تواجه كثيرا من المخاطر أو أن أسلوب الحياة الذي يعتمد على الورق لاتهدده المتاعب والأخطار على الأقل على المستوى الثقافي الراقي. وهناك تيار عام قوي من الشك حول استمرار هذه الثقافة التي يراها الكثيرون مجرد مظهر بسيط من مظاهر ومطالب الحياة والصناعة الحديثة التي تقوم على استغلال الموارد الطبيعية باختلاف أشكالها وطبائعها في إنتاج أشياء جديدة تماما. وهذا هو جوهر الحضارة الصناعية التي تقوم على إعادة تشكيل المواد الخام المتوافرة في الطبيعة إلى منتجات جديدة تشبع الحاجات المتزايدة والمعقدة والمتنوعة للمجتمع الإنساني في مرحلة تطوره الحالية ويذهب أصحاب هذه النظرة المتشككة بل والمتشائمة إلى أنه بقدوم الأربعينيات من القرن الحالي سوف تختفي الصحافة الورقية التي تستهلك نسبة كبيرة جدا من إنتاج الورق، وهو مؤشر خطير على تراجع ثقافة الورق من خلال تراجع أو اختفاء بعض مجالات استخدامه الأساسية.

الورق الإلكتروني

          ولقد سبقت الإشارة إلى ظهور الكتاب المسموع، ولكن هناك على الجانب الآخر الالتجاء إلى النشر الإلكتروني والاهتمام بتطوير هذا الأسلوب من النشر عن طريق اختراع الورق الإلكتروني والحبر الإلكتروني والقضاء على بعض العيوب التي يعانيها الآن هذا النوع الجديد من الورق الإلكتروني بحيث يبدو في صورة لا تختلف عن الورق العادي، مما يمثل ثورة تقترب في رأي الكثيرين من ثورة الطباعة واختراع المطبعة. فالورق يعتبر هبة من هبات الحضارة الإنسانية منذ اخترعه الصينيون، وهو في الوقت نفسه أداة ووسيلة للمحافظة على مكتسبات هذه الحضارة وضمان استمرارها في الوجود.

          ولقد بدأت الحضارة بالمعنى الدقيق للمفهوم باختراع الكتابة. وكان الإنسان خلال كل تاريخه يسجل اهتماماته على المواد المتوافرة في الطبيعة من أحجار أو جلود أو عظام بعض الحيوانات أو أصداف السلاحف وما إليها، ولكن اختراع الصينيين للورق يمثل نقلة حضارية جبارة لانزال نعيش في رحابها حتى الآن، ويبدو أنها سوف تستمر في المستقبل رغم كل الاختراعات أو التجديدات التى تمثل في حقيقة الأمر مجرد إضافات للأصل الثابت الراسخ، أي أنها تنويعات أو (تقاسيم) على نغم أساسي لو صح التعبير.... لقد كان الورق أحد الأبواب العريضة الكبرى المؤدية إلى الحاضر والتي سوف تقود خطانا إلى المستقبل.

 

أحمد أبوزيد