سعـود السـنـعـوســي: كتبت «ساق البامبو» قاصدًا أن أسبب الوجع لمن يقرأ!

لأسباب عديدة شعرت بسعادة غامرة حين أُعلن فوز رواية ساق البامبو للكاتب الكويتي سعود السنعوسي بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، بينها أنني أول من كتب عن هذه الرواية، وبحماس يستحقه العمل وجدية صاحبه، وبشرّت بميلاد كاتب تنبأت - بيقين كامل - أنه سيكون قريباً فخراً للكويت، وهذا دوري، وليس لي فضل فيه؛ فموهبة سعود اللافتة كانت السبب الرئيس لكل هذا. ثم إنني سعيد أيضاً لأنني كنت أول من بشّر سعود بوصول روايته إلى القائمة الطويلة لهذه الدورة من الجائزة. وأخيراً وليس آخرا، لأنني أرى في موضوع الرواية جانبين مهمين أولهما اهتمام الرواية بتفاصيل ثقافة أخرى هي ثقافة شرق آسيا والفلبين خصوصاً، وهو - كانفتاح ضروري على الثقافات الأخرى - أمر نادر جدا في النصوص العربية المعاصرة، إضافة إلى أن الجزء الثاني من موضوع الرواية والخاص بقضية المواطنة والهوية في الكويت هو بالفعل قضية الساعة بامتياز. في هذا الحوار محاولة لولوج العالم الخاص لسعود السنعوسي ككاتب شاب، وأيضا لدخول عالم «ساق البامبو»، كيف جاءت وبماذا مرت في فترة الاختمار حتى أصبحت نصا مكتملاً ولعله من البديهي أيضاً أن القضية الرئيسة التي تعالجها الرواية وهي المواطن الكويتي والآخر سوف تكون لها مساحة كبيرة أيضا في هذا الحوار، لكن لتكن البداية من الآخر.. من الفلبين.
< لماذا الفلبين؟
- الحقيقة أنني في البداية كنت متحيرا بين اختيار الثقافة الأخرى التي ستكون موضوع الرواية، وكانت الهند هي أول ما خطر في بالي. لكني بعد تفكير اكتشفت أن ملامح الهنود، قد تضيع أحياناً بيننا، ولا تمتلك الملامح المميزة المختلفة كما هي ملامح أهل شرق آسيا، ولهذا اخترت أن يكون بطل القصة من الفلبين في نهاية الأمر.
< لماذا أحسست بضرورة السفر إلى الفلبين لمعايشة الثقافة الفلبينية، رغم أن هناك جالية كبيرة من الفلبينيين في الكويت، ومن المؤكد أنك تعرف عنها الكثير؟
- صحيح، ومن الممكن أن أجد الكثير من الفلبينيين هنا، وأن أتعرف منهم على حياتهم بشكل جيد، لكني لا يمكن أن أفهم تماما ما يحكيه عن حياته في الفلبين، سيكون أغلب ما يقوله مجهولاً بالنسبة لي، وقد لا أتمكن من فهمه بشكل كامل. وفي الوقت نفسه كنت قد قرأت رواية ابعيداً إلى هناب لإسماعيل فهد إسماعيل، وكان بها جزء يدور في سريلانكا. وأعجبتني كثيراً التفاصيل التي تناولها النص، ووصف الجبل والمنزل وكيفية زراعة وجمع أوراق الشاي، وغيرها من التفاصيل. عندما سألت إسماعيل إذا ما كانت هذه التفاصيل حصيلة القراءة فقط فقال لي إنه عاش لفترة في سريلانكا، ومن هنا كان قراري أن أسافر للفلبين. خصوصاً أن عمر البطل خوزيه مندوزا 18 عاما عاشها كلها في الفلبين، وبالتالي كان لا بد أن يكون لدي حصيلة جيدة عن البيئة التي نشأ فيها.
