حصن ثلاء.. قمم الجبال تحمي عروش الأئمة

حصن ثلاء..  قمم الجبال تحمي عروش الأئمة

تراءت لنا تحت السماء المفتوحة بقعة دائرية مفتوحة محاصرة بجيش من الجبال الشاهقة، وفي أوسطها جبل يعلوه حصن متهالك، هي من بعيد كأنها لوحة مائية رسمت بألوان طينية متفاوتة الدرجات كلما اقتربنا منها أفصحت أكثر عن تفاصيلها، بيوت حجرية تلتف على عنق الجبل وسور مهيب يطوق تلك المدينة القديمة في مشهد لحالة من الاستنفار والحذر من أخطار الغزاة، ذلك المشهد ملخصه «كن في الأعلى تكسب دائما»، وطبق هذا الدرس أئمة اليمن لعقود طويلة احتلوا فيها قمم الجبال الشاهقة، إلى أن جاءهم زمن الطائرات الحربية التي طبقت نفس الدرس مقرونا بتكنولوجيا الزمن الحديث، فسقطت حصون الأئمة وانتصر أصحاب الطائرات.

ثلاء، مدينة عربية يمنية تبتسم لضيوفها على اختلاف مشاربهم، وتقطب حاجبيها لمن أراد بأهلها الشر، استقبلتنا خير استقبال وودعتنا بأمل العودة لها مجددا.

«المنحشرون» 
تبعد مدينة ثلاء عن العاصمة صنعاء 45 كلم شمالا وهي واحدة من خمس مدن يمينة ضمن مواقع ثقافية مؤقتة في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، كانت رحلتنا إليها رحلة جماعية مع إخوة من مختلف الأقطار العربية وبعض الزملاء الأجانب، بدأت منذ الصباح الباكر واستغرقت نصف يوم، وأغلب الوقت قضيناه في الحافلة بسبب الازدحام المروري الخانق.
مازالت تعليمات مرافقنا ترن في أذانيَّ حتى اليوم «البسوا الأحذية الرياضية وأحضروا معكم بعض الملابس الثقيلة»،  مثل ذلك الكلام لا نجده منسجما مع واقع حرارة الطقس في صنعاء وعندما انحشرنا في الحافلة وحافلتنا انحشرت في زحمة لم يتوقف «المنحشرون» عن التذمر لأن بعضهم ارتدى الملابس الثقيلة ومؤشر درجة الحرارة يصعد نحو الأربعين درجة، كان الرد حاسما: «في الجبل الحرارة غير وفي كوكبان ستعرفون السبب».
سائقنا أحضر معه لفافة من القات الطازج وبدأ في سحب أعواده وتقطيع أوراقه بيد واحدة والإمساك بمقود الحافلة باليد الأخرى، ومرافقنا الذي كان يجلس بجانبي  شرع في قراءة صحيفته والسيجارة لا تفارق يده.
في الطريق والحافلة مازالت تقطع شوارع صنعاء شهدنا فورات متلاحقة عند أسواق على جانبي الطريق الكل كان يسأل ما الذي يحصل؟، «إنها ساعة شراء القات يا جماعة» الجواب أتانا هذه المرة من سائقنا العزيز، وهذا المنظر يتكرر يوميا قبل ساعة الغداء، الناس تترك أعمالها مؤقتا ويذهبون لشراء لفافة أو أكثر من «القات» الطازج الذي يلف بكيس بلاستيك خفيف والأسعار متفاوتة حسب الجودة، والأنواع تتجاوز الستين نوعا وكل مستهلك يشتري قدر ميزانيته، الطريف أن للموظفين علامة متفقا عليها للدلالة على أنهم سيرجعون لمقار أعمالهم وهي ترك «الكوفية» على الكرسي.
خرجنا من صنعاء ودخلنا في محافظة عمران حيث بدت لنا الطبيعة هناك أكثر جمالا والطقس يميل إلى الاعتدال والمساحات الخضراء مفروشة على مد النظر، ترتفع مدينة ثلاء ثلاثة آلاف متر تقريبا عن سطح البحر, وكلما ارتفعنا على ظهر جبل برزت أمامنا المئات من شجيرات القات القصيرة حيث تزرع في تلك الأماكن المرتفعة أغلى الأنواع وأجودها وهي تعد الاستثمار الأعلى ربحية والأقل كلفة لأن هذه الشجرة المخدرة تتحمل البرد القارص ولا تحتاج إلى الكثير من الماء، والجراد من «خبثها» لا يقترب منها وهي دائمة الخضرة غزيرة التوريق وعشاقها لا يتوقفون عن طلبها من الصغر حتى قبل الممات، هذه «الجدوى» الاقتصادية أو «العدوى» هي السبب الأول الذي جعل حقول القات تكتم أنفاس حقول البن والحمضيات. 
   
