الإسلام والتسامح.. موقف الإمام عبد الحميد بن باديس

الإسلام والتسامح.. موقف الإمام عبد الحميد بن باديس

التسامح‭ ‬قيمة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وسياسية‭ ‬وموقف‭ ‬إنساني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التعصب،‭ ‬فالتسامح‭ ‬يقبل‭ ‬بالاختلاف‭ ‬والتنوع،‭ ‬ولذا‭ ‬يعد‭ ‬شرطا‭ ‬أساسيا‭ ‬لممارسة‭ ‬الديمقراطية‭. ‬ويظهر‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتعددة،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬ذات‭ ‬الأنساق‭ ‬والقيم‭ ‬المتعددة‭. ‬ولأن‭ ‬التسامح‭ ‬مفهوم‭ ‬ككل‭ ‬المفاهيم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فإن‭ ‬له‭ ‬حدا‭ ‬هو‭ ‬التعصب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬درجة‭ ‬الصفر‭ ‬للتسامح،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تحديد‭ ‬درجات‭ ‬التسامح‭. ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬مشكلة‭ ‬التسامح‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬نقيضه‭ ‬وهو‭ ‬اللاتسامح‭  ‬الذي‭ ‬يستلزم‭ ‬التعصب‭ ‬وما‭ ‬يؤدي‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬عنف،‭ ‬ومن‭ ‬اضطراب،‭ ‬ومن‭ ‬عدم‭ ‬استقرار،‭ ‬ومن‭ ‬حرب‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬مشكلاته‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬اللامحدود‭ ‬يدمر‭ ‬التسامح‭.‬

أولا‭: ‬في‭ ‬الأصل

‭ ‬نجد‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬وغيرها‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الكلمة،‭ ‬إذ‭ ‬يؤرخ‭ ‬لها‭ ‬عموما‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬بحيث‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬البروتستانتية‭ ‬كانت‭ ‬مصدرا‭ ‬للتسامح‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬والسابع‭ ‬عشر‭. ‬ولعل‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استعمل‭ ‬كلمة‭ ‬التسامح‭ ‬هو‭ ‬المصلح‭ ‬البروتستانتي‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ (‬Martin Luther‭) ‬في‭ ‬حدود‭ ‬العام‭ ‬1541،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬ربط‭ ‬التسامح‭ ‬بحرية‭ ‬المعتقد‭ ‬والإيمان‭ ‬والضمير‭. ‬وتزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬عند‭ ‬إرازم‭ ‬‭(‬Erasme‭)‬،‭ ‬وميشال‭ ‬دو‭ ‬لوسبتاليي‭ ‬‭(‬Michel de Lصhospital‭)‬،‭ ‬ومنتان‭ ‬‭(‬Montaigne‭)‬،‭ ‬الذين‭ ‬أسسوا‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وهم‭ ‬فلاسفة‭ ‬إنسانيون‭ ‬ولاهوتيون‭ ‬يدعون‭ ‬إلى‭ ‬المصالحة‭ ‬بين‭ ‬الكنائس‭.‬

كتب‭ ‬إرازم‭ ‬حول‭ ‬ضرورة‭ ‬الوئام‭ ‬المدني‭ ‬‭(‬La concorde civile‭)‬‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1523،‭ ‬حيث‭ ‬أكد‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الاختيار‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬كنيسة‭ ‬يشاء،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجنب‭ ‬الحرب‭ ‬والاقتتال‭. ‬وقدعبرت‭ ‬معاهدة‭ ‬وصلح‭ (‬1598‭/‬Lصédit de Nantes‭)‬‭ ‬أو‭ ‬المصالحة‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬الكاثوليك‭ ‬والبروتستانت‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬أقرت‭ ‬أن‭ ‬المصالحة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المعتقد،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العيش‭ ‬المشترك‭. ‬

كما‭ ‬نجد‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬عند‭ ‬الفلاسفة‭ ‬المحدثين،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عند‭ ‬اسبينوزا‭ ‬‭(‬Spinoza‭) ‬في‭ ‬كتابه‭: ‬رسالة‭ ‬في‭ ‬اللاهوت‭ ‬والسياسة،‭ ‬حيث‭ ‬احتلت‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬مكانة‭ ‬رئيسية،‭ ‬يظهر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬والديمقراطية‭.‬‭ ‬

يقول‭: ‬افي‭ ‬جمهورية‭ ‬حرة‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬مسموح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬كما‭ ‬يشاء‭ ‬وأن‭ ‬يعبر‭ ‬كما‭ ‬يشاءب‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬اسبينوزا‭  ‬أكد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬اليوم‭ ‬بضرورة‭ ‬حرية‭ ‬التفكير‭ ‬والتعبير،‭ ‬وذلك‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1670‭ ‬تاريخ‭ ‬نشر‭ ‬رسالته‭ ‬في‭ ‬اللاهوت‭ ‬والسياسة،‭ ‬وبرهن‭ ‬على‭ ‬أن‭: ‬احرية‭ ‬التفلسف‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬خطرا‭ ‬على‭ ‬التقوى‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬القضاء‭ ‬عليها‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬السلام‭ ‬والتقوى‭ ‬ذاتهاب‭. ‬وأن‭ ‬فكرة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ذاتها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعي‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬أصبحت‭ ‬فكرتا‭ ‬النقد‭ ‬العقلي‭ ‬والتسامح‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الأساسية‭ ‬عند‭ ‬فلاسفة‭ ‬التنوير‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭. ‬

وتزامنت‭ ‬دعوة‭ ‬اسبينوزا‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬صدور‭ ‬رسالة‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ( ‬1632‭ -‬1704‭) ‬حول‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1689،‭ ‬حيث‭ ‬أكد‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أساس‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭. ‬يقول‭: ‬اإنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يقتحم‭ ‬باسم‭ ‬الـــــدين،‭ ‬الحقوق‭ ‬المــــدنــية‭ ‬والأمور‭ ‬الدنــيوية‭ - ‬ولـــهذا‭ ‬فإن‭ - ‬فن‭ ‬الحكم‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬أي‭ ‬معرفة‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬الحقب‭. ‬لماذا؟‭ ‬لأنه‭ ‬يعتقد‭: ‬اأن‭ ‬خلاص‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الله‭ ‬وحده،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يفوض‭ ‬أحدا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬دينا‭ ‬معينا‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬قوة‭ ‬الدين‭ ‬الحق‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬اقتناع‭ ‬العقل،‭ ‬أي‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الإنسانب‭. ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ‬أكد‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الديني‭ ‬وبين‭ ‬تسيير‭ ‬الحكم‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬عرفت‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬تطورا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬فلاسفة‭ ‬التــــــنوير،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عـــــند‭ ‬كانـــط‭ ‬وفولتير،‭ ‬حيث‭ ‬أكــد‭ ‬الأول‭ ‬فــــي‭ ‬نصين‭ ‬هـــما‭: ‬السلم‭ ‬الدائم،‭ ‬والدين‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬العقل‭ ‬البسيط،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الممكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أديان‭ ‬مختلفة‭ ‬وكتب‭ ‬سماوية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فليس‭ ‬هنالك‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬إلا‭ ‬دين‭ ‬واحد‭ ‬صالح‭ ‬لجميع‭ ‬الناس‭ ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الأوقات،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬دين‭ ‬العـــقل‭.‬

‭ ‬وكتب‭  ‬فولتير‭ ‬كذلك‭ ‬رسالة‭: ‬في‭ ‬التــــسامح،‭ ‬1763،‭ ‬تحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الصراعات‭ ‬الدينية‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬النزاعات‭ ‬اللاهوتية،‭ ‬وخلص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬لم‭ ‬يحرض‭ ‬أبدا‭ ‬على‭ ‬الحرب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬اللاتسامح‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬الحروب‭ ‬والاقتتال‭. ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬جون‭ ‬استورت‭ ‬ميل‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭: ‬الحرية،‭ ‬1859،‭ ‬أشار‭ ‬فــــيه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬يمنع‭ ‬معه‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بالحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬أي‭ ‬تمتنع‭ ‬معه‭ ‬الوثوقية‭ ‬أو‭ ‬الاعتقادية‭ ‬‭(‬Dogmatisme‭)‬‭.‬

بهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬الموجز‭ ‬يكون‭ ‬التسامح‭ ‬فكرة‭ ‬دينية‭ ‬وسياسية‭ ‬وفلسفية‭ ‬لها‭ ‬مضامين‭ ‬عديدة‭ ‬ومستويات‭ ‬مختلفة‭ ‬تتمثل‭ ‬أساسا‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬المعتقد‭ ‬والعقل‭ ‬والتعبير،‭ ‬والإقرار‭ ‬بالاختلاف‭ ‬والتنوع‭ ‬مع‭ ‬ضرورة‭ ‬التعايش‭ ‬والتعاون‭. ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يعقل‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬البشرية‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬تاريخ‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متسامحة‭ ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬التسامح؟‭ ‬صحيح‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬اليونان‭ ‬كلمة‭ ‬مرادفة‭ ‬للتسامح،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬حياتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والفكرية‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬من‭ ‬التسامح،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬للرومان‭ ‬والعرب‭ ‬والمسلمين‭.‬

ويطرح‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحديث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬أولها‭ ‬تتعلق‭ ‬بالسياق‭ ‬التاريخي‭ ‬للمفهوم،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬ترجمة‭ ‬كلمة‭ ‬‭(‬tolérance‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬تسامح،‭ ‬ليس‭ ‬بالمعنى‭ ‬القاموسي،‭ ‬وإنما‭ ‬بالمعنى‭ ‬الدلالي‭ ‬فهل‭ ‬هنالك‭ ‬تكافؤ‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬بين‭ ‬اللفظين؟‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬التسامح‭ ‬وليد‭ ‬حركة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬الأوربي،‭ ‬فكيف‭ ‬اهتم‭ ‬الفكر‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحديث‭ ‬أيضا‭ ‬بقضية‭ ‬التسامح؟‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬استخراج‭ ‬أوجه‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬الاصطلاحين‭ ‬الأوربي‭ ‬والإسلامي؟‭ ‬إننا‭ ‬نجد‭ ‬عندهما‭ ‬مثلا‭ ‬نفس‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الأصول‭ ‬الأولى،‭ ‬ونبذ‭ ‬الوسائط،‭ ‬أي‭ ‬تخطي‭ ‬التفسير‭ ‬القائم،‭ ‬وتجاوز‭ ‬للفرق‭ ‬والمذاهب‭ ‬واتخاذ‭: ‬اموقع‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬النص‭ - ‬الأصل،‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التغير‭ ‬وتدبيرهب‭. ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العدو‭ ‬المشترك‭ ‬بينهما‭ ‬هو‭ ‬الشعوذة‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬عدم‭ ‬الانسياق‭ ‬وراء‭ ‬التشابهات‭ ‬والمماثلات،‭ ‬لأن‭ ‬هنالك‭ ‬اختلافات‭ ‬كبيرة‭ ‬بينهما،‭ ‬أقلها‭ ‬الوضع‭ ‬التاريخي،‭ ‬فالحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬الإسلامية‭ ‬كانت‭ ‬تواجه‭ ‬وضعا‭ ‬مضاعفا‭ ‬أو‭ ‬مزدوجا،‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬العقيدة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدفاع‭ ‬عنهما‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار،‭ ‬فبأي‭ ‬معنى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الإسلامي؟‭ ‬