< واكتشفت أن هناك أهمية لهذه المعايشة؟
- بالتأكيد.. عندما ذهبت إلى هناك وجدت حياة أخرى وثقافة أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا، ومعاناة حقيقية، تجعلك تدرك أن الشخص الذي تراه أنت هنا في الكويت ويبتسم في وجهك باستمرار، غالباً له قصة معاناة كبيرة، وكل شخص وراءه حكاية. تسأل فتجد أن هناك من يأتي ليعيل عائلته أو لعلاج أمٍ مريضة بالسرطان، أو لكي يستطيع أبناؤه استكمال الدراسة، إضافة، طبعاً، لأنني مهتم بفكرة الانفتاح على الآخر، لأن هذا يتيح لك أن تتعرف على نفسك أكثر، وتعرف مكانك الحقيقي، وتدرك أن هناك أشخاصًا آخرين؛ بعضهم أفضل منك، وبعضهم أنت أفضل منهم، بل وأن هناك أناسًا يستحقون الحياة أكثر منك، ولكنهم يقومون بخدمتك، ولذلك تولَّد لدي قدر كبير جدا من احترام الآخر، وعندما أدركت كل هذه الأمور أردت أن أشرك القارئ معي فيها.
< في افتتاحية رواية «ساق البامبو» اقتطفت مقولة للبطل القومي الفلبيني «خوزيه ريزال» عن العبودية. فهل أمكن لك أن تتعرف على تراثه الأدبي والفكري ودوره في الوعي الشعبي هناك؟
- طبعا، فقد زرت المكان الذي كان يعيش فيه، كما زرت الحصن الإسباني العتيق الذي تم اعتقاله فيه ثم إعدامه. ولم أكن متحمسا في البداية لذكره في الرواية، ولكن حين تعرف أن الفلبين كانت قد استعمرت من قبل الإسبان لمدة 300 عام، وأن خوزيه ريزال (يونيو 1861 - ديسمبر 1896) استطاع أن يحرر بلاده برواية، حيث إنه تعرض للاعتقال بعد صدورها، وتم منعها، ونفذ فيه حكم بالإعدام كان سبباً لاندلاع ثورة شعبية انتهت بالتخلص من حكم الإسبان. فحين تعرف كل هذا فإنك لا بد أن تفكر في الأمر كثيراً. ولهذا تساءلت لماذا لا نقوم نحن بكتابة رواية لنثور على أعرافنا وتقاليدنا السلبية، وليس على تقاليدنا الإيجابية منها بطبيعة الحال؟
< هناك مقولة لا أذكر قائلها الآن يوضح فيها أنه عندما يكتب يبحث عن نص كان يتمنى أن يقرأه ولم يجده. فهل هذا هو شأنك مع «ساق البامبو»؟ أم أن هناك دوافع أخرى مثلت المحرض لكتابة هذه الرواية؟
- الحقيقة أن الدافع لكتابة الرواية جاء من الألم، ومن الرغبة في انتقاد الذات، ودعوة أبناء الوطن لكي يتأملوا أنفسهم في المرايا، وصحيح أن هناك بعض الروايات التي تناولت الأوضاع الاجتماعية في الكويت، لكن ليس بالطريقة الموجعة التي كنت أرى أنها ضرورية، لأنني أعتقد أن الإنسان لا يشعر بحاجته للعلاج إلا إذا شعر بالألم، وخصوصاً أنني أيضاً كنت واحداً من بين هؤلاء الذين ينتقدهم خوزيه مندوزا في الرواية. كنت أكتب النص قاصدا أن أسبب الوجع لمن يقرأ من أبناء وطني؛ محبة فيهم وفي الوطن، ورغبة في إظهار وتجسيد الصورة التي يراها علينا الآخر. ومن هنا جاء الدافع للكتابة وليس بحثاً عن نص لم أجده، خصوصا وأنا أعرف أن لدينا في الكويت مساحة كبيرة من الحرية التي يمكن أن نكتب بها في مجتمعنا. صحيح أنها ليست حرية مطلقة بطبيعة الحال، لكن هناك هامشًا كبيرًا.
< ولماذا تعتقد أن البعض ينصرف عن طرح قضايا حقيقية في الأدب بشكل عام؟ هل يعود ذلك ربما حتى لا يتهموا بأنهم يعرون المجتمع كما تم اتهامك من قبل البعض في الكويت؟
- الحقيقة أنني لا أعرف السبب الذي يجعل الكثير من الكتاب ينصرفون عن طرح قضايا حقيقية. البعض يرى أنه ليس من واجبنا أن نقوم بكشف عيوبنا. وهو بالفعل اتهام وجِّه لي من قبل البعض الذين قالوا اأنت تعري المجتمعب. والحقيقة أنني لا أحب كلمة تعري، لأن هذه السلبيات التي تضمنها النص، موجودة بالفعل، والآخر يراها بكل وضوح. أنا فقط أشير إليها. وصحيح أن بها بعض القسوة لدرجة أنني حتى لبعض الوقت كنت أفكر اهل من حقي أن أفرح بجائزة البوكر على عمل أقسو فيه على مجتمعي بالنقدب؟ أم أنه ينبغي لي أن أشعر بتأنيب الضمير؟ لكني حين أتأمل الأمر بموضوعية أقول: اوما المشكلة أن أوجع مجتمعي طالما أن الهدف نبيل في النهاية؟ب.
< هل تعتقد أن عدم رغبة المجتمعات في نقد الذات ظاهرة كويتية أم أنها ظاهرة عربية عامة؟ وأذكرك، بهذه المناسبة، أن يوسف شاهين حين قدم عملاً انتقد فيه الكثير من سلوكيات المصريين قبل وفاته بفترة في فيلم «القاهرة منورة بأهلها» هوجم بقوة من العديد من النقاد، من أصحاب النزعة الشوفينية، الذين رأوا أنه يجب ألا يرى الآخرون عوراتنا. واليوم وكما نرى جميعاً أن ما حذر منه شاهين آنذاك قد انفجر في وجه الجميع اليوم في مصر ولايزال.
- طبعا الظاهرة تخص أكثر من مجتمع عربي، لكن ظاهرة نقد الذات هي ظاهرة إنسانية، تخص الإنسان في أي مكان، حتى في الروايات العالمية هناك دائما نقد ذاتي.
< لكن النقد الذاتي في المجتمعات الغربية مسألة طبيعية، بل وجزء من الثقافة نفسها، في مجتمعات شفافة ولديها الثقة والقوة والقدرة على نقد الذات.
- نحن نادرا ما تحدث لدينا مكاشفة للذات، ربما لأننا نفضل أن نداري سوءاتنا، لكني لا أتصور أن وظيفة الأدب هي تجميل الواقع أو تزييف الحقيقة بقدر ما ينبغي أن يكون أحد أدواره أن يكون مرآة للواقع يواجه فيها الأديب أو الكاتب مجتمعه، بل ويواجه ذاته أولا.
وأعتقد أنني بالفعل خلال كتابة هذا العمل كنت أتعرف على ذاتي من خلال عين الآخر، وكان هذا شيئاً جديداً عليّ. فمنذ عدت من مطار مانيلا إلى الكويت وأنا أنظر إلى المجتمع بعيون مختلفة. فقد عدت بعيني خوزيه مندوزا، وبدأت أنتبه إلى موظف المطار، وطريقة تعامله مع المسافرين الأجانب، كما بدأت الانتباه إلى سلوكيات الأفراد في الشارع وفي البيت، وهي سلوكياتنا، أصبحت أرصد كل شيء بعين مختلفة.
< كيف تفسر غياب ثقافة نقد الذات، في المجتمع الكويتي، وربما في أغلب مجتمعاتنا العربية، ولكن بالنسبة للكويت على نحو خاص كيف تفسر الظاهرة رغم أن المواطن الكويتي يعد من أكثر مواطني المنطقة العربية، وربما المواطن الخليجي بشكل عام، من حيث القدرة على السفر بسبب الوفرة المادية والتسهيلات الخاصة بالتأشيرات. كيف لمن يسافر كثيرا ألا يملك القدرة على مقارنة ذاته بالآخر ونقد سلوكياته الذاتية؟
- أحببت هذا السؤال كثيرا في الحقيقة. وتفسيري لهذه الظاهرة هو أننا حين نسافر للسياحة، بشكل عام، فإننا نسافر بثقافتنا كأننا نضع أنفسنا داخل صناديق مغلقة نذهب ونعود فيها. فنجد أن الكويتيين، وربما الخليجيين بشكل عام، يسافرون في تجمعات، ويتحركون معا، بنفس الثقافة والذهنية، وبنفس الانشغالات التي تشغلهم في أوطانهم، دون طرح أسئلة جديدة، أو معايشة ثقافة مختلفة. ربما هم يعيشون لفترة محدودة في طبيعة مختلفة وبيئة ومكان مختلفين، لكنهم يتحركون بثقافتهم، ويتحدثون مع بعضهم البعض، بلا انفتاح على الآخر، ولا حوار أو محاولة للتعرف على الآخر.
وأنا على سبيل المــــثال حين ذهبت إلى الفلبين ثم قررت الانتقال إلى القرية التي توفي بها جد سائق السيارة الأجرة الذي كان يرافــقـــــني، ارتكــــبت أمراً مضحكاً جداً. فأول ما ذهبت إلى الفلبين بهدف التعرف على الآخر ذهبت بثقافتي. فحين سكنت في كوخ البامبو كان في جواري مجموعة من العائلات الفلبينية، وقد أصابهم الضيق الشديد من وجــــودي بينهم، لدرجة أن أحدهم جاء ليخبرني بأن السيدة العجوز في الجوار ترى أنني شخص مريب ومخيف.
فقد كانت تلك السيدة تخرج يومياً من كوخها لكي تسقي الزرع وتطعم دجاجاتها، وكنت حين أراها، وكما هو شائع هنا في الكويت، حين أرى سيدة كبيرة، أدير وجهي احتراماً لها، ولكي تتحرك ابراحتهاب. لكن هذا ليس موجوداً في الثقافة الفلبينية، فعندما كانت تلك السيدة تراني أدير وجهي عنها يصيبها ذلك بالضيق، لأنها فسرته بأنه نفور منها، وتسبب ذلك في الشعور بأنني شخص مريب.
وجاءني الفتى الذي ساعدني في الوصول إلى هناك وأهداني كلمة السر، وقال لي: قل لها صباح الخير، ببساطة.
وعندما نطقت لها بهاتين الكلمتين انقلبت الحال تمامًا، ولم تعد هي فقط من يرحب بي ويبتسم لي، بل انتقل شعورها إلى كل الموجودين، وأصبح الطعام يصلني إلى الكوخ بانتظام من الجيران، فالمشكلة أننا حين نسافر بالفعل ننتقل بثقافتنا ونمارس نفس سلوكياتنا وبلا أي انفتاح أو محاولة للتعرف على الآخر.
< وهل تعتقد أن الأدب وحده قادر على خلخلة هذه المعايير؟
- لا أعتقد أن الأدب لوحده يكفي لمثل هذا التغيير. نحتاج للكثير من الجهد من جهات عديدة لكي نتمكن من خلخلة معايير راسخة ومستقرة.
< كانت لديّ ملاحظة وأخبرتك بها عقب فوزك بالجائزة بأيام، حول أنني وجدت بعض من أرادوا الاحتفاء بالكويت في شخصك، البعض كان يريد أن يأخذ الرواية لمنطقه، والاحتفاء بمنجز كويتي، لكن بنعرة تختلف تماماً مع رسالة الرواية. هل تعتقد أن الرواية يمكن أن توجد صراعاً بين من يستقطب الآخر لمنطقه أكثر من الآخر؟
- صحيح، وأظن أن الفرد الذي يعاني من السلبيات التي أشارت لها الرواية ربما قد لا يتمنى أن يكون هذا الإنجاز قد تحقق، لأنها تكشف الكثير مما لا يريد أن يُكشف، لكني متأكد أن السلبيات هي التي ستلفت الانتباه أكثر من غيرها، فأنا لم أجد من انتبه مثلا إلى مجموعة امجــانين بوراكيب في الرواية (مجموعة شباب كويتيين يتسمون بالانفتاح والتفتح، ولديهم نوازع وطنية ورغبة في المشاركة بالعمل الوطني)، لم ينتبه لهم أحد. الكل توقف عند السلبيات. وتواردت أسئلة من قبيل: كيف تُصوّر رجل الشرطة على هذا النحو؟ كيف تُصوّر رجل الشارع هكذا؟ للأسف نحن لدينا حساسيات ونحتاج إلى أعمال أدبية أخرى تلح وتؤكد على هذه القيم حتى تتحول مسألة النقد الذاتي أمراً عادياً ومقبولاً في المجتمع الكويتي.
< الانطباع العام المعروف عن الدول التي تعيش بها أكثر من جنسية، وأكثر من ثقافة أنها عادة ما تكون مجتمعات منفتحة على الآخر، وتأخذ سمة التسامح قيمة كبيرة في المجتمع. ولعل هذا ما كان معروفا عن الكويت، حتى قبل الثروة النفطية، فقد كانت مجتمع تجارة مفتوحًا على الهند وغيرها، كما كانت تستقطب أفرادا من منطقة الخليج للعمل لها في الغوص مثلا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حين جاءت الثروة النفطية قررت الكويت أن تلعب دورا مؤثرا في المنطقة العربية يعوض صغر حجمها، من خلال شعار «الكويت.. بلد كل العرب»، وقد كان شعارا حقيقيا، له إرهاصات عدة، بينها استقطاب أهم المبدعين العرب في كافة المجالات للعمل في المجتمع الكويتي وإثراء الخبرات المحلية بالخبرات الوافدة، ثم تصدير الثقافة المترجمة والعربية بشكل يفوق إمكانات أي مجتمع عربي آخر، وإنشاء مجلة «العربي» التي ساهمت في تأكيد تواصل كل ثقافات المنطقة العربية ببعضها البعض، لكننا اليوم نرى منطقا مغايرا تماما، وهو ما تبدو تجلياته على نحو كبير في رواية «ساق البامبو».. ما الذي حدث؟
- حقيقة لا أعرف بالضبط، ليست لدي إجابة عن هذا السؤال، بمعنى أنني لا أعرف أين بدأت نقطة التغير، لكن ما أعرفه جيدا أن المجتمع الكويتي عندما احتضن الآخر كان هو أيضا مجتمع قادرا على إنتاج الثقافة، بسبب التنوع والاحتكاك بالثقافات المختلفة، حيث كان زكي طليمات موجودا في المسرح، وأحمد زكي في االعربيب، وفؤاد زكريا يقيم مشروعات فكرية كبيرة، وغيرهم من لبنان وفلسطين وسوريا. هذا بالتالي كان مفيدا للمجتمع الكويتي. ولست أعرف إذا كان للغزو تأثير مباشر في ذلك، رغم أن ظاهرة الانغلاق التدريجي هذه ربما بدأت من قبل الغزو.
فالآخر موجود، ويمثل صورة المجتمع شئنا أم أبينا. فنحن نتكلم عن نحو مليون ومائتي ألف كويتي وضعف الرقم تقريبا من الوافدين الذين يعيشون في الكويت، لكنك اليوم بالفعل تكاد لا تجد تفاعلا بين الجاليات الأجنبية وبين الكويتيين مع استثناءات بالتأكيد، لكنها لا تمثل ظاهرة.
وفي الوقت الذي يتمنى فيه الفرد أن يكون هناك دور للمثقف الكويتي في تفعيل هذا الانفتاح نجد أن بعض جمعيات النفع العام عادت للخلف، وتقوقعت على ذاتها، وأصبحت للكويتيين فقط، وهذا أمر محزن. انظر نتاجها، لقد أصبحنا نسخا مكررة من بعضنا البعض، لأنه لم يعد هناك وجود حقيقي لآخر نتأثر به ونتفاعل معه.
< أريد أن أتوقف عند لغة رواية «ساق البامبو»، وأنا بشكل شخصي أرى أنها نجحت في التخلص من الغنائية والشعرية التي كانت سمة أساسية لكثير من النصوص التي يكتبها كتاب من منطقة الخليج، والتي كثيراً ما لا تكون مناسبة للتطور الحداثي للنصوص المعاصرة. هل انتبهت أنت لذلك وبالتالي حاولت التخلص من هذه الغنائية؟
- أحسست بهذه المشكلة بالفعل بعد عدد من الصفحات الأولى، فقد استخدمت تقريباً نفس اللغة التي استخدمتها في روايتي السابقة اسجين المراياب، لكني اكتشفت أنها لا تناسب الفتى الذي لا يزيد عمره عن 20 عاما، ولا النص الذي يقدم سيرته ويفترض أنه نص مترجما عن الفلبينية، كإحدى الحيل السردية، وبالتالي وجدت أنه من غير المعقول أو المبرر أن تكون لغته غنائية أو جمالية مستغرقة في الوصف أو في الشاعرية.
لهذا كان عليّ أن أتحدى نفسي لخلق لغة أخرى بسيطة تناسب الراوي. وقد كان ذلك صعباً في البداية، ربما لأنها ليست اللغة التي أحب الكتابة بها، خصوصاً وأنني كان يجب أن أتقمص ذهنية شاب ليست لديه ثقافة كبيرة بقدر الإمكان، وأحيانا في المقاطع العاطفية سرعان ما كنت أجد نفسي أعود لاستخدام اللغة الغنائية، لكني كنت أنتبه وأعود للغة التي اخترتها للنص.
< من الشخصيات المثيرة للاهتمام في النص، بالنسبة لي على الأقل، شخصية الجد مندوزا، وابنة الخالة «ميرلا»، وأيضا الجدة الكويتية ماما غنيمة. وإذا كان من السهل تصور قدرة استلهام شخصية الجدّة لأنها تعبر عن بيئة وثقافة أنت تعرفها جيداً، لكن ماذا عن مندوزا وميرلا؟
- بالنسبة لمندوزا هو في الحقيقة شخصية مركّبة من أكثر من شخص. فقد ذهبت لعزاء الرجل الذي توفي وعشت في الكوخ الخاص به. والذي وصفت مشهد وفاته في الكنيسة كما جاء في الرواية. وهناك شاهدت شخصية مقامر ديوك، كان لافتاً بالنسبة لي، ورأيت شخصا آخر شارك في حرب فيتنام. ولمحت في كل منهم جانباً شخصيا لفت انتباهي، ومنهم جميعاً جاءت شخصية مندوزا.
أما بالنسبة لشخصية ميرلا، ففي الحقيقة هذه الشخصية كانت موجودة في ذهني حتى قبل كتابة الرواية، وكان من الممكن أن تظهر في عمل آخر عن الفتاة المثلية التي تأتي مثليتها مبرراً لأسباب بعينها: أولاً كُرها في الرجل الذي يجسده والدها، الذي تخلى عنها ولم تعرف عنه شيئاً، وتضامناً مع أمها بالتالي، ثم تأثراً من كلام أمّها التي كانت تردد أن الرجال ديوك والنساء دجاجات، وتثبيت هذه الصورة في ذهنها، مما أدى إلى نفورها من العلاقة بين الرجل والمرأة. وقد تعاطفت كثيرا مع هذه الشخصيات لذلك جاءت مقنعة، وكما يقول د.جلال أمين إن بعض الشخصيات مثل مندوزا أو الجدة قد تبدو شخصيات شريرة، لكنها كانت تدعو للتعاطف معها وتصديقها.
< شخصية «غسان»، البدون، صديق والد خوزيه راشد الطاروف. هل كان المقصود منه الإشارة إلى مظاهر أزمة الهوية؟
- هناك العديد من الشخصيات التي تجلت لديها مظاهر أزمة الهوية: فسوف تجد ذلك في شخصية خوزيه، ولدى غسان البدون، وميرلا نصف الفلبينية، نصف الأوربية التي كانت تكره ملامحها الشقراء، لأنها لم تكن تعرف والدها، وتعوض ذلك بحب ودراسة تاريخ الفلبين، نهاية بشخصية الجد مندوزا نفسه الذي تكشف الرواية أيضا أنه كان مجهول الهوية، ويعاني بالتالي من نفس الصراع. وبالتالي فالهوية في النص سؤال مفتوح باستمرار. وهناك تجليات لهذا السؤال وأيضا تناقضات، فخوزيه الذي عاش 18 عاما من حياته في الفلبين يمتلك أوراقاً ثبوتية كويتية، والذي يساعده في الحضور للكويت هو غسان البدون، الذي لا يمتلك أوراق الهوية، رغم أنه ولد وعاش في الكويت ودافع عنها في فترة الغزو، إلخ.
< من هم الكتاب الذين تأثرت بأعمالهم، أو من تجد هوى في نفسك تجاه أعمالهم الأدبية أو الفكرية بشكل عام؟
- الحقيقة أنني في موضوع القراءة لا أستطيع التوقف عند أسماء بعينها، لأنني أقرأ كل شيء يقع في يدي. لكن لو أحببت أن أذكر لك بعض الأمثلة فأنا على المستوى العالمي أهوى أعمال فيكتور هيجو بشكل كبير، وهو يمثل أيقونة بالنسبة لي. وليقل عنه من يحب أنه كلاسيكي. فعمل مثل البؤساء مثلاً، عادة ما أعود لقراءته بين الآن والآخر لأجدد حنيني للوقت الذي قرأت فيه هذا العمل للمرة الأولى، بكل ما يستدعيه ذلك، فهو عمل ملحمي يسطر جزءا مهما من التاريخ، ويفصل طبيعة حياة المهمشين في فترة تاريخية بعينها، فهذا من أكثر الكتب التي تأثرت بها.
في الوقت الراهن تستهويني أعمال الروائي الأمريكي بول أوستر، وتعجبني قدرته على أن يضرب عرض الحائط بكل ما هو متعارف عليه من قوانين الرواية لكي يقول ما يريد بالطريقة التي يرغب. كما يعجبني الكاتب البرتغالي ساراماجو الذي أظنه كاتبا عبقريا، فهو يجهدك في قراءته، ويشركك في نصه على نحو أو آخر، ولذلك من الصعب أن ينسى المرء نصا لساراماجو بكل تفاصيله لأنك تتعب وأنت تقرأه.
بالنسبة لمصر طبعا الأسماء اكثر من أن تحصى، ولا أريد أن أعددهم لأنني قرأت أغلب الكتاب المصريين وارتبطت بالعديد منهم، وخصوصا توفيق الحكيم. فهو بالنسبة لي كاتب مؤثر جدا، ربما لأني قرأته في وقت مبكر من عمري.
< وماذا عن الكتاب في الكويت؟
- طبعا هنا في الكويت تأثرت بالأستاذة ليلى العثمان، لأنني قرأت أعمالها في وقت مبكر جدا. كما تأثرت بإسماعيل فهد إسماعيل، لكني قرأته في سن كبيرة نسبيا. قرأت له السباعية أولا، فأحببتها جدا وبعدها داومت على قراءة بقية أعماله. والحقيقة أنه أثر فيّ كثيراً على الصعيدين الأدبي والإنساني، خصوصا عندما تعرفت عليه واكتشفت أنه مثل كتابته، وأنه الشخص نفسه أينما ألتقيه، وهو أيضا أفادني كثيرا، لأنني كنت أقرأ عليه النص أثناء الكتابة، وكنت من خلال تعبيرات وجهه أعرف انطباعه.
< ماذا عن مشروعاتك المستقبلية؟
- الحقيقة أنني كنت أفكر في أكثر من موضوع في الوقت نفسه، وبعض الأفكار تتضمن قدرا من التجريب لكنها تحتاج أيضا إلى الكثير من القراءة، لكن هناك موضوعا ثالثا أظنه قد توافرت فيه الدوافع نفسها التي جعلتني أتحمس لكتابة ساق البامبو.
< هل ترى أن الجائزة ستفيدك أم أنها قد تؤدي إلى تعطيلك بعض الشيء؟
- الحقيقة أنني بالجائزة وبدون الجائزة متريث بطبيعتي، وبعد الجائزة أشعر أن مساحة القراء اتسعت كثيرا، وهذه فرصة ذهبية، أن تجد لك قارئا.
وبالتالي فإما أن يكون لدي ما أقوله وبشكل جاد، وإما أن أصمت حتى لا أفقد هذا القارئ الذي أولاني ثقته .