أحمد أبوزيد رائد البحث الميداني

أحمد أبوزيد  رائد البحث الميداني

على امتداد عقود ستة، أرسى أبوزيد قواعد الدرس الأنثروبولوجي على أسس صلبة من عمل ميداني متعمق، تميز بوضوح المردود العيني للفكرة في الواقع، وتواتر كخلاصة مقطرة لجهده الخلاق، سواء في دراساته التي شملت مناطق مختلفة في مصر والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أو عبر تواصل عمله الميداني مع مراكز  بحثية عديدة، أو في إشرافه على فرق بحثية تولى تدريب أعضائها، أو من خلال مجموعة التقنيات الجديدة التي كرسها.
ويعترف أبوزيد بأن بحوثه الميدانية فتحت أمامه آفاقا واسعة من المعرفة، ووضعته من الناحية العملية قبالة جماعات كتب عنهم بالاعتماد على المراجع والكتابات المتاحة، فعرف عنهم ما لم تتعرض له هذه الكتابات.

النظري والميداني
وفي أدبيات البحث الأنثروبولوجي، يثار الالتباس أحيانًا حول طبيعة العلاقة بين التأمل النظري والمعايشة الميدانية، خاصة مع اعتبار كل منهما مكونًا بحثيا مستقلا عن الآخر، فيما أكد أبوزيد على تداخلهما وتلاحمهما، انطلاقًا من أن ممارسة العمل الميداني في هذا البحث يجب أن تكون مسلحة بخلفيات ومعرفة نظرية، في الوقت ذاته الذي يساعد على جمع المعطيات الميدانية على الخروج بإضاءات نظرية، وبالذات ما يرتبط بتواصل الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى ضمن نظام اجتماعي معين.
وقد ترجم أبوزيد تداخل وتلاحم التأمل النظري والمعايشة الميدانية، حين رأى ارتباط هذه المعايشة بالإطار التصوري والإعداد الببليوغرافي واختيار مجتمع البحث وجمع بيانات مدونة عنه، حتى يكون الباحث قادرًا على استيعاب ما يلقاه من ظواهر وملاحظات، على نحو أغنى وأعمق مما تقدمه الأساليب الأخرى كالمسوح الاجتماعية والتوثيق المكتبي، بالنظر إلى إمكانات العمل الميداني غير المحدودة في استخدام أساليب الملاحظة والمقابلة ودليل العمل الميداني والتصوير الفوتوغرافي والتسجيل الصوتي والفيلم الإثنوغرافي. ذلك أنه، ومنذ البداية، رفض أبوزيد هيئة الأنثروبولوجي النظري، المعتمد على الأفكار التطورية أو اللاانتشارية، كشخص منذور لإعادة تشكيل البشرية ورسم مساراتها، مفضلا المستكشف الميداني والمرتحل في كل المواسم. آزره في ذلك، معاينة الأنثروبولوجيا كعلم يقف قريبا من الخبرة المعيشية للأفراد، وأن لمشتغلي هذا العلم ميزة نسبية على نظرائهم الباحثين في علم الاجتماع، بسبب خبرتهم القريبة تمامًا من حياة الناس وخطابهم.

تجارب ميدانية
وقد مارس أبوزيد العمل الميداني مع مؤسسات مصرية وأجنبية (جامعة الإسكندرية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الجامعة الأمريكية في القاهرة، مؤسسة كونراد...). وكانت البداية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين سجل دراسته لنيل درجة الماجستير في جامعة الإسكندرية، عن الموت والشعائر الجنائزية عند المسلمين في مصر، واستعان في إنجازها بدليل عمل ميداني وضعه جورج فوكار. ولظروف ما، لم يقدر لهذه الدراسة أن تتم مناقشتها.
بعدها، قدم بحثا ميدانيا لجامعة أكسفورد عن الواحات الخارجية في مصر، مثّل موضوع رسالته للدكتوراه، واستغرق 13 شهرًا بين عامي 1954 و1955. وفي العام 1958 تولى الإشراف على بحث عن الثأر في إحدى قرى الصعيد المصرية، بتكليف من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ثم عن جماعات البدو الرحّل في الصحراء الغربية بمصر والصحراء السورية صيف العام 1959 بتكليف من مكتب العمل الدولي.
وخارج مصر، تولى أبوزيد القيام بدراسات ميدانية ذات أهداف محددة، ابتغت التعرف على إمكانات التنمية وتقييم مشروعاتها، وشملت المناطق الصحراوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 1961، وأخرى لعدد من القبائل في شرق وغرب أفريقيا وجنوب السودان في العام 1962. وفي إطار هذا الهدف التنموي، قدم بحوثا ميدانية محلية، حول اتجاهات المصريين نحو العمل اليدوي، والمناطق المتخلفة بالإسكندرية، والتخطيط الإقليمي لمحافظة أسوان، وتنمية الساحل الشمالي الغربي.