إن‭ ‬الموضوعية‭ ‬تفرض‭ ‬علينا،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نحلل‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬أن‭ ‬نتقدم‭ ‬بخطوة‭ ‬منهجية‭ ‬أساسية،‭ ‬وذلك‭ ‬بغرض‭: ‬اتحاشي‭ - ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭- ‬المغالطات‭ ‬التاريخية‭ ‬السهلة‭ ‬والمبالغات‭ ‬التبجيلية‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬المسلمون‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬التصورات‭ ‬الاتهامية‭ ‬والاحتقارية‭ ‬الغربيةب‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك،‭ ‬وجب‭ ‬القيام‭ ‬بخطوات‭ ‬منهجية‭ ‬أساسية‭ ‬منها‭:‬

1-‭ ‬معرفة‭ ‬كيفية‭ ‬استخدام‭ ‬مصطلح‭ ‬التسامح‭.‬

2‭ - ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬والوسط‭ ‬الإسلامي‭ ‬والفكر‭ ‬الإسلامي‭.‬

3-‭ ‬دمج‭ ‬وتحليل‭ ‬كل‭ ‬حالة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬معرفة‭ ‬واسعة‭ ‬ذات‭ ‬أبعاد‭ ‬فلسفية‭. ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬سنحاول‭ ‬مقاربة‭ ‬نصوص‭ ‬الإمام‭ ‬عبدالحميد‭ ‬بن‭ ‬باديس،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الفهم‭ ‬العام‭ ‬للمسألة،‭ ‬نحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬المركزي‭: ‬ما‭ ‬مفهوم‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬للتسامح؟‭ ‬وما‭ ‬الممارسات‭ ‬التي‭ ‬تبين‭ ‬تسامحه؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬متعصبا‭ ‬أم‭ ‬متسامحا؟‭ ‬وما‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬المتعصبين،‭ ‬ومن‭ ‬المختلف‭ ‬عنه‭ ‬دينيا‭ ‬وعرقيا؟‭ ‬وهل‭ ‬ممارساته‭ ‬ونصوصه‭ ‬تسمح‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬للتسامح؟‭ ‬

 

ثانيا‭: ‬في‭ ‬التجليات

يتعين‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نبين‭ ‬بداية‭ ‬قاعدة‭ ‬منهجية‭ ‬وهي‭ ‬عدم‭ ‬تطويع‭ ‬ولي‭ ‬نصوص‭ ‬الإمام‭ ‬المصلح‭ ‬عبدالحميد‭ ‬بن‭ ‬باديس‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ظرف‭ ‬ومناسبة‭ ‬وسياق‭ ‬وسياسة‭ ‬ونداء،‭ ‬وإنما‭ ‬يجب‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬نصوصه‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬التاريخي‭ ‬وكليتها،‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الإسقاط‭ ‬والاستغلال‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الذي‭ ‬عانى‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬سنة،‭ ‬هذا‭ ‬احتياط‭ ‬منهجي‭ ‬ضروري‭ ‬في‭ ‬نظرنا‭.‬

وعملا‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬إجابة‭ ‬أولية‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬يتعين‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نسائل‭ ‬مفهوم‭ ‬الإسلام‭ ‬عند‭ ‬عبدالحميد‭ ‬بن‭ ‬باديس،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إليه؟‭ ‬يميز‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬بين‭ ‬شكلين‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الإسلام،‭ ‬إسلام‭ ‬وراثي‭ ‬وإسلام‭ ‬ذاتي‭. ‬أما‭ ‬الإسلام‭ ‬الوراثي‭ ‬فهو‭ ‬إسلام‭: ‬اتقليد،‭ ‬لا‭ ‬نظر‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬تفكير،‭ ‬إسلام‭ ‬العوام،‭ ‬حفظ‭ ‬للأمم‭ ‬الضعيفة‭ ‬شخصيتها‭ ‬ولغتها،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬ينهض‭ ‬بالأمم،‭ ‬لأن‭ ‬الأمم‭ ‬تنهض‭ ‬بالتفكير‭ ‬والنظرب‭. ‬إنه‭ ‬إسلام‭ ‬الزوايا،‭ ‬إسلام‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬جانبا‭ ‬إيجابيا‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬الشخصية،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬القيام‭ ‬بالنهضة،‭ ‬لأن‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بهذا‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي،‭ ‬الإسلام‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬القواعد‭ ‬والمؤسس‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والنظر،‭ ‬إسلام‭ ‬مشروط‭ ‬بالتعلم‭ ‬والعلم‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬كذلك‭ ‬فهو‭ ‬دين‭ ‬الإنسانية‭ ‬ويحب‭ ‬الإنسانية‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬إمكانية‭ ‬لرفض‭ ‬التماثل‭ ‬والاندماج‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التميز‭ ‬والاختلاف،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي‭ ‬عنصر‭ ‬للاختلاف‭ ‬وللحضور‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يتسم‭ ‬بالاضطراب‭ ‬والصراع‭ ‬وتحكمه‭ ‬علاقات‭ ‬القوى‭ ‬والتغلب‭. ‬

