ميخائيل نعيمة.. ناسِكُ الكَلِمات

ميخائيل نعيمة.. ناسِكُ الكَلِمات

قبل‭ ‬رحيل‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬بشهور‭ ‬قليلة‭ ‬صور‭ ‬له‭ ‬أحد‭ ‬التلفزيونات‭ ‬العربية‭ ‬برنامجًا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬دفاتر‭ ‬الأيام‮»‬‭ ‬استعرضوا‭ ‬فيه‭ ‬معه‭ ‬مراحل‭ ‬حياته‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬حتى‭ ‬يوم‭ ‬التصوير،‭ ‬وقد‭ ‬قدر‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬ذلك‭ ‬البرنامج‭ ‬يومها‭ ‬وأتابع‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬الصغيرة‭ ‬شيخا‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬إتمام‭ ‬قرن‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬وهو‭ ‬يتمشى‭ ‬بين‭ ‬منحدرات‭ ‬ومرتفعات،‭ ‬وكأنه‭ ‬يلخص‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التتابع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الصعود‭ ‬والهبوط‭ ‬رحلته‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

وُلد‭ ‬ميخائيل‭ ‬يوسف‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬بسكنتا‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬١٨٨٩م،‭ ‬وفيها‭ ‬بدأ‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬تعليمه،‭ ‬حيث‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬روسية‭ ‬بلبنان،‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬ليتابع‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬المعلمين‭ ‬الروسية‭ ‬بالناصرة،‭ ‬ومن‭ ‬فلسطين‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬ليتابع‭ ‬تعليمه‭ ‬الجامعي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جامعاتها،‭ ‬حيث‭ ‬قضى‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬اطلع‭ ‬أثناءها‭ ‬على‭ ‬عيون‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي،‭ ‬واكتشف‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬مواهبه‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬إعجابه‭ ‬بذلك‭ ‬الأدب‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬١٩١١‭ ‬حتى‭ ‬شد‭ ‬الرحال‭ ‬مجددًا‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬ليدرس‭ ‬الحقوق‭ ‬والآداب‭. ‬وفيها‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬الأمريكية‭ ‬وعمل‭ ‬جنديا‭ ‬محاربا‭ ‬لمصلحة‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬العام‭ ‬١٩١٨م‭. ‬لكن‭ ‬أمر‭ ‬القتال‭ ‬لم‭ ‬يرق‭ ‬له‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬انفتاحه‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬وتجاربه‭ ‬الأولية‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬والنقد‭ ‬أيضا‭. ‬ولهذا‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬حانت‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬الالتحاق‭ ‬بعمل‭ ‬جديد‭ ‬حتى‭ ‬استغلها،‭ ‬فعمل‭ ‬بوظيفة‭ ‬بسيطة‭ ‬في‭ ‬متجر‭ ‬نيويوركي،‭ ‬وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬انضم‭ ‬للرابطة‭ ‬القلمية،‭ ‬وهي‭ ‬رابطة‭ ‬للأدباء‭ ‬العرب‭ ‬وخصوصا‭ ‬اللبنانيين‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬من‭ ‬المؤسسين‭ ‬لهذه‭ ‬الرابطة‭ ‬وأصبح‭ ‬نائبا‭ ‬لرئيسها‭ ‬وهو‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭. ‬

كتب‭ ‬نعيمة‭ ‬أهم‭ ‬مقالاته‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬ونشرها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المطبوعات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المهجر،‭ ‬كما‭ ‬أصدر‭ ‬كتابه‭ ‬النقدي‭ ‬الشهير‭ ‬االغربالب،‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬بعض‭ ‬كتبه‭ ‬المبكرة‭ ‬الأخرى‭ ‬ومنها‭ ‬مسرحية‭ ‬االآباء‭ ‬والبنونب‭ ‬ورواية‭ ‬القاءب‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬شهرة‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬كأديب‭ ‬موسوعي‭ ‬النزعة‭ ‬قد‭ ‬تعدت‭ ‬حدود‭ ‬وطنه‭ ‬الجديد‭ ‬ووصلت‭ ‬أصداؤها‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬الأول‭ ‬لبنان‭ ‬وبقية‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليلبي‭ ‬نوازع‭ ‬الحنين‭ ‬الساكنة‭ ‬بين‭ ‬حناياه‭ ‬تجاه‭ ‬كهف‭ ‬الشخروب‭ ‬في‭ ‬بسكنتا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يقضي‭ ‬طفولته‭ ‬يلعب‭ ‬مع‭ ‬أقرانه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الكهف‭. ‬