 بوابات ثلاء 
تطل مدينة ثلاء على مدن حبابه ومحويت وعيال سريح وعمران ووتار، وتتبع جغرافيا محافظة عمران وإداريا لمديرية ثلاء ويبلغ عدد سكانها وفق آخر إحصاء أجري العام 2004 سبعة آلاف نسمة تقريبا، وقد بنيت منازل ثلاء من حجارة الجبل وهي محمية بسور يصل طوله إلى أكثر من ألفي متر تقريبا يتدرج ارتفاعه من مكان لآخر، والجدار الشمالي هو الأكثر ارتفاعا ويصل طوله إلى 20 مترا، وتقام على ذلك السور أبراج المراقبة كما توجد ثماني بوابات منتشرة على طول ذلك السور، ومن أبرز معالم مدينة ثلاء حصنها الذي حمل اسم المدينة وبني على قمة الجبل.
حصن ثلاء الذي لم يعرف له تاريخ محدد لبنائه وقد ذكره المؤرخ الهمداني الذي عاش في القرن الرابع الهجري في كتابه «صفة جزيرة العرب» أي أنه بني قبل ذلك الزمن وقال الهمداني عن حصن ثلاء: «وثلاء حصن وقرية للمرايين من همدان، وتقع البلدة في السفح الشرقي للحصن», ويضيف مؤرخ آخر هو السياغي في كتابه «معالم الآثار اليمنية»: «إن حصن ثلاء يمتاز بحصانته ومنعته وبه العديد من الكهوف الواسعة ومدافن الحبوب وبرك الماء وفي شمال هذا الجبل - ومتصل به - حصن يسمى (الناصرة) وهو أعلى منه وفيه مآثر وبيوت خربة، وفي أعلاه القلعة المنيعة الأثرية، مما يعني أن قلعة أو حصن ثلاء هي من أهم القلاع والحصون الحربية، نظرا لوجودها على قمة أعلى مرتفع في منطقة ثلاء مما حصنها تحصينا طبيعيا جيدا، كما يتوافر بهذه القلعة معظم العناصر الحربية اللازمة لبناء القلعة».
وتضم مدينة ثلاء العديد من المعالم التي يمكن اكتشافها عبر التجوال بين شوارعها الضيقة، نذكر منها الجامع الكبير ويقع على تل مرتفع في وسط المدينة، وظلت الكثير من الكتابات بخط النسخ على جدران إيوان المسجد، أبرزها إعلان نهاية العمل في المسجد ونصها «وكان الفراغ من هذه العمارة المباركة في شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين وسبعمائة من الهجرة المباركة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم»، ويوجد في ثلاء مسجد آخر هو مسجد سعيد الكينعي ويقع جنوب المدينة والعديد من الأضرحة، كما توجد عين الماء الكبيرة، وأخيرا مدرسة الإمام شرف الدين وهي واحدة من سبع مدارس منتشرة في مختلف أنحاء اليمن أسسها يحيى شرف الدين بن شمس الدين بن المهدي أحمد الذي ينتهي نسبه إلى الهادي بن الحسين.
 ومدينة ثلاء مدينة علم تضم المدارس التي تعلم الفقه وتفسير القرآن وقواعد اللغة العربية ويوجد فيها الكثير من المساجد القديمة، ويقع على قمة الحصن قصر المطهر وهو اسم لشخصية اشتهرت بتصديها للوجود العثماني في اليمن، فقد واجه الإمام المطهر بن شرف الدين الأتراك مع والده في بداية الأمر ثم واصل القتال بعد وفاة أبيه في العام 969 هجرية وفي المراحل الأخيرة من معاركه تحصن بحصن ثلاء المنيع وأجبر العثمانيين على الانسحاب بعد قذفهم وجنوده بالحجارة وتوفي المطهر في العام 980 هجرية.
لم تتمكن الحافلة التي حملتنا رغم صغرها من اختراق شوارع مدينة ثلاء الضيقة سوى لمسافة محدودة، توقفنا بعدها في نقطة اعتبرت نقطة التلاقي التي يبدأ وينتهي منها زوار المدينة، نزلنا وأغلب الزوار يحملقون أول الأمر في الجبل العظيــــم مع عملـــية تمدد لاإرادية في الجسم بسبب طول مدة «الانحشار» في الحافلة.
في نقطة التلاقي حوصرنا بجمع من الصغار كأنهم فراشات فصل الربيع كل منهم يريد أن يكون دليلنا السياحي وبعضهم نجح في إقناع بعض الزبائن، توجهنا نحن كفريق دفعة واحدة نحو الجبل للصعود إلى الحصن وكان أكثر من مرافق لنا يتحفنا بأفضل ما لديه من معلومات.

