مع جحا في أوزبكستان

وصلت‭ ‬رحلتنا‭ ‬إلى‭ ‬جمهورية‭ ‬أوزبكستان‭. ‬نحن‭ ‬نقرأ‭ ‬أسماء‭ ‬مدنها‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬مثل‭ ‬عاصمتها‭ ‬طشقند،‭ ‬وشقيقاتها‭ ‬سمرقند‭ ‬وبُخارى‭ ‬وخوارزم‭.‬

سأتوقف‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بخارى‭ ‬الشهيرة‭ ‬لأقدم‭ ‬لكم‭ ‬بعض‭ ‬الفنون‭ ‬التقليدية،‭ ‬فهي‭ ‬مدينة‭ ‬تاريخية‭ ‬وخامس مدن أوزبكستان‭ ‬سكاناً،‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬265‭ ‬ألف‭ ‬نسمة،‭ ‬وتقع‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬مدن‭ ‬أوزبكستان‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭.‬

أسست‭ ‬مدينة‭ ‬بخارى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬500‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تسمى‭ ‬آرك،‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬زرفشان‭. ‬وقد‭ ‬دخلها‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الميلادي،‭ ‬سنة‭ ‬54‭ ‬هجرية‭.‬

ترتبط‭ ‬فنون‭ ‬مدينة‭ ‬بُخارى‭ ‬بطريق‭ ‬الحرير‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تعبره‭ ‬القوافل‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬البندقية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭.‬

وقد‭ ‬تحولت‭ ‬المباني‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬بخارى‭ ‬إلى‭ ‬أسواق‭ ‬ومطاعم‭ ‬وفنادق‭ ‬ومدارس،‭ ‬وأجمل‭ ‬شيء‭ ‬هو‭ ‬ورشات‭ ‬الرسم‭ ‬وصناعات‭ ‬الخزف‭ ‬والغزل‭. ‬

من‭ ‬أشهر‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬رسم‭ ‬المنمنمات‭. ‬وتعني‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬منمنمة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مُصغَّر،‭ ‬فهي‭ ‬الصورة‭ ‬الدقيقة‭ ‬المزخرفة‭ ‬في‭ ‬المخطوطات،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لوحات‭ ‬مصورة‭ ‬مُصَغَّرة،‭ ‬تضم‭ ‬رسوماً‭ ‬وزخرفة‭ ‬ونصوصاً،‭ ‬ذات‭ ‬تفاصيل‭ ‬دقيقة‭. ‬

فَنُّ‭ ‬المُنَمْنَمَاتِ‭ ‬في‭ ‬بخارى‭ ‬نوعان،‭ ‬قديم‭ ‬ومعاصر،‭ ‬ولاتزال‭ ‬المخطوطات‭ ‬المحفوظة‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬أو‭ ‬المنقولة‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬متاحف‭ ‬العالم‭ ‬تحكي‭ ‬الكثير‭. ‬

وقد‭ ‬هرب‭ ‬الخطاطون‭ ‬والرسامون‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬بسبب‭ ‬الحروب،‭ ‬وجاءوا‭ ‬إلى‭ ‬بُخارى‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬وظهرت‭ ‬المنمنمات‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬هؤلاء‭ ‬بأزياء‭ ‬قديمة‭ ‬وحديثة،‭ ‬وأحب‭ ‬الشعب‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬فرعاه‭ ‬وتطور‭ ‬كثيراً‭.‬

وبجانب‭ ‬فن‭ ‬المنمنمات،‭ ‬رعى‭ ‬الفنانون‭ ‬صناعة‭ ‬الحلي‭ ‬وصياغة‭ ‬المجوهرات،‭ ‬وشغل‭ ‬الفخار‭ ‬والخزف،‭ ‬والرسم‭ ‬على‭ ‬القماش،‭ ‬والنقش‭ ‬على‭ ‬الجلود،‭ ‬ونسج‭ ‬الأبسطة،‭ ‬وحفر‭ ‬الخشب،‭ ‬وتركيب‭ ‬الجص‭.‬

وأحد‭ ‬الأنواع‭ ‬المنسية‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬بخارى‭ ‬هو‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬المينا‭ ‬فوق‭ ‬صناديق‭ ‬صغيرة‭ ‬مصنوعة‭ ‬بالطريقة‭ ‬القديمة‭ ‬باستخدام‭ ‬تقنية‭ ‬الصائغين،‭ ‬بإطار‭ ‬من‭ ‬الفضة‭ ‬والنيكل‭ ‬وإضافة‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الفيروز‭ ‬والأحجار‭ ‬النفيسة‭ ‬وقلادات‭ ‬العنق‭.‬

ومثلما‭ ‬نعرف‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬حكايات‭ ‬جحا،‭ ‬فإنهم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بخارى‭ ‬يسمونه‭ ‬نصرالدين‭ ‬خوجة،‭ ‬ويحتفظون‭ ‬بتمثال‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬يركب‭ ‬حماراً‭ ‬بجوار‭ ‬البحيرة‭ ‬الاصطناعية‭ ‬الوحيدة‭ ‬الباقية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

ومن‭ ‬يزر‭ ‬الأسواق‭ ‬يسعد‭ ‬بمشاهدة‭ ‬الدمى‭ (‬العرائس‭ ‬الخشبية‭) ‬التي‭ ‬ترتدي‭ ‬الأزياء‭ ‬الشعبية‭ ‬الأوزبكية‭. ‬

رأيت‭ ‬صبياً‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬عمركم‭ ‬بإحدى‭ ‬الورشات‭ ‬يتعلم‭ ‬أحد‭ ‬هذه‭ ‬الفنون،‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬والده‭ ‬علمه‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬وإنه‭ ‬يحب‭ ‬الفن‭ ‬كثيراً،‭ ‬وحين‭ ‬ينتهي‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬يضعها‭ ‬في‭ ‬متجر‭ ‬جده،‭ ‬ليشتريها‭ ‬زوار‭ ‬المدينة‭. ‬

في‭ ‬مدينة‭ ‬بخارى‭ ‬عشت‭ ‬ساعات‭ ‬توازي‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬فقد‭ ‬علمت‭ ‬عن‭ ‬تاريخها،‭ ‬واستمتعت‭ ‬بفنونها،‭ ‬وضحكت‭ ‬أمام‭ ‬تمثال‭ ‬جحا،‭ ‬واشتريت‭ ‬دمية‭ ‬لاأزال‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬إن‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬مفيدة،‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬تكتبوا‭ ‬عن‭ ‬رحلاتكم،‭ ‬فقد‭ ‬تصبحون‭ ‬يوماً‭ ‬رحالة‭ ‬مشهورين‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬الجديد‭.‬

صورها‭: ‬سليمان‭ ‬حيدر