تكامل المنهجية عند أحمد أبوزيد

تكامل المنهجية  عند أحمد أبوزيد

قيل فيه أنه رائد الجيل الحالي من الأنثروبولوجيين المعاصرين، وأنه الأستاذ المعلم، وشجرة العطاء، وغيرها من أوصاف لم يحظ بمثلها إلا عدد قليل من علماء الأمة الأجلاء. وطُلب مني أن أكتب عن أحد أعماله أو إنجازاته فاخترت موضوعًا يتعلق بالمنهج الأنثروبولوجي، ونبع اختياري من كم ونوعية الإسهامات التي قدمها أستاذنا في هذا المجال من جانب، وباهتمامي الكبير بالمنهج خلال عملي المحدود جدًا – بالمقارنة بأعماله - من جانب آخر. وبداية وجب التنويه إلى أنني لم أشرف بالتلمذة المباشرة على يدي العالم الجليل. وإنما كان لكتبه وأبحاثه القيمة دورها في تكويني العلمي شأني شأن الباحثين في هذا المجال، كما لم أحظ بلقائه إلا مرات معدودات في بعض المؤتمرات المحلية والدولية. لذا سوف أعتمد في كتابتي اعتمادًا رئيسيا على بعض من كتبه وأبحاثه، وعلى عباراته كما جاءت بنصها، مع قدر من خبرتي ورؤيتي في مجال الأنثروبولوجيا. مقدمة اعتذاري منذ البداية عن أي تقصير غير مقصود يمكن أن أقع فيه، فالإلمام الكامل بخبرات هذا العالم، وملاحظاته الفنية الدقيقة يصعب إحصاؤها أو جمعها في مقال بهذا الحجم، وبوجه خاص لو عرفنا أن بحوثه الميدانية قد جابت أنحاء وطننا العربي وإفريقيا «إما كبحوث مستقلة مثل الدراسة الأنثروبولوجية الاستطلاعية للعلوم في سورية، أو مقارنة مثل المقارنة بين جماعات البدو الرحل وشبه الرحل في الصحراء الغربية بمصر والصحراء السورية». كما أنه قام بالعديد من الدراسات الميدانية في صحارى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والأردن والعراق والمملكة 
العربية السعودية وإيران، ودراسات ميدانية أخرى في عدد من قبائل شرق إفريقيا وغربها.

وإذا تركنا غزارة علمه وخبراته وإسهاماته المنهجية – وهو ما سوف نعرض لبعضها في هذا المقال – فلابد أن أسجل أنه من خلال لقاءاتي المحدودة به لمست في شخصه الكريم السمو والعلياء والود في العلاقات، ومن قراءاتي لمؤلفاته أدركت مدى حبه وشغفه بالعمل في أكثر من اتجاه والنظر إلى الموضوع من أكثر من زاوية، ومعالجة الوقائع والظواهر من أكثر من بعد نظري، واتباع أكثر من أسلوب وطريقة في جمع المعلومات الإثنوجرافية وتحليلها. وخلصت إلى أن هناك ركائز أساسية أراها شاخصة في أعماله هي الاهتمام البالغ بالإطار النظري أو المفاهيم النظرية، والالتزام بالحبكة المنهجية، والشغف بالدراسة الميدانية، ومن ثم فهو مدرسة بحثية أكاديمية مكتملة الأسس والأركان. وبالتالي فإن القارئ – المهتم - بأعماله إذا تفهم توجيهاته الرصينة الناعمة التي لا يدركها ولا يشعر بها إلا من يمتلك الحس الأنثروبولوجي يمكنه أن يتعلم الدرس ويعرف كيف يجري بحثًا علميًّا أنثروبولوجيًّا.
انطلاقًا من أن موضوع هذا المقال هو منهجية الأستاذ المعلم، فإن الأمر يقتضي تقسيمه إلى جزأين يلقي الأول منهما الضوء على أهم المفاهيم النظرية التي نالت قدرًا كبيرًا من اهتمامه، ثم نتعرف في الجزء الثاني على أبرز الإجراءات المنهجية الأنثروبولوجية في دراساته وأبحاثه.