عاد‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬اسمًا‭ ‬علمًا‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬آنذاك‭ ‬إلى‭ ‬بسكنتا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1932م‭ ‬واتخذ‭ ‬منها‭ ‬مقره‭ ‬الأفضل‭ ‬للقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬وقبلهما‭ ‬التأمل،‭ ‬والذي‭ ‬اشتهر‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬بلدته‭ ‬وانعكس‭ ‬على‭ ‬جل‭ ‬كتاباته‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬حتى‭ ‬لقّب‭ ‬بـاناسك‭ ‬الشخروبب‭. ‬وفي‭ ‬نهايات‭ ‬عمره‭ ‬بدا‭ ‬نعيمة‭ ‬متنسكا‭ ‬حقيقيا‭ ‬في‭ ‬محراب‭ ‬الكلمات‭  ‬يوزعها‭ ‬في‭ ‬أجساد‭ ‬الكتب‭.‬

وقد‭ ‬بقي‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الكهف‭ ‬عازفا‭ ‬عن‭ ‬الزواج،‭ ‬مكتفيا‭ ‬بمؤانسة‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الشخروب‭ ‬حتى‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬١٩٨٨م،‭ ‬تاركا‭ ‬وراءه‭ ‬عددًا‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬أدبية‭ ‬مختلفة‭ ‬مثل‭ ‬الشعر‭ ‬والنقد‭ ‬والرواية‭ ‬والمسرحية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬أيضًا‭.‬

ومن‭ ‬أشهر‭ ‬العناوين‭ ‬التي‭ ‬أضافها‭ ‬ناسك‭ ‬الشخروب‭ ‬للمكتبة‭ ‬العربية‭: ‬سبعون،‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬مذكرات‭ ‬الأرقش‭.  

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬كتب‭ ‬ميخائيل‭ ‬كتبها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬فإنه‭ ‬كتب‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬اهمس‭ ‬الجفونب‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬واستعان‭ ‬لاحقا‭ ‬بمعرب‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬طبع‭ ‬مرات‭ ‬كثيرة،‭ ‬كما‭ ‬أصدر‭ ‬بعض‭ ‬العناوين‭ ‬القليلة‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية‭. ‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬ونقاد‭ ‬تجربته‭ ‬اعتبروا‭ ‬كتابه‭ ‬النقدي‭ ‬االغربالب‭ ‬أكثر‭ ‬كتبه‭ ‬نضجا‭ ‬وأهمية،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتجاهل‭ ‬كتابيه‭ ‬الروحيين‭ ‬ازاد‭ ‬المعادب‭ ‬وامردادب،‭ ‬اللذين‭ ‬لخص‭ ‬فيهما‭ ‬نعيمة‭ ‬خلاصة‭ ‬فلسفته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ووصاياه‭ ‬نحو‭ ‬مجتمع‭ ‬بشري‭ ‬أفضل‭ ‬وأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬ماديات‭ ‬الحياة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعزيز‭ ‬القوى‭ ‬الروحية‭ ‬للكائن‭ ‬البشري،‭ ‬وهي‭ ‬وصايا‭ ‬تجلت‭ ‬صورها‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬نعيمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬باهتمام‭ ‬نقدي‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النقاد‭ ‬العرب،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القراء،‭ ‬ربما‭ ‬لاتجاهها‭ ‬الفلسفي‭ ‬أو‭ ‬لقلتها‭ ‬مقارنة‭ ‬بمجمل‭ ‬إنتاجه‭.‬

وقد‭ ‬عاش‭ ‬نعيمة‭ ‬قرنا‭ ‬إلا‭ ‬سنة،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يسجل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬القرن‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬سوى‭ ‬السبعين‭ ‬عاما‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬أصدرها‭ ‬بعنوان‭ ‬اسبعونب،‭ ‬وتفرغ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬لكتابات‭ ‬وكتب‭ ‬أخرى،‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬تعريبه‭ ‬لكتاب‭ ‬صديقه‭ ‬الشهير‭ ‬جبران‭ ‬االنبيب،‭ ‬والذي‭ ‬صدر‭ ‬بتعريب‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬١٩٨١م،‭ ‬فلم‭ ‬تحظ‭ ‬تلك‭ ‬النسخة‭ ‬بالرواج‭ ‬والشهرة‭ ‬المرجوين،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬متأخرة‭ ‬كثيرا‭ ‬وبعد‭ ‬انتشار‭ ‬ترجمات‭ ‬عربية‭ ‬متعددة‭ ‬لذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬سبقت‭ ‬نسخة‭ ‬نعيمة‭ ‬بسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬من‭ ‬خصوصية‭ ‬تلك‭ ‬الترجمة‭ ‬المتكئة‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬وثيقة‭ ‬وصداقة‭ ‬طويلة‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين‭ ‬المختلفين‭ ‬جبران‭ ‬ونعيمة‭ .