تقنيات جديدة
وبديهي أن تتولد عبر هذه التجارب الميدانية تقنيات جديدة، استطاع أبوزيد أن يطورها في العمل الميداني، وهي تقنيات تجلت مراميها فيما يتعلق باختيار مجتمع البحث أو الباحثين أو العينة أو مستلزمات الإقامة والدراسة. فقبل أبوزيد، كان مجال البحث الأنثروبولوجي يقتصر، في العادة، على دراسة مجموعات صغيرة وقليلة من الجماعات، لكنه استطاع أن يتحرر من التقيد بحرفية هذا النهج التقليدي، حين أولى اهتمامه بدراسة المجتمعات الأكبر حجمًا والأكثر تعقيدًا، في إطار الحرص على استيضاح علاقتها المتبادلة مع المجتمع العام، وهو ما يتضح في دراسته للمجتمعات الصحراوية.
ومع اتساع اهتمامات الأنثروبولوجيا، وتزايد الحاجة إلى مقاربة مجتمعات محلية تمثل الأنماط المجتمعية الرئيسية في المجتمع، لجأ أبوزيد إلى تعديل مشروع الباحث الفرد، الذي يقوم وحده بدراسة مجتمع محلي صغير الحجم دراسة مركزة لمدة طويلة من الزمن، وتم ذلك لأول مرة أثناء دراسته الميدانية في الصحراء الغربية بين عامي 1965 و1966، وتطور بعد ذلك في بحث شمال سيناء، حيث بلغ فريق العمل 23 باحثًا، فيما تعلق الأمر لديه بأن تعدد الباحثين الميدانيين لا يؤدي إلى أي خلل في الدراسة الأنثروبولوجية، مادام أنهم يتولون جمع المعلومات من خلال دليل عملي محدد.
وثمة إضافة أخرى قدمها أبوزيد فيما يخص عينة البحث الأنثروبولوجي، حيث الأسلوب الغالب اعتمد اختيارها بطريقة عشوائية، لكن أبوزيد عدّل هذا الأسلوب إلى الاختيار المتعمد، فيما تطلب الأمر شروطا معينة في المبحوثين الرئيسيين أو الإخباريين، ممن يقيم معهم علاقات وثيقة، دون أن يمنعه ذلك بطبيعة الحال من التواصل مع أكبر عدد ممكن من أعضاء المجتمع المبحوث.
ولأن المشكلة الرئيسية التي تواجه الباحث الميداني، تتمثل في التغلب على الحواجز التي تحول بينه وبين فهم القيم والمعاني المحلية، والتي قد تختلف اختلافا جذريا عما يحمله الباحث من قيم ومعان، دأب أبوزيد على تنبيه الباحثين إلى خطورة فرضهم لقيمهم الخاصة، وضرورة امتلاكهم بصيرة الاحترام العميق لثقافة مبحوثيهم.
وفي مجال تطوير أدوات الجمع الميداني، أبدع أبوزيد في تقنين أدلة العمل الميداني، كمرشد للباحثين في جمع البيانات، مع إعطائهم الحرية في عدم التقيد الحرفي بما ورد في الدليل أو ترتيبه، أثناء حوارهم الحي مع المبحوث.