أولاً: أهم المفاهيم النظرية 
سوف أكتفي في عرضي بأهم المفاهيم النظرية التي أولى أحمد أبوزيد عنايته الفائقة بها بمفهومي البناء الاجتماعي، ورؤى العالم؛ فقد كان الاثنان محورين أساسيين وعلامتين مضيئتين على طريق مشواره العلمي. فقد ارتبط مفهوم البناء الاجتماعي أوثق ارتباط بالأستاذ المعلم، فمن كتاباته عرفنا بداية الاهتمام بهذا المفهوم، وأي نوع من المجتمعات هو الأنسب لتطبيقه، وما يمكن أن نستخلصه باستخدامنا له، وفي مؤلفه «البناء الاجتماعى – المفهومات» أشار إلى أن ظهور الاهتمام بمفهوم البناء الاجتماعي بدأ منذ أوائل القرن العشرين وهو ما دعا علماء الأنثروبولوجيا إلى القيام بدراساتهم الحقلية في المجتمعات الصغيرة الحجم القليلة السكان نسبيًّا كوسيلة لفهم المجتمع الإنساني في عمومه. فقد أتاحت هذه الدراسات لهؤلاء العلماء الفرصة لإدراك نوع ومدى التفاعل القائم بين مختلف النظم الاجتماعية وكيف أن الحياة الاجتماعية، في أي مجتمع، تؤلف في الحقيقة نسيجًا متماسكًا متشابكًاً من العلاقات المتداخلة.
أما عن بداية اهتمام «أحمد أبو زيد» ذاته بالبنائية فترجع إلى الخمسينيات حين كان يدرس الدكتوراه في جامعة أكسفورد، وزادت صلته واهتمامه بالموضوع «بعد أن جاء ليفي ستروس عام 1955 إلى الجامعة نفسها، ثم تدعم هذا الاهتمام وتبلور حين قام بتدريس الأنثروبولوجيا البنائية بمفهومها البريطاني والفرنسي، وأتيح له إلقاء عدد من المحاضرات العامة، والمشاركة في بعض الندوات في مصر وعدد من البلاد العربية عن «البناء والبنائية»، وكتب فيها عدة مقالات عن المفكرين البنائيين الفرنسيين في مجلتي عالم الفكر، والعربي في الكويت. كما نشر له عدد من الدراسات العلمية المتخصصة حول بعض المفهومات المستخدمة في الكتابات البنائية».
وهو ما يعكس بوضوح أنه اهتمام بدأ مع دراساته الأكاديمية العليا، واستمر حتى تخرجه، ثم قيامه بالتدريس – وهي مرحلة أراها حيوية ومهمة في التكوين العلمي لأي عالم – وكتابة المقالات لندوات كثيرة ألقاها في مصر، وفي عدد من المجتمعات العربية، وانتهاء بأبحاثه ومؤلفاته العلمية المتخصصة، فهي حلقات متصلة في سلسلة اهتمامه بهذا المفهوم. وبوقفة قصيرة عند إحدى هذه الحلقات وهي حلقة البحث العلمي، كان أحمد أبوزيد شغوفًا به ومعتمدًا في كتاباته على المعلومات التي أتيح له جمعها من دراساته الحقلية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبعض المجتمعات القبلية في إفريقيا جنوب الصحراء (أوغندا، وكينيا، وتنجانيقا، والسودان الجنوبي، ونيجيريا، وسيراليون). وهو ما يوضح حرصه على اختبار هذا المفهوم ليس في مصر وحدها بل في العديد من المجتمعات، فكثرت رحلاته العلمية الميدانية وأتاحت له رصيدًا هائلاً من الشواهد والوقائع الحية التي استخدم الكثير منها لشرح أفكاره وآرائه النظرية. فعلى سبيل المثال قدم شرحًا لفكرة البناء الاجتماعي بشواهد من دراساته للمجتمعات القبلية موضحًا كيف أن القبيلة «تؤلف وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة، وهو ما يضطر الباحث الأنثروبولوجي إلى أن يقصر دراسته على قبيلة واحدة يحاول أن يحيط فيها بكل ملامح حياتها وكل نظمها وما يقوم بين هذه النظم من تساند وظيفي، وهذا في مجمله هو مضمون البناء الاجتماعي».