يتميز‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بالدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الأخوة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬المسلمين‭ ‬وإنه‭ ‬يذكر‭ ‬بالأخوة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬أجمعين‭. ‬ويساوي‭ ‬في‭ ‬الكرامة‭ ‬البشرية‭ ‬والحقوق‭ ‬الإنسانية‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الأجناس‭ ‬والألوان‭. ‬ويمجد‭ ‬العقل‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬على‭ ‬التفكير‭. ‬وينشر‭ ‬دعوته‭ ‬بالحجة‭ ‬والإقناع‭ ‬لا‭ ‬بالحيل‭ ‬والإكراه‭. ‬ويترك‭ ‬لأهل‭ ‬كل‭ ‬دين‭ ‬دينهم‭ ‬يفهمونه‭ ‬ويطبقونه‭ ‬كما‭ ‬يشاءون‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬النتائج‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفهم‭ ‬الجديد‭ ‬للإسلام،‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬العيش‭ ‬وفق‭ ‬مستلزمات‭ ‬العصر‭. ‬يقول‭: ‬احافظ‭ ‬على‭ ‬حياتك،‭ ‬ولا‭ ‬حياة‭ ‬لك‭ ‬إلا‭ ‬بحياة‭ ‬قومك‭ ‬ووطنك‭ ‬ودينك‭ ‬ولغتك‭ ‬وجميل‭ ‬عاداتك،‭ ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬الحياة‭ ‬لهذا‭ ‬كله،‭ ‬فكن‭ ‬ابن‭ ‬وقتك‭ ‬تسير‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬أنت‭ ‬فيه‭ ‬بما‭ ‬يناسبه‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬الحياة‭ ‬وطرق‭ ‬المعاشرة‭ ‬والتعامل،‭ ‬كن‭ ‬عصريا‭ ‬في‭ ‬فكرك‭ ‬وفي‭ ‬عملك‭ ‬وفي‭ ‬تجارتك‭ ‬وفي‭ ‬صناعتك‭ ‬وفي‭ ‬فلاحتك‭ ‬وفي‭ ‬تمدنك‭ ‬ورقيك،‭ ‬كن‭ ‬صادقا‭ ‬في‭ ‬معاملاتك‭ ‬بقولك‭ ‬وفعلكب‭. ‬ولكي‭ ‬يكون‭ ‬المسلم‭ ‬معاصرا‭ ‬فإن‭ ‬الشرط‭ ‬الأولي‭ ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬الإقرار‭ ‬والعيش‭ ‬بحرية‭ ‬التي‭ ‬يصفها‭ ‬بقوله‭: ‬احق‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬كحقه‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬ومقدار‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬هو‭ ‬مقدار‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬حرية،‭ ‬المتعدي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬حريته‭ - ‬ك‭ - ‬المتعدي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وكما‭ ‬جعل‭ ‬الله‭ ‬للحياة‭ ‬أسبابها‭ ‬وآفاتها،‭ ‬جعل‭ ‬للحرية‭ ‬أسبابها‭ ‬وآفاتها،‭ ‬ومن‭ ‬سنة‭ ‬الله‭ ‬الماضية‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينعم‭ ‬بواحدة‭ ‬منهما‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬تمسك‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬وتجنب‭ ‬وقاوم‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬آفاتب‭. ‬

ممارسة‭ ‬الحرية‭ ‬تفترض‭ ‬معرفة‭ ‬أنها‭ ‬تقوم‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬وبين‭ ‬الآخر،‭ ‬وأنها‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬مختلفة‭. ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬قيمة‭ ‬يضيفها‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬لهذا‭ ‬التصور‭ ‬هو‭ ‬إقراره‭ ‬بمبدأ‭ ‬الاختلاف‭ ‬قاعدة‭ ‬وقانـــونا‭ ‬للتعامل‭ ‬والممارسة،‭ ‬وخصه‭ ‬بمقال‭ ‬كــامل‭ ‬جاء‭ ‬تحت‭ ‬عــنوان‭: ‬نظر‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬المسلمين‭ ‬ونظر‭ ‬غيرهم‭ ‬إليهم‭. ‬ودليله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬قد‭ ‬أقر‭ ‬للمخالفين‭ ‬أديانا‭ ‬وسماها،‭ ‬كما‭ ‬أقر‭ ‬معابدهم،‭ ‬وأكد‭ ‬على‭ ‬وجوب‭ ‬احترامها‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬خلص‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬عام‭ ‬وأساسي‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬قد‭ ‬أبقى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬كيان‭ ‬ديني‭ ‬وطالب‭ ‬بضرورة‭ ‬احترامه‭. ‬وعليه‭ ‬فإن‭ ‬الإسلام‭ ‬اربى‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬التسامح‭ ‬وكون‭ ‬نظرهم‭ ‬لغيرهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الملل،‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬تلك‭ ‬الملل‭ ‬إلا‭ ‬شيئا‭ ‬قد‭ ‬قضاه‭ ‬الله‭ ‬واقتضته‭ ‬حكمته‭ ‬لعمارة‭ ‬هذه‭ ‬الدار‭ ‬وتلك‭ ‬الدار،‭ ‬وظهور‭ ‬آثار‭ ‬عدله‭ ‬وفضله‭ ‬وإحسانه‭ ‬ورحمته،‭ ‬فسلمت‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬الحقد‭ ‬الديني‭ ‬الممقوت‭ ‬والتعصب‭ ‬المذموم‭ ‬وجرت‭ ‬معاملتهم‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬قوة‭ ‬المسلمين‭ ‬وأيام‭ ‬ضعفهم‭ ‬على‭ ‬سنن‭ ‬التسامح‭ ‬والاحترام،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬وقائع‭ ‬نادرة‭ ‬جدا‭ ‬كانت‭ ‬أيام‭ ‬ضعف‭ ‬المسلمين‭ ‬وطغيان‭ ‬غيرهم‭ ‬عليهم‭ ‬فانتقموا‭ ‬انتقام‭ ‬المظلوم‭ ‬المهان‭ ‬لا‭ ‬انتقام‭ ‬الحقود‭ ‬المتعصبب‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬حق‭ ‬الحرية‭ ‬والاختلاف‭ ‬يمارس‭ ‬داخل‭ ‬مجتمعات‭ ‬وبلدان‭ ‬وأوطان،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬نتعرف‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬سكن‭ ‬الإنسان‭ ‬ومكانه‭ ‬وفضاؤه‭ ‬وفيه‭ ‬يحقق‭ ‬علاقاته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السلمية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التسامح‭ ‬والحرية‭ ‬والاختلاف،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬متوقف‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬ابن‭ ‬باديس،‭ ‬على‭ ‬نوعية‭ ‬ومفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬نحمله،‭ ‬وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الشوفينية‭ ‬والتطرف،‭ ‬يقسم‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬الأوطان‭ ‬الصغيرة‭ ‬والأوطان‭ ‬الكبيرة‭. ‬

إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي‭ ‬والوطن‭ ‬والتقدم‭ ‬والحرية‭ ‬والاختلاف‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬بخطاب‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬الحجة‭ ‬والحكمة‭ ‬والبيان،‭ ‬مستلهما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الآية‭ ‬القرآنية‭: ‬‮«‬ادع‭ ‬إلى‭ ‬سبيل‭ ‬ربك‭ ‬بالحكمة‭ ‬والموعظة‭ ‬الحسنة‭ ‬وجادلهم‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‮»‬،‭ ‬مستخلصا‭ ‬منها‭ ‬قواعد‭ ‬أخلاقية‭ ‬للتعامل‭ ‬والتخاطب‭ ‬والدعوة‭. ‬ولا‭ ‬نبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلنا‭ ‬أنه‭ ‬استخرج‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بأخلاق‭ ‬الحوار‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يلخصه‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يبين‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬أو‭ ‬التعصب‭ ‬والاعتدال‭ ‬أو‭ ‬التطرف‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الكلمة،‭ ‬لذلك‭ ‬نجده‭ ‬يكتب‭ ‬مقالا‭ ‬خاصا‭ ‬بأخلاق‭ ‬الحوار‭ ‬جاء‭ ‬بعنوان‭: ‬القول‭ ‬الحسن‭. ‬بين‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬والعنف‭ ‬والتعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬واللاَّتسامح‭ ‬يبدأ‭ ‬أولا‭ ‬بالخطاب‭ ‬واللغة‭ ‬والحديث‭ ‬ثم‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬الفعل،‭ ‬وأن‭ ‬المدينة‭ ‬المسالمة‭ ‬المتسامحة‭ ‬تعبر‭ ‬بلغة‭ ‬مسالمة‭ ‬ومتسامحة،‭ ‬وتستبعد‭ ‬من‭ ‬قاموسها‭ ‬وحواراتها‭ ‬وأحاديثها‭ ‬اللغة‭ ‬المتشنجة‭ ‬والأساليب‭ ‬الدعائية‭ ‬المتطرفة‭ ‬والخطابات‭ ‬المحرضة،‭ ‬إنها‭ ‬تهتم‭ ‬بلغتها‭ ‬وتعبيراتها‭ ‬وأحاديثها‭ ‬السلمية‭ ‬والعنيفة‭ ‬مدعومة‭ ‬بالأخلاق‭ ‬وقوة‭ ‬القانون‭. ‬

نعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬النظري‭ ‬للتسامح‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬والقائم،‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬معين‭ ‬للإسلام‭ ‬مزود‭ ‬بنظرة‭ ‬عقلية‭ ‬نقدية،‭ ‬وقائم‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬والتقدم‭ ‬وحسن‭ ‬المخاطبة‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الممارسات‭ ‬المتسامحة‭ ‬لابن‭ ‬باديس،‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬شئنا‭ ‬قلنا‭ ‬تطبيقه‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬سلوكه‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المجال‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بتفصيل‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الممارسات‭ ‬والمواقف‭ ‬الباديسية،‭ ‬لذا‭ ‬فإننا‭ ‬سنكتفي‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬كيفية‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الحضور‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الجزائر،‭ ‬وبعض‭ ‬مواقفه‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬والاتجاهات‭ ‬الجزائرية‭. ‬فمثلا‭ ‬فرق‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬كقوة‭ ‬دولية‭ ‬وحضارية،‭ ‬وبين‭ ‬الاستعمار‭ ‬كقوة‭ ‬كولونيالية‭. ‬ونجده‭ ‬يستمد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬حججه‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ومن‭ ‬مبادئ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وقيم‭ ‬الجمهورية‭ ‬التي‭ ‬تلتقي‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬الإسلام‭. ‬كما‭ ‬رحب‭ ‬كثيرا‭ ‬بالجانب‭ ‬التقني‭ ‬والعلمي‭ ‬للحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬وإن‭ ‬أبدى‭ ‬تخوفا‭ ‬أو‭ ‬حذرا‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الغربية،‭ ‬وتحفظا‭ ‬من‭ ‬الحضور‭ ‬المسيحي‭ ‬الكنسي‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ممثلي‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬لا‭ ‬يمثلون‭ ‬الروح‭ ‬الحقيقية‭ ‬للمسيح‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمثلون‭ ‬السياسة‭ ‬الاستعمارية‭. ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬ملاحظات‭ ‬نقدية‭ ‬على‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬ولكنها‭ ‬ملاحظات‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬التعصب‭ ‬أو‭ ‬التطرف‭ ‬أوالعنف‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬العقلية‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬بين‭ ‬الأشياء،‭ ‬وتفصل‭ ‬بين‭ ‬المستويات،‭ ‬ولا‭ ‬تقوم‭ ‬بالخلط‭ ‬والجزم‭ ‬والقطع‭ ‬بغرض‭ ‬إصدار‭ ‬أحكام‭ ‬نهائية،‭ ‬تبينها‭ ‬طريقة‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الأطراف‭ ‬والاتجاهات‭ ‬الجزائرية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬خصومه‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬التصوف‭ (‬الطرقيين‭) ‬والليبراليين‭ (‬الاندماجيين‭)‬،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬نقده‭ (‬للطرقية‭) ‬فإنه‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬حسنة‭ ‬معها،‭ ‬وكان‭ ‬يزور‭ ‬الزوايا‭ ‬ويقدر‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭.  ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬للحركة‭ ‬الاندماجية،‭ ‬إذ‭ ‬ارتبط‭ ‬معها‭ ‬بعلاقات‭ ‬طيبة‭ ‬وما‭ ‬يقوله‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬عن‭ ‬فرحات‭ ‬عباس‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬مقال‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭: ‬اأنا‭ ‬فرنساب،‭ ‬ورد‭ ‬الشيخ‭ ‬عليه‭ ‬بمقال‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬كلمة‭ ‬صريحة،‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬التسامح‭. ‬يقول‭: ‬اإن‭ ‬كلمتنا‭ ‬الصريحة‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬على‭ ‬المحك،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬ظهرت‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬در‭ ‬مكنون،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬انطوت‭ ‬جوانبه‭ ‬على‭ ‬حمأ‭ ‬مسنون‭. ‬وإنا‭ ‬لنشهد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أكمل‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬رأينا‭ ‬فيهم‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬الهمة‭ ‬العالية،‭ ‬وشرف‭ ‬النفس،‭ ‬وطهارة‭ ‬الضمير،‭ ‬الأستاذ‭ ‬فرحات‭ ‬عباس‭ ‬الصيدلي‭ ‬والعضو‭ ‬البلدي‭ ‬والعمالي‭ ‬بسطيف‭ (...). ‬فالسيد‭ ‬فرحات‭ ‬عباس‭ ‬لم‭ ‬يتألم‭ ‬ولم‭ ‬يتكدر،‭ ‬وسلك‭ ‬مسلك‭ ‬رجال‭ ‬السياسة‭ ‬الذين‭ ‬يحبذون‭ ‬النقد‭ ‬وينصاعون‭ ‬لكلمة‭ ‬الحق،‭ ‬فزار‭ ‬إدارة‭ ‬الشهاب،‭ ‬وأكد‭ ‬لها‭ ‬تقديره‭ ‬لجهودها،‭ ‬وجرت‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬صاحب‭ ‬الشهاب‭ ‬محادثة‭ ‬دلت‭ ‬على‭ ‬سمو‭ ‬أدبه‭ ‬وعلو‭ ‬كعبه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬والتفكيرب‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬انتماء‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬إلى‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي‭ ‬فإنه‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المدارس‭ ‬الفقهية،‭ ‬وساند‭ ‬اقتراح‭ ‬مصر‭ ‬بتوحيد‭ ‬التشريع‭ ‬الإسلامي‭. ‬كما‭ ‬تعاون‭ ‬مع‭ ‬الإباضية‭ ‬وشارك‭ ‬أعلامهم‭ ‬في‭ ‬جمعيته‭. ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬مذاهب‭ ‬وفرق‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬الاجتهاد‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الاجتهاد‭ ‬والى‭ ‬إدراك‭ ‬قيم‭ ‬التقدم‭ ‬والتطور‭ ‬والرقي،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أيضا‭ ‬كان‭ ‬موقفه‭ ‬الإيجابي‭ ‬من‭ ‬تعليم‭ ‬المرأة،‭ ‬ومن‭ ‬تجربة‭ ‬كمال‭ ‬أتاتورك،‭ ‬وتعامله‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية،‭ ‬وتعاونه‭ ‬معها‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬1936،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ولظروف‭ ‬سياسية‭ ‬معروفة‭ ‬ومفهومة‭ ‬نجد‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬يتخذ‭ ‬مواقف‭ ‬حادة،‭ ‬كموقفه‭ ‬من‭ ‬المجنس‭ ‬وهل‭ ‬تجوز‭ ‬الصلاة‭ ‬عليه‭ ‬ودفنه‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬المسلمين‭ ‬أم‭ ‬تحرم؟‭ ‬وقد‭ ‬أقر‭ ‬بتحريم‭ ‬صلاة‭ ‬الجنازة‭ ‬عليه،‭ ‬وألا‭ ‬يدفن‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬المسلمين‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الجنسية‭ ‬غير‭ ‬الدين‭ ‬وهو‭ ‬نفسه‭ ‬يفرق‭ ‬بين‭ ‬الجنسية‭ ‬السياسية‭ ‬والجنسية‭ ‬القومية،‭ ‬ولكن‭ ‬الوضع‭ ‬السياسي‭ ‬للــــجزائر‭ ‬هو‭ ‬المقــــرر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭. ‬

ولعل‭ ‬اقتناعه‭ ‬بضرورة‭ ‬الاختلاف‭ ‬واحترامه‭ ‬وإيمانه‭ ‬بالحرية‭ ‬يتأكد‭ ‬من‭ ‬موقفه‭ ‬مما‭ ‬عرفته‭ ‬قسنطينة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1934،‭ ‬وما‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬ووصفه‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬بعنوان‭: ‬فاجعة‭ ‬قسنطينة،‭ ‬وصفا‭ ‬امتد‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬وانتهى‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬اكتبنا‭ ‬هذا‭ ‬التقرير‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬كما‭ ‬شاهدناها،‭ ‬وكما‭ ‬تحققنا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بلغنا‭ ‬من‭ ‬الثقات‭ ‬عندنا،‭ ‬وإننا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نأسف‭ ‬ونألم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يصيب‭ ‬الإنسان‭ ‬وعلى‭ ‬أن‭ ‬تجري‭ ‬هذه‭ ‬الحوادث‭ ‬بين‭ ‬عنصرين‭ ‬ساميين‭ ‬إبراهيميين‭ ‬عاشا‭ ‬قرونا‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬واحد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشهدا‭ ‬مثلها‭ ‬ونسأل‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أن‭ ‬يبطل‭ ‬كيد‭ ‬الظالمين،‭ ‬ويرد‭ ‬شر‭ ‬المعتدين‭ ‬عن‭ ‬الخلق‭ ‬أجمعين‭ ‬وأن‭ ‬يرحم‭ ‬المستضعفين‭ ‬وينصر‭ ‬المظلومين‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬العالمينب‭. ‬إنها‭ ‬أيام‭ ‬الفاجعة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬بأحداث‭ ‬اليهود‭ ‬التي‭ ‬وقف‭ ‬فيها‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬وقفة‭ ‬تستدعي‭ ‬النظر‭ ‬والتفكير‭ ‬والتذكير،‭ ‬وذلك‭ ‬لما‭ ‬عبرت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬تسامح‭ ‬وتذكير‭ ‬بالقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أعراقها‭ ‬وعقائدها‭ ‬واتجاهاتها‭.‬

 

ثالثا‭: ‬نتائج‭ ‬أولية

إن‭ ‬الــــوظـــــائف‭ ‬المختــــلفة‭ ‬لخـطـــاب‭ ‬ابن‭ ‬باديـس‭ ‬وعلاقاته‭ ‬ورهـــانـــاته‭ ‬وحتى‭ ‬استـــراتيجـــيـــته‭ ‬الــتي‭ ‬لم‭ ‬نشر‭ ‬لـــسياقها‭ ‬التاريخي‭ ‬إلا‭ ‬إشارة‭ ‬خفيفة،‭ ‬وذلـــك‭ ‬نظرا‭ ‬للمجال‭ ‬المحــدد‭ ‬لهذه‭ ‬الـــــــــــدراسة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مسلكه‭ ‬العام‭ ‬وسيرته‭ ‬وعلاقاته‭ ‬تدعم‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬المنهجي‭ ‬الذي‭ ‬نــــقرأ‭ ‬به‭ ‬نص‭ ‬ابن‭ ‬باديس،‭ ‬ولذا‭  ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إجمالا‭: ‬

1ـ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأسبــــاب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬الثقافـــــة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الجـــــزائر‭ ‬هو‭ ‬غـــــياب‭ ‬التسامح‭ ‬ثقــــافـــة‭ ‬ومــــسلكا،‭ ‬وقلة‭ ‬المغـــــايرة‭ ‬وانعدام‭ ‬التعدد‭ ‬والاختلاف،‭ ‬وسيطرة‭ ‬الفكر‭ ‬والثــــقافة‭ ‬الأحــــادية‭ ‬والاستـــــبعادية‭ ‬وفـــــق‭ ‬تأويل‭ ‬للــــــتاريخ‭ ‬والتراث‭ ‬يحتــــكم‭ ‬في‭ ‬جوانبـــــه‭ ‬الــــعديدة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يدعم‭ ‬ويساند‭ ‬التعصب‭ ‬والتطرف‭.‬

2‭ ‬ـ‭ ‬ليس‭ ‬التسامح‭ ‬خاتما‭ ‬سحريا،‭  ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬مفتاح‭ ‬لكل‭ ‬مستغلق،‭ ‬ولكنه‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬اعتقادنا،‭ ‬بداية‭ ‬وخطوة‭ ‬أولى‭ ‬نحو‭ ‬مجتمع‭ ‬السلم‭ ‬والتعايش‭. ‬وأنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬صحيحا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬للتسامح‭ ‬مضامين‭ ‬مختلفة‭ ‬ومعالم‭ ‬غير‭ ‬محددة،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الصحيح‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬قيما‭ ‬أساسية‭ ‬وثقافة‭ ‬معينة‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬التسامح،‭ ‬ومنها‭ ‬النظرة‭ ‬العقلية‭ ‬النقدية،‭ ‬والحرية،‭ ‬واحترام‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الجوهرية‭ ‬للتسامح‭. ‬وهو‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يعتبر‭ ‬خط‭ ‬السير‭ ‬ووجهة‭ ‬السلوك‭ ‬التي‭ ‬تقتضي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تقتضي‭ ‬ترك‭ ‬الآخر‭ ‬يعبر‭ ‬بحرية‭ ‬عن‭ ‬معتقداته‭ ‬وقناعته‭ ‬وأفكاره‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شرط‭ ‬مسبق‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موافقة‭ ‬أو‭ ‬مساندة‭ ‬لأفكارنا‭ ‬وقناعتنا‭ ‬ومعتقداتنا‭ ‬وبشكل‭ ‬أخص‭ ‬التمكين‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬وسلام‭ ‬ووئام‭ ‬ووفقا‭ ‬لمبادئه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نقاسمها‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أيضا‭ ‬تظهر‭ ‬ضرورة‭ ‬الإجماع‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متعدد،‭ ‬أي‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يضمن‭ ‬عدم‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬القناعات‭ ‬والتعبير‭ ‬الحر‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬أو‭ ‬وسائله‭ ‬بل‭ ‬يفرض‭ ‬ويحتم‭ ‬إدانة‭ ‬العنف‭ ‬الكلامي‭ ‬والفيزيائي‭ ‬وجميع‭ ‬الأشكال‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬عنها‭ ‬سواء‭ ‬بأيديولوجيات‭ ‬وثوقية‭ ‬دوغماتية‭ ‬أو‭ ‬عنصرية‭ ‬متطرفة‭.‬

