«شفشاون» للتاريخ ظِلال زرقاء

«شفشاون» للتاريخ ظِلال زرقاء

إشراقتها كصباح عيد، في سمائها اللامعة تحوم عصافير الفرح.. صحيح لأنك قد تكتفي بها، لكن كن على يقينٍ بأنك لن تكتفي منها.. لن تدري كم ستكون شاسعة غابات الانبهار والجذل التي ستضرمها فيك شفشاون حين تقتحم بوابة ذاكرتها القديمة. وحين تقصدها كي ترتوي من لهفتك سرعان ما تكتشف أنك قد ازددتَ بذلك الرّواء ظمًأ. 

 

عليك اختراع لغة جديدة لوصف شفشاون، لغة نادرة ترسم ارتباك الحواسّ الذي سيصيبك، قد تقدّ أبجديتها من بريق الفراشات المضيئة التي تنبثق حولك حين تمرّ ببساتين التين والزيتون، أو من الطّوب العتيق الصّقيل الذي يغلّف أزقتها ويحكي لك، مع كلّ خطوة، حكايا الزمن الأندلسي الجميل.. فما سرّ هذه المدينة الحُلم؟ كيف ستشفى منها وهي بألف طعم وألف مذاق؟  
تقع مدينة شفشاون، أو «الشّاون» كما ينطقها المغاربة، في منطقة جبلية على سلسلة جبال الريف شمال المغرب. وقد شكّلت ملاذًا للموريسكيين الفارّين من محاكم التفتيش الإسبانية الرهيبة التي عرفتها الأندلس بعد سقوطها في يد الإسبان، لقد وفد الموريسكيون على شمال المغرب حاملين معهم عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم وصناعاتهم، وآلامهم وآمالهم وأحلامهم أيضاً.. وهذا ما دفع مولاي علي بن راشد، أحد أشراف الأدارسة ووالد السيدة الحرّة التي صارت حاكمة مدينة تطوان، إلى تأسيس مدينة شفشاون سنة 1471م، رغبةً منه في توفير بر أمان يأوي إليه مسلمو الأندلس الهاربون من براثن التطهير الديني والعرقي، ومن أجل تشييد قلعة حصينة تصدّ الزحف البرتغالي الذي كان يتربص بمدينة سبتة.. فكانت «القصبة» النواة الأولى المؤسّسة لهذه المدينة الفريدة التي لا تتكرّر. وسيلحظ الزائر لشفشاون شموخ هذه «القصبة»، فهي القلب الجميل النابض بالثقافة والفن. وكأن حديقتها الغنّاء المحيطة بها قد انبثقت من أحد الموشحات الأندلسية، أما الفضاء الذي يجاورها فيضمّ عدداً من الباعة الذين يعرضون تذكارات يدوية الصنع يقتنيها السياح ليبقوا على خيطٍ للحنين يلفّ أفئدتهم ويربط بينهم وبين هذه «الجوهرة الزرقاء».
حين تحطّ بقدمك على عتبة بوابة المدينة القديمة ستحسّ بنفسك قد سافرت عبر الزمن، تستنشق مع كلّ نفَسٍ ذكرى غرناطة وقرطبة وإشبيلية، تنتعش رئتاك بنسيم عليل ومنعش لا يشبه أي نسيم آخر خارج أسوار هذه المدينة الزرقاء، لدرجة أنك قد تفكر في الاحتفاظ به في قارورة على سبيل الذكرى.

الفن.. مهرجان أزرق
 وأول ما سيدهشك، بالتأكيد، هو الطلاء الأزرق الذي تصطبغ به جدران بيوت شفشاون ذات الطابع المعماري الأندلسي، ستسبح عيناك في بركة حالمة من الزرقة الوديعة خلال هذه الرحلة التي لن تنساها أبداً.. وأنت تتجوّل في أزقّتها التي ستمتصّك لتسافر بك عبر تاريخٍ ذي نكهة فريدة ستتعثر بصدفة جميلة.. إنها «حومة المدقّة» التي تعدّ محجاً للسياح الذين يأتون إليها كي يلتقطوا الصور التذكارية. يقع في هذه «الحومة» (أي الحارة) زقاقٌ أزرقُ بهيٌّ تزيّنه مزهريات مختلفة الألوان بها نباتات وزهور متوسّطية، وأبواب مزركشة مزينة بالبنادق والستائر الرقيقة الشفيفة، فكل قطعة من شفشاون تحفة فنية بحدّ ذاتها.. كما ستتناهى إلى أسماعك موسيقى بديعة تنبعث من جهاز راديو قديم من أحد المقاهي، قد تكون الطقطوقة الجبلية أو طرب الملحون المغربي، ولن ننسى الرائحة الشهية لأطباق السمك اللذيذة التي تنبعث من النوافذ.. ستثير دهشتك أيضاً اللوحات التشكيلية الرائعة التي تزخر بها جدران بعض البيوت، تلك الجدران التي اتخذها الفنّانون ملاذًا لهم للسفر في عوالم الإبداع المذهلة، كيف لا وشفشاون مدينة الفنون ومنبع الجمال؟!

الموروث.. روح أندلسية
لهذه المدينة اهتمام كبير بالسّقايات، ورثه أهل شفشاون من أجدادهم الأندلسيين، فتفننوا في بنائها وتزيينها بالفسيفساء البيضاء والزرقاء حتى صارت ملمحاً جمالياً من ملامح هذه المدينة الباذخة، كما ينمّ تشييد هذه السقايات عن وعي أهل شفشاون الكبير بقيمة الماء الشروب. 
الدكاكين والحوانيت هنا متنوعة أيضاً، تعرض عليك التوابل والأعشاب والسِّلال، إضافة إلى الملابس التقليدية «الجبلية»، مثل مناديل الرأس الملونة، و«الشاشية»، وهي قبعة مصنوعة من القش، ومزيّنة بخيوط وكرات من الصّوف الملوّن، و«الحايك»، وهو مئزر من القماش الأبيض تلتحف به المرأة الشفشاونية، و«الكُرزية»، وهو حزام من الصّوف تلفّ به المرأة خصرها، وتزيّنه خطوط ملوّنة تحدّد الانتماء القبلي للمرأة الجبلية. 
قد ينتابك إحساس بالجوع بعد تجوالك في أزقة شفشاون الملتوية التي قد تبدو لك كمتاهة ممتعة، ما عليك حينها إلا أن تقصد ساحة «وطاء الحمام» التي تقع بجانب «القصبة»، وتطلّ عليها المقاهي والمطاعم.. هناك ستتلذّذ بتذوق الأطباق الشمالية، فالمطبخ الشفشاوني مشهود له بالبراعة وقدرته على المزج بين المالح والحلو، كما عليك ألا تفوّت فرصة تجربة طعم المنتجات العضوية المحلية، كجبن الماعز وزيت الزيتون.  لا تضم ساحة «وطاء الحمام» المقاهي والمطاعم فقط، بل يوجد فيها أيضًا محلات لبيع التذكارات، ويقع بالقرب منها مسجد «طارق بن زياد» ذو الصومعة الثمانية، والذي لن يخفى على السائحِ الفَطِن الشبهُ الكبيرُ بينه وبين منارة إشبيلية الذهبية (توري ديل أورو) الموجود في إشبيلية، ما يمنح شفشاون بصمة أندلسية بامتياز.
تتنافس البيوت الشفشاونية على تزيين واجهاتها، كما تهتمّ الساكنة هنا بنظافة مدينتها اهتمامًا بالغًا، ويقوم أهل كلّ بيت بتجديد طلاء الجدران سنويًا. وينبغي لزائر شفشاون أن يتمتع بلياقة بدنية تسمح له بصعود الأدراج المبثوثة في الأزقة والنزول منها، ذلك أن مدينة شفشاون، كما ذكرنا آنفاً، قد شيّدت على مرتفع جبلي يعدّ لوحة متناغمة رسمتها الطبيعة، ولعلّ «راس الماء» أروع مشهد طبيعي سيسلب لبّك في هذه الجنة الزرقاء المختبئة بخجل في أحضان جبل «القلعة»..  توجد في «راس الماء» شلالات طبيعية أخّاذة تتدفق بماءٍ صافٍ وعذبٍ، تحيط بها أشجار سامقة داكنة الخضرة، كما يعدّ هذا الموقع نافذة للسائح على التاريخ من خلال المعدّات الحربية القديمة الموجودة هناك. ويؤمّن «راس الماء» لساكنة شفشاون ونواحيها الماء الصالح للشرب وريّ المحاصيل الزراعية، لكن قبل أن تصل إلى هناك عليك أولاً أن تجتاز جسرًا تصطفّ عليه نساء يبعن تذكارات يدوية الصنع، أو يعرضن ملابس تقليدية شفشاونية على السياح كي يلتقطوا الصور التذكارية وهم يرتدونها. وإذا كنت من محبّي الحيوانات فبإمكانك أيضاً أن تلتقط صورًا «سيلفي» مع النعامات والببغاوات الملوّنة.
ها قد انتهت جولتك في شفشاون الساحرة.. حين تغادرها وأنت تتّشح بآخر نسائم عطرها ستفكّر، حتمًا، في مخطّط قادم لتكرّر هذه التجربة الزرقاء الفريدة ■

 

تزخر الجدران بعرض بعض أنواع السجاد المغربي المنقوش بأجمل الألوان وكأنها لوحات تشكيلية رائعة تزين شوارع شفشاون

 

دكاكين وحوانيت متنوعة تعرض كل ما لذّ وطاب من الموروث المغاربي على مر الزمن

 

للمدينة اهتمام كبير بالسقايات ورثه اهل شفشاون من أجدادهم الأندلسيين