ولعل القارئ للفقرات السابقة يقف متسائلاً أكان الأستاذ المعلم مهتمًا بالمفهوم، أم بالدراسة الحقلية، وتأتي الإجابة بأنه يرى: «أن الباحث الأنثروبولوجي الجاد لا يكتفي بالمناقشات النظرية أو بالدراسات الحقلية أو الميدانية التي لا تستند إلى نظريات محددة واضحة المعالم، بل يحاول المزاوجة بين الاثنين بقصد الوصول إلى تحقيق دقيق وفهم عميق للمجتمع الذي يدرسه».
ومع إيمان أحمد أبوزيد بأهمية الدراسات البنائية الوظيفية طوال مشواره العلمي، فإنه مؤمن أيضًا بأن طبيعة موضوع الدراسة تفرض على الباحث المدخل النظري الملائم، فالمهم هنا هو تحقيق الهدف الأعلى والأسمى وهو فهم الواقع حتى لو تغيرت وتنوعت المداخل النظرية المهمة لأي بحث علمي، يؤكد ذلك رؤيته لمفهوم «رؤى العالم» الذي رآه «يساعد على الغوص إلى أعماق وأغوار لم تفلح المفهومات التقليدية مثل مفهوم البناء الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية في الوصول إليها. فبحوث رؤى العالم ترتكز على (الفهم) وليس على الرصد أو الوصف. فهي تغوص وراء الظواهر الاجتماعية والأنشطة الثقافية المشاهدة بقصد الكشف عن أنماط التفكير والمبادئ العقلية التي تكمن وراء هذه الظواهر والأنشطة. فليس المهم هو (ما يلاحظه) الباحث الأنثروبولوجي أثناء الدراسة الميدانية عن سلوك الناس وتصرفاتهم على ما هو عليه الشأن في البحوث الإثنوجرافية المألوفة التي تهتم بدراسة البناء الاجتماعي بكل علاقاته ونظمه وأنساقة المختلفة؛ وإنما المهم هو (ما يراه) الشخص أو الذات موضوع البحث عن نفسه وعن غيره، أو عما عداه من أشخاص وكائنات وأشياء وظواهر وقوى مختلفة».
وعلى الرغم من اختلاف أساليب الدراسة تبعًا لاختلاف المفاهيم أو المداخل النظرية، إلا أن أحمد أبوزيد قد رأى ما بينهما من أوجه اتفاق، فرؤى العالم تتفق مع البنائية الوظيفية. «في النظرة الكلية الشاملة إلى الأشياء والأفكار، بل أن رؤى العالم تعد مفهومًا أنثرولوبوجيا أصيلاً، فكل الدراسات حول رؤى العالم هي دراسات أنثروبولوجية تعتمد على مناهج البحث الأنثروبولوجي وأساليبه وتقاليده التي تتطلب الإقامة الطويلة في المجتمع موضوع الدراسة، والاتصال الوثيق القائم على خلق علاقات حميمة مع الشخص أو الأشخاص المراد الوصول إلى أنماط تفكيرهم وقيمهم.. وذلك باستخدام مناهج وأساليب وطرق وأدوات بحثية خاصة تتلاءم وطبيعة الموضوع» وهو ما يكشف عن الحس الأنثروبولوجي الأصيل، والحرص على التطوير النظري مع المحافظة على الأسس المنهجية للعلم سواء بنفس أساليبه وطرائقة وأدواته، أو من خلال تطويرها.
 
ثانيًا: الإجراءات المنهجية الأنثروبولوجية 
أخصص الفقرات التالية لموضوعين يرتبطان بالإجراءات المنهجية، هما كيفية جمع أحمد أبوزيد بين الأصالة والتجديد في تطبيقه للمنهج الأنثروبولوجي، ثم أهم الأدوات التي استخدمها في دراساته وأبحاثه.

1- الجمع بين الأصالة والتجديد 
تلخص تجربة أحمد أبوزيد في العلم الذي كرس له كل مسيرته العلمية الزاخرة، والمثمرة فكره، كونه قد تعلم وعلم الأنثروبولوجيا على أصولها، وبصورتها الكلاسيكية مع إدراكه التام لتطور هذا العلم، وإدخال بعض التعديلات والتغييرات عليه. فهو يرى أن الأنثروبولوجيا، ليست مجرد علم من العلوم الاجتماعية أو الإنسانية لها مجال محدد لا تتعداه، وإنما هي «منهج» أو موقف نظري وعملي يمكن اتباعه وتطبيقه على مختلف مجالات الفكر والنشاط الإنساني. وأنه حتى مع تطور مجالات البحث، وتغير طبيعة المجتمعات التي تهتم الأنثروبولوجيا بدراستها من المجتمعات البدائية – في بدايات هذا العلم – إلى المجتمعات الحديثة فإن ذلك لم يغير من مناهج وأساليب البحث، «وإن كان هذا لا ينفي حدوث بعض الإضافات والتعديلات التي لم تغير من جوهر هذه المناهج أو الخصائص المميزة لتلك الأساليب».