أخلاقيات بحثية
وجنب هذه التقنيات وفي أهدابها، أسهم أبوزيد في إثارة وعي الباحثين بأهمية وخطورة بعض الظواهر والأنماط السلوكية، المرتبطة بأخلاقيات ممارسة البحث الميداني، وفهم الظروف التي صاحبت ظهور وانتشار الأنماط والممارسات السالبة منها، وأوصى في هذا الإطار بصياغة قواعد أخلاقية، تتلاءم مع المجتمع العربي، وتتفق مع مسئوليات باحثيه.
ولم يغفل، في هذا الصدد، الإشارة إلى المشكلات المتعلقة بهذه الأخلاقيات، وخصوصًا ما يتعلق بحقوق الباحث بالنسبة لاتخاذ القرارات الخاصة بإجراءات البحث الميداني، إضافة إلى توجيه سلوكه بما يتفق مع تقاليد المجتمع وقيمه، والحق في الاحتفاظ بخصوصية الحياة الشخصية.
وزاد على ذلك، بأن حدد أبوزيد المسئوليات الملقاة على الباحث، وهي مسئولية تمتد إلى إعداده العلمي منذ البداية، مرورا بتمسكه بالقواعد المنهجية، وإفادته من التدرب على مهارات التحقيق والاستقصاء والحوار مع المبحوث، مؤكدا ضرورة الإنصات له، والتخلي عن التعالي الزائف، والإحجام عن التأويل المتعجل، والحرص على الإحاطة الشاملة بجوانب السياق الاجتماعي العام، وأخذه في الاعتبار طيلة الوقت أثناء جمعه للمعلومات الإثنوغرافية الجزئية والتفصيلية، بالإضافة إلى ضرورة احترامه لثقافة وقيم المجتمع محل الدراسة، وإقامة علاقات طيبة مع أعضاء هذا المجتمع، والالتزام بسرية معلومات خاصة بالمبحوث ليست للنشر.
وبالنسبة لمسئوليات المشرف، فقد أكد على منع  المادة الإنثوغرافية التي يتم الحصول عليها ميدانيا عن أي منطقة محلية، من أن تتداولها مؤسسات بحثية أجنبية.
وبلغ من حرص أبوزيد على معايشة فريق بحثه، أنه كان يقيم معهم في مجتمعات البحث، ويشاركهم في أوجه نشاطهم اليومي، ويعقد اجتماعات يومية لهم، لمناقشة ما توصل إليه كل عضو، وقراءة المادة الميدانية التي قاموا بجمعها، ومدارسة العقبات والصعوبات التي اعترضت طريق جمع المادة، وإمكانات التغلب عليها.
ويتضح ذلك، على سبيل المثال، في مرافقته لأعضاء الفريق فترة ممتدة وسط مدقّات ورمال سيناء، أو في رحلاته وسط الوديان وجوار الجبال التي كان يسبق فيها الفريق إلى مواقع العمل، أو في إقامته معهم بمسكن بدوي تأتي إليه المياه أسبوعيا أثناء بحث المجتمعات الصحراوية، أو حين أقام معهم في حي «ستوتة» بمدينة طنطا، أو في منزل ريفي بقرية نواج القريبة من هذه المدينة أثناء بحث رؤى العالم.
ويذكر من شاركوه العمل الميداني، ذلك الجهد الذي كان يبذله لتأمين إقامة فريق البحث، وبخاصة الباحثات، ممن كان عليهن الإقامة في الميدان بعيدًا عن أسرهن لفترات طويلة، فكان يقوم بدور الأب، من حيث إجراء اتصالات تلفونية وطمأنة الأهل، ومراعاة الظروف الصحية الخاصة بهن، وتوزيعهن على تجمعات سكنية تتوافر فيها الإمكانات اللازمة.
الأمر هنا يتعلق بأن التجربة الميدانية في الدرس الأنثروبولوجي العربي المعاصر تحمل توقيع رائدها أحمد أبوزيد، بما يوجب علينا الإنصات دومًا إلى سننه، تلك التي ما برحت ملحة في أيامنا، كما كانت عليه دائمًا .