السلم الحجري
كانت رحلة الصعود لقمة الجبل مهمة شاقة لي، والاعتراف بالحق فضيلة، ولعل ملاحظة قيمة سمعتها (طوق النجاة) وأنا في طريق الصعود هي أن بلوغ قمة الجبل الشاهق مضيعة للوقت مقارنة مع متعة اكتشاف معالم المدينة، لذلك قررت مع مجموعة من الزملاء «مسك العصا» من المنتصف.. نصعد قليلا ونستطلع المدينة بعدها.
سلم الصعود مصنوع من الأحجار غير المثبتة أي تتحرك كلما دسنا على حجر، تلك الأحجار أطرافها حادة كالموس والوضع يزداد صعوبة عندما يتعمد البعض من سكان المدينة تخطينا بسرعة وخفة وكل واحد منهم يسألنا عن الحساب.. أي حساب؟ لا أعلم.. ولاحقا عرفت أن هؤلاء المزعجين يريدون أجرة صعود الجبل!!، ويا للعجب كيف للجهات المعنية  أن تترك للآخرين مهمة جباية أموال المواقع السياحية نيابة عنها؟!
عند هذا الحد توقفت أنا ومجموعة «العصا»  بعد أن قطعنا نصف المسافة تقريبا ثم بحثت عن زميلي المصور اليمني عبدالرحمن الغابري وطلبت منه التقاط بعض الصور الجميلة لي عندما يصل إلى قمة الجبل ففعل مشكورا.

العين تدمع 
السير في شوارع المدينة ورؤية منازلها الصغيرة له وقع في النفس أكثر من المشاهدة من الأعلى خاصة عندما يرتبط الأمر بالتصوير، كانت الساعة في يدي تشير إلى الثانية عشرة والنصف حينما بدأنا نشق طريقنا بين الأزقة.
لبرهة اعتقد زميل لنا أن حريقا شب في أحد البيوت ثم امتد للبيوت الأخرى ولكن دون العويل المعتاد في مثل هذه الحوادث لأن الأمر لا يعدو كونه ساعة إعداد الطعام بالطرق التقليدية مثل استعمال الخشب، واصلنا السير ونحن نسأل عن عين الماء الكبيرة حتى وصلنا إليها، وهي تقع على أطراف مدينة ثلاء.
أخذنا ندور حول سور العين باتجاه أكثر مناطقها انخفاضًا حيث صنع سلم حجري تغوص درجاته في الماء، اقتربنا من سطح الماء كثيرا نتأمل فضاء المكان، كان لون الماء أزرق يميل إلى الخضرة وربما العكس، وفوق الماء تكونت طبقات طحلبية أعجز عن وصف بشاعتها أو الأثر السلبي الذي تتركه في النفس لو قيل لي اشرب من ماء العين، ما آلمني حقا هو تعمد بعض الناس من سكان المدينة جعل تلك العين الواسعة مكب نفايات لأكياسهم وقنانيهم، والغريب أن هذه البركة هي المصدر الرئيسي من المياه العذبة لسكان مدينة ثلاء! هذا الوضع يذكرني بمن يفقأ عينيه بإصبعه.
مع اقتراب ساعة المغادرة تعمدنا سلوك طريق مختلف نحو نقطة التلاقي، في أحد الأزقة رفع أحد الزملاء رأسه وأشار بسبابته قائلا: «انظروا هذا الجسر المعلق بين الجدارين يا ترى ما السبب؟»، رد عليه زميل آخر معنا مداعبا: «ربما كان صاحب المنزل متزوجا من امرأتين وأراد اختصار الطريق».
رجال مدينة ثلاء لم ألاحظ أن ملابسهم التقليدية تختلف كثيرا عن ملابس أهل صنعاء على الأقل أثناء جولتنا، ثوب وجاكيت وجنبية وغترة ملقاة على الكتف أو ملفوفة على الرأس، لكن الأمر اختلف مع النساء فملابسهن اختلفت عن ملابس نساء صنعاء التي يغلب عليها السواد، فهن يتدثرن بأغطية ملونة وزاهية، حمراء، وزرقاء، وصفراء، والأطفال غلب عليهم لبس البنطلون والجاكيت، وأخيرا كبار السن كانوا محافظين على لبس العمامة البيضاء والثوب التقليدي.
عند وصولنا إلى نقطة التلاقي، كان بانتظارنا استقبال مختلف تماما عن استقبال المرشدين الأطفال، هذه المرة حوصرنا من قبل باعة القطع الأثرية والتذكارات على أعضاء فريق الرحلة الذين أقبلوا على الشراء بشراهة وأنا معهم، أحد الزملاء الفرنسيين من الحافلة الأخرى استثمر ذهاب فتاة صغيرة إليه لطرح بعض الأسئلة عليها لكونه متخصصا في قضايا حقوق تعليم الأطفال وعدم تشغيلهم في سن مبكرة.
الفتاة كــــانت تبــــيع القلادات الفضية والحوار معها بدأ عن طريق مترجم، وبينما كانت تنظر بعيون بريئة وتستمع إلى السؤال الأول بـــالـــفــرنـــسية عن عمرها، وقعت المفأجاة عندما ردت بكل ثقة باللغة الفرنسية.. عمري ثماني سنوات ثم أكملت الحوار والجميع مصاب بالذهول الممزوج بالفخر والاعتزاز. وعلمنا من المترجم – بطبيعة الحال – أن تلك الريحانة الصغيرة تتلقى تعليمها في الصباح وتعمل كبائعة للقلادات الفضية بعد نهاية وقت المدرسة وقد اكتسبت اللغات الأجنبية من المدرسة والاحتكاك اليومي مع السياح الأجانب.
أخيرا دارت محركات الحافلات معلنة عن نهاية رحلتنا لمدينة ثلاء وبداية رحلتنا إلى صنعاء مرورا بمنطقة كوكبان التي توقفنا فيها لأقل من ساعة وعرفنا جيدا سبب إلحاح مرافقنا على ضرورة إحضار بعض المــــلابــس الثقــــيـــلة لأن ســــفوح كوكبان قطعة من سيبيريا.