وفي دراسته للمجتمعات الصحراوية في مصر في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين أبرز أحمد أبوزيد اختلاف المنهج الأنثروبولوجي الذي استخدمه في هذه الدراسة عما كان مستخدمًا في الأنثروبولوجيا التقليدية، وكانت أهم نقاط الاختلاف:
- الاهتمام بالبعد التاريخي لمجتمع البحث من أجل فهم أعمق وأدق للحياة الاجتماعية والثقافية.
- الخروج من إطار المجتمعات المحلية الصغيرة المنعزلة إلى ما وراء الحدود الجغرافية للمجتمع المحلي.
- الخروج من إطار بحث الباحث الواحد الفرد لمجتمع صغير على مدار فترة زمنية هي سنة غالبًا إلى البحث الذي يعتمد على فريق من الباحثين يمكن أن يبحثوا مجتمعا أكبر، وأكثر تعقيدًا مع إمكانية اختصار الفترة الزمنية للبحث.
على خلاف ما كانت عليه البحوث التقليدية من عزوف عن الاتصال بالهيئات والمؤسسات الحكومية خوفًا من التأثر بآرائهم، حرص هو وفريقه على الاتصال بمختلف الإدارات والأجهزة الرسمية وهو ما ساعد في الحصول على البيانات الرسمية التي تساعد على اكتمال الصورة أمام الباحث.
ومع تفضيل الأستاذ المعلم إدخال ما يراه من تعديلات على المنهج الأنثروبولوجي، وهو ما حرص عليه عبر مشواره العلمي، فإن إيمانه العميق بأهمية هذا المنهج حتى في صورته التقليدية والذي كشفت عنه أبحاثه ودراساته الأنثروبولوجية القيمة التي زخرت بخبراته، وملاحظاته، وتعليماته التي تعد درسًا يدرس لكل أنثروبولوجي ومهتم بدراسة الحياة الاجتماعية والثقافية، يدفعنا إلى أن نقف وقفة نتعرف خلالها على بعض إسهاماته في هذا المجال فقد نبه إلى أهمية الرجوع إلى الوثائق، والإحصاءات الرسمية المتاحة، وضرورة قراءة التاريخ والأدبيات عن موضوع الدراسة، وعدم الاكتفاء بجمع المعلومات المتعلقة بالموضوع وتصنيف هذه المعلومات، ثم عرضها ببساطة وبطريق مباشر، وإنما تحليل هذه المعلومات وتفسيرها في ضوء نظرية من النظريات التي يزخر بها تاريخ الفكر الأنثروبولوجي أو علم الاجتماع. وهو ما يوضح أن التزام الباحث بالنظرية العلمية كان شغله الشاغل فهو ليس كبعض الأنثروبولوجيين الذين قد يستغرقهم الاهتمام بالدراسات الميدانية دون اهتمام بإطار نظري وإنما كان يؤكد على أهمية هذا الإطار في كل مرحلة وإجراء من إجراءات البحث، بدءًا من اختيار موضوع البحث ومشكلته، ومجتمع الدراسة، مرورًا بالأدوات المستخدمة كالملاحظة بالمشاركة أو غيرها، وانتهاء بكتابة نتائج البحث بمستوى من التجريد. ولعل ذلك يتضح في قوله موجهًا حديثه للباحث «ليس للوقائع والأحداث أي معنى أو أهمية في حد ذاتها، وإنما هي تكتسب معناها الاجتماعي حين توضع في ضوء نظرية عامة مما يتطلب إخضاع المعلومات لنوع من الاختبار يتلاءم مع تلك النظرية. والمحك الأخير الذي يتحكم في تحديد وتعيين ما يذكره الباحث في دراسته هو مدى تماشيها واتفاقها مع الاتجاه العام للدراسة، ومدى نفعها في تفهم المشكلة التي أثارتها هذه المعلومات ذاتها في ذهن الباحث». وفي حديثه عن أهمية الملاحظة بالمشاركة أكد أهمية التفاعل المستمر بين المواقف النظرية، والبحث الميداني والمعلومات الإثنوجرافية، وفي اختياره للمجتمعات المحلية التي تمثل أنماطًا اجتماعية وثقافية داخل إطارها الثقافي العام نبه إلى أهمية أن يضع الباحث في الخلفية (الإطار النظري) الموجه للدراسة، فإذا كان يهتم باختبار قضايا نظرية التغير راعى في اختياره لمجتمع الدراسة أن يكون قد شهد بعض التغيرات.
ولعل العبارات السابقة تشير بوضوح - إلى جانب ما توضحه من أهمية الالتزام بإطار نظري في كل مراحل البحث - إلى أهمية «الاختيار» فالبحث الأنثروبولوجي هو سلسلة من الاختيارات التي تصدر عن التفضيل بين مختلف الإمكانات والبدائل بدءًا من اختيار نمط المجتمع المراد دراسته، واختيار المنهج والأساليب، واختيار المدخل النظري، حيث تخضع الاختيارات لمعايير موضوعية، وذاتية في الوقت نفسه. وتتضح الموضوعية والذاتية في مختلف إجراءات البحث فاختيار طريقة البحث وأدواته على سبيل المثال يخضع لاعتبارات تتعلق بطبيعة مجتمع الدراسة، والموضوعات المراد دراستها، والهدف من الدراسة كما يتأثر ذلك في الوقت نفسه  ببعض العوامل الذاتية مثل الإعداد العلمي للباحث، ومجال تخصصه، وخبراته وميوله 
وتفضيلاته.

2 - أدوات الجمع الميداني 
من بحوث ودراسات العالم الكبير تجدر الإشارة إلى أهم أدوات الجمع الميداني التي حرص على استخدامها في أبحاثه وهي:

أ - المسح الاجتماعي 
أدرك أحمد أبوزيد بوضوح جدوى المسوح للبحث الأنثروبولوجي، فما تسفر عنه هذه الدراسات المسحية من بيانات هو بمنزلة ركيزة لبحوث أكثر تحديدًا وعمقًا. وربما نبع ذلك من حرصه الشديد منذ البداية على فهم واقع البناء الاجتماعي والثقافي المدروس، إلى جانب إمكانية الاستفادة من نتائج الدراسة لأغراض عملية وتطبيقية في مقدمتها إفادة القائمين على التخطيط والتنمية، وتقييم المشروعات التنموية وإنجاحها، خاصة وقد كان أحد أهدافه هو معرفة «ودراسة اتجاهات الأهالي ومواقفهم ونظراتهم إلى نمط الحياة التقليدية وظروف المعيشة التي يحيونها ومدى تقبلهم أو تمردهم عليها وعدم رضاهم بها أو عنها».

ب - دليل العمل الميداني 
هو أداة بديلة للاستبيان في البحوث السوسيولوجية هدفها تنظيم الجمع الميداني، وقد وصفه أبوزيد بأنه «يضم مجموعة من النقاط العامة التي تمثل أهم التساؤلات التي يدور حولها البحث، مع مراعاة عدم الدخول في التفاصيل الدقيقة التي قد تضع قيودًا على حرية الباحث و(الشخص) الإخباري على السواء وتمنعهما بذلك من التطرق إلى مختلف جوانب المشكلة أو المشاكل المطروحة للنقاش أثناء أي لقاء من هذه اللقاءات». وهي أداة استخدمها في أبحاثه الميدانية، وأبرز أهميتها في بحثه عن رؤى العالم، حيث صدر دليل مفصل للعمل الميداني في إصدار للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.