3‭ ‬ـ‭ ‬لقد‭ ‬بينت‭ ‬لنا‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحديثة،‭ ‬أن‭ ‬البشرية‭ ‬قد‭ ‬ناضلت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نشر‭ ‬ثقافة‭ ‬التسامح،‭ ‬وما‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والديمقراطية‭ ‬إلا‭ ‬نتيجة‭ ‬من‭ ‬النتائج‭ ‬المباشرة‭ ‬لفكرة‭ ‬التسامح‭. ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬بينا‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬الغربي‭ ‬والعربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬وخصوصا‭ ‬الجزائري،‭ ‬فلأننا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬تصورا‭ ‬وممارسة،‭ ‬يعتبر‭ ‬مساهمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬ثقافة‭ ‬التسامح‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬السلام‭ ‬والسلم‭ ‬الاجتماعيين‭.‬

4‭ ‬ـ‭ ‬إن‭ ‬ترسيخ‭ ‬قيمة‭ ‬التسامح‭ ‬يقتضي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬توافر‭ ‬شرطين‭ ‬أساسيين‭: ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬إرادة‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬التسامح،‭ ‬والثاني‭ ‬ارتباط‭ ‬هذه‭ ‬الإرادة‭ ‬الفردية‭ ‬بالإرادة‭ ‬الــسياسية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدولة‭. ‬

‭ ‬5ـ‭ ‬ضرورة‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬الحق‭ ‬والقانون‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬الحصانة‭ ‬المتساوية‭ ‬لحرية‭ ‬التعبير‭ ‬لكل‭ ‬المواطنين‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬آرائهم‭ ‬ومواقع‭ ‬الفكرية‭ ‬والعقائدية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استثناء،‭ ‬أي‭ ‬لكل‭ ‬الأديان‭ ‬والفلسفات‭ ‬والمذاهب‭.‬

6ـ‭ ‬قيام‭ ‬مجــتمع‭ ‬مدني‭ ‬متمــاسك‭ ‬ومتــقدم‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬السياسي‭ ‬والأخلاقي‭.‬

7‭ ‬ـ‭ ‬إن‭ ‬التسامح‭ ‬موقف‭ ‬حضاري‭ ‬ومدني‭ ‬فعال،‭ ‬وليس‭ ‬موقفا‭ ‬عفويا،‭ ‬فالإنسان‭ ‬يميل‭ ‬بطبعه‭ ‬وطبيعته‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬مخالفه‭ ‬ومغايره‭ ‬في‭ ‬اللون‭ ‬واللسان‭ ‬والعقيدة‭. ‬لذا‭ ‬يتطلب‭ ‬التسامح‭ ‬تربية‭ ‬وتكوينا‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬مع‭ ‬الذي‭ ‬يخالفنا‭ ‬ويكرهنا‭ ‬ويختلف‭ ‬معنا،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ضرورة‭ ‬تعليم‭ ‬التسامح‭ ‬وقيمه‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬التربوية،‭ ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬معلما‭ ‬لقيم‭ ‬التسامح‭.‬

8‭ ‬ـ‭ ‬إن‭ ‬التسامح‭ ‬ليس‭ ‬قيمة‭ ‬وموقفا‭ ‬بل‭ ‬منظور‭ ‬متكاملا‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬ابن‭ ‬باديس،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمصلحين،‭ ‬ويجد‭ ‬قاعدته‭ ‬النظرية‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الإسلام‭ ‬الذاتي‭ ‬وقيمه‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬الأخذ‭ ‬بالعقل‭ ‬والتقدم‭ ‬والحرية‭ ‬والاختلاف‭ ‬والإنسانية،‭ ‬ومسلك‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬صاحبه‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬سواء‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يماثله‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والجنس‭ ‬واللغة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يغايره،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬التسامح‭ ‬هو‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ثقافة‭ ‬واقتناع‭ ‬ومسلك‭.‬

9‭ ‬ـ‭ ‬إن‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متسامح‭ ‬هو‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يقبل‭ ‬النقد‭ ‬ويوفر‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير،‭ ‬بحيث‭ ‬يحق‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬بحرية‭ ‬عن‭ ‬فكره‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفرضه‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التسامح‭ ‬يفترض‭ ‬الحذر‭ ‬والفكر‭ ‬النقدي،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬العنصرية‭ ‬والتعصب‭ ‬والعنف،‭ ‬فمنطق‭ ‬التسامح‭ ‬هو‭ ‬المساواة‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬والأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬والسلم‭ ‬والاعتراف‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ .