عن السِّيَر الذاتية العربية

عن السِّيَر الذاتية العربية

«تغريدة البجعة» عنوان مقال جميل قرأته لزكي نجيب محمود قبل وفاته بأعوام عديدة. ويشير المقال إلى أحد المعتقدات الشعبية التي تقول إن البجعة عندما تشعر بدنو أجلها، فإنها تذهب إلى نهر، وتصدر أصواتاً شجية كأنها تودع بها الحياة. وقد أعجب التعبير الروائي المصري مكاوي سعيد، فجعل من «تغريدة البجعة» عنواناً
لإحدى رواياته الشهيرة التي تقوم على غروب عالم قديم، مقابل صعود عالم جديد.

كان زكي نجيب محمود يستخدم «تغريدة البجعة» بوصفها رمزاً مجازياً على حال وجود «السيرة الذاتية» والدوافع الأساسية لكتابتها، من حيث هي تاريخ مستعاد لإنسان يشعر بأن سيرته في الحياة قاربت على الانتهاء، وأنه يريد استعادة تاريخه الشخصي، متأملاً فيه، مستنبطاً لمعانيه، دالاً على نقاط قوته وضعفه، صغائره ومفاخره، انتصاراته وانكساراته، كي يبقى هذا التاريخ بعد وفاته، كأنه جدارية مسجل عليها تاريخ صاحبها، كي تقاوم الفناء من ناحية، أو تكون مصدر عبرة وعظة للآخرين من ناحية أخرى.
باختصار، تبدو كتابة السيرة الذاتية هنا كأنها تعبير رمزي عن مقاومة الموت، والتأبي عليه، وتحديه بالكتابة. ومن المؤكد أن شيئاً من ذلك كان يدور بخلد محمود درويش، حين أنجاه الله من عملية قلب مؤكدة، خرج منها منطوياً على نحو من الإحساس الداخلي بأن حياته جد قصيرة على هذه الأرض، فكتب ديوانه «جدارية» كي يسجل فيه مقاومته للموت، ورغبته في أن يقهره بالكتابة على الحجر في جدارية لا تفنى ولا تتبدد، مستغلاً في ذلك تقنيات الإبداع الشعري التي هي – في معنى من معانيها - مقاومة للموت وانتزاع للوجود من أسر العدم.
وأعترف أنني وجدت في دلالات «تغريدة البجعة» دلالات حاسمة من دلالات السيرة الذاتية، ووظيفة من وظائفها، خصوصاً أن أغلب السير الذاتية التي أعرفها هي لكتّاب دخلوا مرحلة الشيخوخة، أو أغرقوا فيها، وشعروا بالحاجة إلى استرجاع حياتهم وتأملها، متوحدين مع ذواتهم بالدرجة الأولى، قبل أن يتوحد معها كل قارئ على حدة. والحق أن معنى «الجدارية» - من هذا المنظور - يتجاوب مع معنى «المرآة» بوصفها وصفاً لوظيفة من وظائف السيرة الذاتية بالنسبة لكاتبها، حيث تتحول كتابته إلى فعل رمزي تجتلي به الذات تاريخها في مرآة وعيها، وبالنسبة لقارئها الذي يرى حياة الكاتب معروضة على صفحاتها التي تغدو مرايا يرى فيها حياة آخر هو غيره، فيزداد معرفة به، ومن ثم معرفة بنفسه. ومن المؤكد أن قراءة السيرة الذاتية بوجه عام تزيدنا معرفة بأنفسنا وبالعالم من حولنا على السواء. فالسيرة مثل عائلة الأدب الكبرى التي تنتمي إليها.

تجارب حياتية وخبرات نفسية
هي مجموعة تجارب حياتية وخبرات نفسية غير محدودة، نضيفها إلى تجاربنا وخبراتنا المحدودة، فتزداد تجاربنا وخبراتنا اتساعاً وشمولاً وعمقاً. أضف إلى ذلك ما يمكن أن تتحول إليه قراءة حياة العظماء إلى مصدر إلهام لنا في حياتنا. أنا شخصياً أمتلك شجاعة الاعتراف التي تجعلني أشهد أن قراءتي «الأيام» في صباي البعيد قد أحدثت انقلاباً حاسماً في حياتي، وجعلتني أختار الطريق الذي أصبحت عليه. لقد روعني هذا الصبي الذي وُلد في بيئة فقيرة جاهلة، ففقد بصره نتيجة الجهل، ولكنه استبدل بعمى الباصرة سلامة البصيرة، وصارع الجهل والفقر حتى هزمهما بالمعرفة التي كانت نوراً وتنويراً لبني وطنه كلهم، وإذا بهذا الفتى الريفي الأعمي يحصل على أعلى الشهادات من السوربون، ويعود إلى وطنه كي يصارح الجميع بما يصدمهم، ويثير ثائرة الكثيرين عليه. ولكنه لم يتوقف عن مواجهة تحديات المجتمع الجاهل الفقير، فيقف في صف المعذبين في الأرض، ولا يتردد في محاولات اقتلاع شجرة البؤس، ويرقى في مراكز الدولة إلى أن يصبح وزيراً، فيعلن أن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن، ولا يرحل إلا بعد أن يؤسس مستقبل الثقافة العربية على ركائز ثابتة، قطباها الدولة المدنية وثقافتها الاستنارة التي تعني العقلانية والعلم وعدالة توزيع المعرفة والثروة على السواء. هكذا أكملت قراءة كتب طه حسين كلها قبل أن أترك الثانوية العامة. وذهبت من كلية الآداب إلى قسم طه حسين، وقبل أن أمضي في دراساتي العليا حرصت على أخذ الإذن بالمضي في طريقه فأذن لي، وارتقيت في المناصب الجامعية إلى أن جلست على كرسيه رئيساً لقسم اللغة العربية، وورثت عنه أن الأستاذ الجامعي هو المثقف المهموم بالعمل العام في مجالات الثقافة؛ فقبلت أن أكون أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، ولم أنس ما أخذته عنه من الإباء الذي لابد أن يتحلى به الرجل الصادق مع نفسه، فاستقلت من منصب وزير الثقافة، حين شعرت أني لست في حكومة تليق بما تعلمته من أفكار طه حسين. 
ولا أزال ماضياً على الدرب الذي لا يمنع التلميذ من الإضافة إلى مآثر الأستاذ، بادئاً من حيث انتهى الأستاذ.
ولكن «الأيام» لطه حسين لفتت نظري إلى جانب آخر من جوانب السير الذاتية العربية، وهو الجانب الذي يمكن أن يكون مدخلاً إلى تحديد خصوصيتها. ويقيني الذي لا أزال عليه أن السير الذاتية العربية، لا تخرج في حال حضورها عن رمزية «تغريدة البجعة» أو «الجدارية» أو «المرآة». لكنها لا تتطابق في حال حضورها مع دلالة «الاعترافات» بالمعنى الغربي. وفي هذه النقطة يكمن الفارق بين نوعين من «السيرة الذاتية» لا يفارق كلاهما الحدود الواسعة للفرع الأدبي للسيرة الذاتية. ولكن يختلف كلاهما من منظور الخصوصية التي تغدو «اعترافاً» بالمعنى الغربي المسيحي في السير الذاتية الغربية و«حكياً ذاتياً» في السير الذاتية العربية. و«الاعتراف» في الدائرة الغربية يقترن بفكرة الإفضاء الحر على أريكة المحلل النفسي في المجتمعات الغربية، حيث يسترخي المريض النفسي تاركاً العنان لكل المكبوت في وعيه ولا وعيه على السواء، دون أن يخشى من افتضاح أسراره المصونة بحكم القانون الذي يفرض على المحلل النفسي الحفاظ على سرية أسرار مريضه. وهو الأمر نفسه الموجود في الاعتراف الكنسي الذي يحفظ فيه رجل (الرب) الأسرار التي تبين عنها اعترافات عباده. ولا شك أن وصول الديمقراطية والحرية التي تنعم بها المجتمعات الغربية إلى أبعد مدى، خصوصاً العريقة في تراثها الديمقراطي، خلقت مناخاً رحباً كل الرحابة في الاستجابة القرائية، أو استجابات التلقي بوجه عام، كالفنون البصرية التي تعرض الأجساد العارية أو الأفلام التي لا تخلو من الجنس. 
ولذلك يتقبل المجتمع الغربي برامج تلفزيونية مخصصة لنقد رؤساء الوزراء أو رؤساء الدولة بوجه عام. ولا جناح على السينما أو المسرح لو تضمنت المسلسلات التلفزيونية أو الأفلام بأنواعها أية مشاهد. وهو أمر مسموح به حتى في الرسم الكنسي. وفي ذاكرتي مشهد خلق آدم المرسوم على سقف الكنيسة السيستينية في روما الذي هو من صنع مايكل أنجلو بتكليف من البابا يوليوس الثاني. 

رحابة أفق القيم الاجتماعية
هذا المناخ الديني السياسي الاجتماعي الثقافي المرتبط بانعدام الأمية وارتفاع مستويات الوعي الثقافي ورحابة أفق القيم الاجتماعية، فضلاً عن أن اتساع دوائر الحرية بكل أبعادها هو المسئول عن الأفق المفتوح من استجابات تلقي الإبداع التي لا تعرفها الثقافة العربية. يكفي أن ندرك أنه لا توجد أجهزة للرقابة على الإبداع؛ فالمبدع حر وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء. ولذلك وجدت سير ذاتية مثل «يوميات لص» لجان جينيه طريقها إلى الذيوع، ولم يعترض النقاد على كتابات هنري ميللر أو غيره من الكتاب الذين تصدوا للمشكلات الجنسية على وجه صريح على نحو ما فعل د.ه. لورانس كاتب رواية «عشيق الليدي شاترلي». وقل الأمر نفسه على الروايات أو الإبداعات التي تجترئ على إنطاق المسكوت عنه دينياً، ابتداء من «فاوست» جوته وانتهاء بالروايات الإلحادية أو روايات الرفض السياسي المعاصرة. 
وظني أن انعدام مثل هذه الحرية في العالم العربي، وكثرة أجهزة الرقابة وتعدد مجالاتها، حد على نحو غير شعوري في أغلب الأحوال مساحات المسموح بالبوح به، مقابل مساحات المنهي عن النطق به من خطاب الذات، وخلق نوعاً من الرقيب الداخلي داخل الكتّاب أثناء الكتابة الإبداعية بوجه عام، وكتابة السيرة الذاتية بوجه خاص. ولذلك تقرأ «الأيام» لطه حسين و«أنا» للعقاد و«حياتي» لأحمد أمين أو أحمد لطفي السيد وعشرات غيرها من كتب السيرة الذاتية، فلن تجد فيها ما يشوب صاحبه أو يعكر نقاء ثوبه في عيني القارئ. حتى المرة الأولى التي تشجع فيها أحمد أمين على ذكر الخلاف العاصف بينه وطه حسين لم يفعل ذلك إلا تورية وعلى سبيل التجهيل، وقس على ذلك الكثرة الكاثرة من أعمال «السيرة الذاتية». ويحضرني مثال آخر خاص بعبدالرحمن بدوي الذي لم ينج أحد من حدة لسانه في الهجوم على الآخرين. ولكن دع عنك ذلك وابحث عن علاقة عبدالرحمن بدوي بالمرأة، ولماذا ظل عزباً. ونعرف من التاريخ السياسي العام أن عبدالرحمن بدوي كان عضواً في لجنة الخمسين التي كلفتها ثورة يوليو بإعداد الدستور سنة 1954. ولو سألت مذكرات 
عبدالرحمن بدوي عما حدث في هذه اللجنة من أحداث مؤثرة أو مواقف مبدئية إيجابية أو حتى سلبية أخذها الرجل؟ فلن تجد شيئاً. وسرعان ما تكتشف أن عبدالرحمن بدوي لا يذكر من حياته إلا ما يراه رافعاً من قدره في أعين قرائه حسب تصوره، وليس حسب تصور القراء. 

الانتقائية في السير الذاتية
ويعني ذلك أن درجة الانتقائية في السير الذاتية العربية درجة عالية، وأن فاعلية الذاكرة موجهة سلفاً، على نحو شعوري أو غير شعوري، لا لقول كل شيء وإنما لذكر ما يدخل في دوائر المباح، وفي صالح الذات التي تتحدث في السيرة، ومن منظور ما يضيف إلى إيجابياتها في عيني القارئ. ويبدو الأمر كما لو كان كتَّاب السيرة الذاتية يحرصون، لا شعورياً، على أن يجعلوا من أنفسهم نماذج صالحة للاحتذاء. 
ولا أستثني من السير الذاتية العربية التي أعرفها سوى سيرتين ذاتيتين. الأولى هي للويس عوض. وقد نشر قسما منها عن حياته في باريس بعنوان «مذكرات طالب بعثة» وأطلق العنان فيها لذكر تفاصيل حياته الباريسية خصوصاً في علاقته بالمرأة. وفعل الشيء نفسه في القسم الثاني الذي أصدره في سنواته الأخيرة بعنوان «أوراق العمر - سنوات التكوين». وواضح أنه كان ينوي المضي في الكتابة، ولكنه لم ينجز إلا القسم الخاص بسنوات التكوين، غير أنه كان صريحاً في الحديث عن والده، ثم عن أخيه وأسرته. ورغم أنه كان يعرف أن ما كتبه لن يرضي الأسرة، فإنه مضى في الكتابة غير عابئ برضا الراضين أو سخط الساخطين. ومع الأسف لم يسعفه العمر بكتابة بقية أوراقه، فرحل دون أن يكملها.
والمثال الثاني هو سهيل إدريس الذي أصدر الجزء الأول من سيرته الذاتية، محاولاً ممارسة الاعتراف الحر؛ فاتهمته الأسرة بالإساءة إليها، ومنعته العائلة من نشر بقية الأجزاء.
وأذكر أني قابلته في حفل ببيروت قبيل وفاته، وكانت معه رنا ابنته التي ترك لها إدارة «دار الآداب». وسألته: لماذا لا تكمل نشر سيرتك الذاتية التي أصدرت منها الجزء الأول فحسب؟ فأخبرنى بأنه فرغ من الجزء الثاني ولكن الأسرة مصرة على منع نشره، وعندما سألت رنا أفهمتني أن هذا الجزء أصعب بكثير مما أتخيل في ما يمكن أن يحدثه من مشكلات للعائلة، فسكتُّ ولم أعلق بشيء، فالأمر لا يتعلق بأسرة سهيل إدريس أو أسرة لويس عوض، وإنما بالمحرمات العديدة التي لاتزال لها تأثيرها القمعي الحاسم في قمع حرية خطاب الذات، وتوسيع دوائر المنهي عن البوح به وإبقائه في دائرة المسكوت عنه من خطاب الذات. 
وأعتقد أن هذا هو السبب في لجوء الكثير من الكتّاب إلى الكتابة عن المناطق الحرجة من حيواتهم في قالب ما اصطلح النقاد على تسميته روايات «النشأة» حيناً ورواية السيرة الذاتية في أغلب الأحيان. فعل ذلك العقاد في «سارة» رواية حبه الفاشل للفنانة الشابة في ذلك الوقت مديحة يسري التي انتقم منها بخياله الروائي الذي شفى جرحه. وفعل ذلك طه حسين في «أديب» التي كانت تصويراً لبعض هواجسه.
وكتب إبراهيم عبدالقادر المازني عن حبه في روايتيه «إبراهيم الكاتب» و«إبراهيم الثاني». ويبدو أنه تعمد لفت انتباه القارئ إلى تورطه الذاتي بإبقاء اسمه الأول في العنوان. 
أما توفيق الحكيم فقد وزّع مراحل حياته على رواياته، فكتب عن طفولته في «عودة الروح»، وعن شبابه الباريسي في «عصفور من الشرق». وكان ذلك في الدائرة التي مضت فيها أجيال عديدة، ابتداء من يحيى حقي في «قنديل أم هاشم» مروراً بخيري شلبي في موال «البيات والنوم» وانتهاء بمحمود الورداني في رواية «بيت النار». والأمثلة أكثر من أن يتسع لها المقام.

الرواية والسير الذاتية
قد نقول إن الرواية تحمل من ملامح كاتبها وحياته بعض ما يدخل في نسيجها قليلاً أو كثيراً، فمن المؤكد أن كمال عبدالجواد في الثلاثية صورة لنجيب محفوظ في شبابه، مع عدم إغفال علاقته بسلامة موسى، وأن خيري شلبي وزع حياته والشخصيات التي عرفها على رواياته ولكن هذا كله لا ينفي الفوارق الفاصلة بين أنواع الروايات. وفي الوقت نفسه، يؤكد أن لجوء الكاتب إلى قالب الرواية أو حتى المسرحية يتيح له من الجرأة والجسارة ما لا يتاح له عادة في كتابة «السيرة الذاتية» التي تظل محاصرة بالرقابة الخارجية للمجتمع والرقابة الداخلية. ولذلك تظل الرواية ملاذاً أكثر أماناً لخطاب الذات الذي يجد تحت راية الخيال الروائي آفاقاً أرحب من الحرية غير المتاحة في السيرة الذاتية.
وأعتقد أن كلامنا عن القيود التي تفرضها الثقافة على بوح الذات في السيرة، يقودنا إلى ذكورية السيرة الذاتية بأكثر من معنى. ولا أدل على ذلك من ندرة كتابة المرأة في هذا المجال بالقياس إلى كتابة الرجل، أذكر مثلاً مذكرات هدى شعراوي، وأذكر أني قرأت مذكرات الأميرة جويدان، وكانت زوجة الخديوِِ عباس حلمي الثاني المدللة، وكانت تركية متعلمة تعليماً حديثاً. وأعترف أنني استمتعت بقراءتها منذ سنوات بعيدة، لكني لا أزال أذكر كيف أنها أجبرت الخديوِِ عباس حلمي الثاني - بحكم الدلال الأنثوي - على أن يسمح لها بارتداء ثياب الرجال، وتقديمها بوصفها شاباً يعمل في معيته، وطبعاً يترتب على ذلك أن يجد هذا الشاب من يتغزل به من نساء الطبقة المحيطة بالخديوِِ. ولكني أعرف أن الأميرة جويدان التركية كانت أوربية التعليم والخصال، ولذلك سمح لها الخديوِِ عباس حلمي الثاني الأوربي النزعة بما لا يسمح لغيرها. وأنا مدين لمذكرات هذه الأميرة بتأكيد ما كان يربط بين الخديوِِ إسماعيل والإمبراطورة أوجيني من محبة بالغة؛ فالأميرة جويدان تحكي عن رعاية الخديوِِ إسماعيل للإمبراطورة المخلوعة، وكيف واصل رعايتها حتى بعد أن أزاحته القوى الأوربية عن الحكم. وبعد وفاته ظلت على إخلاصها له، ولم تتوقف عن زيارة قبره في مصر حتى وفاتها.
والحق أن مذكرات الأميرة جويدان مثال طريف في كتابة السيرة الذاتية، وتتمتع المذكرات بروح مرحة لا تخلو من نزق لن نراها في مذكرات هدى شعراوي التي تقتصر على نضالها الوطني في تحرير المرأة. وهو نضال عظيم مشرّف يضعها في مصاف رواد حركة التحرر الوطني. ولكن ماذا عن الجوانب الحياتية التي تثير الكثير من الأسئلة. لقد تزوجت هدى شعراوي من علي باشا شعراوي الذي يكبرها بأعوام عديدة تنزله منزلة والدها، الأمر الذي يثير السؤال الفضولي: هل رضيت به طوعاً أو كرهاً؟! ونعرف من التاريخ أن ابن هدى شعراوي تزوج من ممثلة في ما أذكر، فثارت عليه وأنكرت زواجه، وظلت رافضة لهذا الزواج. وهو أمر قد يجد فيه البعض تناقضاً بين الواقع والمثال. وطبعاً لا ذكر لهذا في مذكرات هدى شعراوي. وهو ما يؤكد، مرة أخرى أن مساحة المقموع من خطاب الذات في السيرة الذاتية التي تكتبها كاتبات أكبر بكثير من مساحة المقموع من خطاب السيرة التي يكتبها الرجال.
ولكن يبقى السؤال المهم عن تنويعات السيرة الذاتية وأشكالها؛ فالسيرة الذاتية لا تأخذ شكلاً واحداً ثابتاً. هناك شكل «المذكرات» التي تصل بين الإبداع والتاريخ، وإن كان الجانب الخاص بالتاريخ يغلب على الجانب الإبداعي، لكن يبقى الجانب الإبداعي مرتبطاً بما خص بها الذات عن نفسها وسط ذكر الوقائع التاريخية. وهو ما حدث مع ما كتبه إسماعيل صدقي بعنوان «مذكراتي» أو محمد حسين هيكل «مذكرات في السياسة المصرية» التي غلب الجانب التاريخي على أجزائها الثلاثة، بينما غلب الجانب الذاتي على «مذكرات الشباب». وقد يختلط الجانبان كما حدث في مذكرات سعد زغلول التي تحتاج إلى درس أدبي خاص بها، خصوصاً في اللحظات التي تتحدث فيها الذات عن خصومها السياسيين أو عيوبها؛ فقد كان سعد زغلول مدمناً للقمار، وقد اشتكى من هذا الإدمان وما سببه له من مشكلات، وذلك في حديث أقرب إلى البوح الأدبي منه إلى السرد التاريخي. وقريب من شكل المذكرات ما يدخل في باب «الشهادات» التي تذكر فيها الشخصية تجربة من التجارب التي مرّت بها في زمن سياسي بعينه، بحيث تكون الشهادة على عصر سياسي كامل. وما أكثر ما كتب عن الحقبة الناصرية وغيرها في هذا المجال!
ويدخل في هذا المجرى الفرعي ما كتبه المثقفون العرب عن ذكرياتهم في السجون التي دخلوها. ويبدو أن المعتقلات الناصرية لايزال لها النصيب الأكبر من الكتابة عن معتقلاتها. يستوي في ذلك ما كتبه اليساريون الذين سجنوا بتهمة الشيوعية، أو فصائل الإسلام التي كتبت عن معتقلاتها. والحق أن مجموع هذه الشهادات من الغنى، بحيث يستحق كتابة مستقلة ومسهبة لأني لا أعرف أحداً قد اهتم بدرس هذه الشهادات درساً يوازيها في الأهمية. وقس على ذلك ما يكتبه المبدعون عن فترات المرض الحرجة التي كان الفاصل فيها بين الموت والحياة كالشعرة. ولقد سبق لي أن كتبت عن تجربة محمود درويش التي أخرجت «جدارية محمود درويش» وكتبت عن تجربة جمال الغيطاني مع عملية القلب المفتوح في سرديته الجميلة «الخطوط الفاصلة». وفي سبيلي إلى الكتابة عن تجربته الأخيرة، ضمن ما أسماه «كتاب الألم». و«أعني الأزرق والأبيض» فإلى 
لقاء .