ج - الملاحظة بالمشاركة 
هي من الأدوات التي ارتبطت بالمنهج الأنثروبولوجي بل إن لها فضلا، تميز هذا المنهج من خلالها. وقد حظيت الملاحظة بالمشاركة باهتمام أحمد أبوزيد البالغ فرآها «هي الأساس الذي تقوم عليه بقية طرق البحث الأنثروبولوجي للوصول إلى درجة أكبر من التعمق في البحث وفي الفهم. وهي المرجع الأخير للتأكد من صحة البيانات التي يحصل عليها الباحث من الوسائل الأخرى، وهي التي تمكن الباحث من الوصول إلى صورة كلية عن مجتمع بحثه، وتوحي إليه بتساؤلات جديدة». ونظرًا لممارسته لهذه الأداة، وحرصه على ممارسة تلاميذه لها فقد حدد المقصود بها، وشروطها، وإمكانية تطبيقها فهي ليست عملية سهلة أو بسيطة، وإنما تحتاج إلى مران وتدريب، فالمقصود بها «الاندماج الكامل في حياة المجتمع»، وهو ما يتطلب مرور فترة من الزمن تكفي لتقبل المجتمع وجود الباحث. وهو ما يسمح للباحث بالمشاركة في الحياة العامة، وفي الأنشطة الاجتماعية اليومية، وتكمن أهمية الاندماج في أنه يساعد الباحث على فهم العادات وأنماط السلوك السائدة في المجتمع. وإن كانت له خطورته إذا وصل إلى حد التوحد مع المجتمع واعتناق مواقفه ووجهة نظره للأشياء، وبالتالي فقدان الموضوعية في البحث. 
كما أدرك تفاوت قدرات الباحثين على الاندماج بين اندماج كلي، ومراقبة من بعيد، وتفاوتهم أيضًا في القدرة على تذكر الأحداث والمواقف والتفاصيل. لذا يحرص البعض على التسجيل في الميدان، أو بعد العودة، وأيا كان فالمهم هو تسجيل التفاصيل الدقيقة لما لها من أهمية.

د - الإخباريون 
إلى جانب الاهتمام الكبير بالملاحظة بمستوياتها، وبالملاحظة بالمشاركة على وجه الخصوص، أكد أبوزيد عدم الاستغناء عن المقابلة، والإخباريين كأدوات رئيسية للحصول على بيانات تتعلق بأوضاع اجتماعية يصعب إخضاعها للملاحظة المباشرة. وأولى اهتمامًا خاصًا بالإخباري، وأهم شروط اختياره، وأهمية الرجوع إلى أكثر من إخباري واحد، موضحًا تفاوت القدرات بين الإخباريين. فعن شروط الإخباري الجيد أشار إلى اختيار من لديه المعرفة بشئون المجتمع، والقدرة على الإدلاء بالمعلومات بدقة، وأن يكون موضع ثقة، ثم أضاف في بحثه لرؤى العالم شروطًا أخرى ومعايير موضوعية على الباحث تطبيقها في اختياره للأشخاص (أو الإخباريين) هي ألا يختارهم إلا بعد طول معرفة بالمجتمع المحلي بكل نظمه وأنساقه الاجتماعية وأعضائه، ثم يراعي في اختيار الشخص الإخباري أن يكون جيدًا ومتجاوبًا مع الباحث، أي أن تكون لديه الرغبة- والقدرة على- الحديث والتعبير عن ذاته وعن وجهة نظره. وقد يتطلب ذلك توافر درجة معينة من سعة الخيال والقدرات الإبداعية لدى ذلك الشخص أكثر من الإحاطة بأنماط السلوك والنظم والعادات، مع تفضيل الاعتماد على أكثر من إخباري يرجع الباحث إليهم على فترات متباعدة، وفي مواقف مختلفة. أما في ما يتعلق بتفاوت قدرات الإخباريين، فأهمها تفاوت القدرة على التذكر، وسعة الأفق، وتنوع التجارب، وعمق الفهم للأوضاع الاجتماعية.

هـ - الأدوات السمعية والبصرية 
أكد الأستاذ العالم أهمية أدوات أنثروبولوجية أخرى، وإن رأى أن استخدامها يحتاج إلى أعمال ومجالات بحثية خاصة. وفي مقدمة هذه الأدوات، الأدوات السمعية والبصرية فقد رأى أن الصور من أهم الأدوات ليس فقط كوسيلة للتوضيح، ولكن كأداة فعالة وسهلة وبسيطة لتلخيص المواقف المعقدة في (لقطة) واحدة سريعة قد يحتاج شرحها وتحليلها لملء عشرات الصفحات. وكان من رأيه أن الصورة تقرأ كالنص المكتوب وإن احتاجت إلى خبرة ويقظة ومران. وأشار إلى أن التصوير قد أصبح يؤلف فرعًا جديدًا هو الأنثروبولوجيا البصرية أو المرئية، له مؤلفاته وأساتذته، ودورياته المتخصصة. وفي ما يتعلق بالتسجيل الصوتي فرأى أنه يرتبط باعتبارات أخلاقية ترتبط بضرورة الحصول على موافقة المبحوثين، وهي أداة تتيح الفرصة للتحليل اللغوي الدلالي. 
وفي ختام الحديث عن الإجراءات المنهجية أرى أهمية تناول أحد الموضوعات المنهجية المهمة التي تحسب لأحمد أبوزيد في تطبيقاته للمنهج الأنثروبولوجى وأدواته، وهو اعتماده في معظم دراساته على فريق للجمع الميداني، فقد استخدمه في دراسة أجريت في الصحراء الغربية المصرية عامي 1965/1966، وفي بحثه القيم في المجتمعات الصحراوية المصرية في نهاية الثمانينيات وهو ما يمكن أن نتخذه هنا مثالاً يحتذى، ودرسًا منهجيًّا من دروس العالم الباحث، كما استخدمه في بحث رؤى العالم وغيره من أبحاث. ففي بحث المجتمعات الصحراوية المصرية تم الاعتماد على فريق مكون من ثلاثة وعشرين باحثًا وباحثة منهم خمسة عشر باحثًا وباحثة في الأنثروبولوجيا، وسبعة باحثين وباحثات في علم الاجتماع، وباحث واحد في علم النفس، ومشرف متخصص في الأنثروبولوجيا، أي أنه اعتمد على أعضاء متعددي التخصصات. واشترك الفريق كله كوحدة متكاملة في جمع المادة العلمية التي تعطي خلفية عامة وأساسية عن مجتمع الدراسة، وفي نفس الوقت انقسم الفريق إلى ثلاث مجموعات اهتمت كل واحدة بدراسة نمط اجتماعي واقتصادي واحد (نمط صيد، ورعي وزراعة، وبداوة)، حيث اهتم كل باحث بأحد الأنساق الاجتماعية أو الثقافية دون إغفال لبقية الأنساق وهو ما يؤكد حديثه عن ضرورة أن يظل الإطار أو المدخل النظري في خلفية الباحثين، فهم هنا يدرسون كل نسق فى علاقته ببقية الأنساق في المجتمع المحلي نفسه، وفي ضوء مكونات البناء الاجتماعي والثقافي ككل.
ورأى أبوزيد في هذا البحث القيم، وفي غيره من البحوث أن العمل في فريق يحتاج إلى العمل وفقًا لجدول زمني، وإلى تقسيم للعمل، وتنسيق بين المهام المختلفة، والتوفيق بين متطلبات أساسية ومتكاملة تبدأ من الالتزام بإطار نظري، وخطة بحثية، وأدوات وتنتهي بأهمية أن يترك للباحث أو الجامع مساحة كافية من الحرية والإبداع فهو ليس مجرد آلية للجمع الميداني.
ومن قبل ذلك ومن بعد فإن الاعتماد على فريق بحثي يتطلب التزام المشرف بعدد من القيم يتحلى بها، ويقوم بنشرها وبثها بين أعضاء الفريق، وحتى يمكننا التعرف على بعض هذه القيم سوف أعتمد هنا على بعض شهادات تلاميذه الذين عملوا معه ضمن فريقه البحثي، فقد أكدوا أن الأستاذ كان يقوم بدور الأب لأعضاء فريقه ولأسرهم أيضًا فيطمئن الأهل، ويصاحب الباحثين، ويوفر لهم الإمكانات الضرورية، ويبث فيهم روح العزيمة، وحب الوصول إلى الحقيقة، وحب المغامرة، وارتياد الصعاب في سبيل إنجاز العمل على أكمل وجه. وعلى الجانب الآخر كان يحثهم ويعطيهم نموذجًا في الالتزام بقيم وأخلاقيات البحث العلمي في تعاملهم مع مفردات مجتمعات الدراسة من حيث تكتم أسرارهم وعدم إفشاء ما ائتمنوا عليه، مع تشجيع الباحثين على احترام عادات وتقاليد مجتمع الدراسة في كل تفاصيل الحياة اليومية.