اكتشاف الخطأ بعد نصف قرن

اكتشاف الخطأ بعد نصف قرن

كتبتُ وحاضرت في أدب العصر الجاهليّ وحضارته، وأشرفت على رسائل وأطاريح، وناقشت أخرى، في نحو أربعين سنة؛ وقبلها درَست ذلك الأدب في المدرسة والجامعة، وكنت أقرأ، في ما أقرأ، مطلع معلّقة عنترة:
هلْ غادَرَ الشعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هلْ عرفتَ الدارَ بَعْدَ تَوهُّمِ
فأَتأثّر بما أوحاه بعض المؤلّفين المعاصرين، وهو أنّ معنى التردّم هو التهدّم، وأنّ عنترة يقصد أنّ ديار الحبيبة المهجورة ركام حجارة، وأنّ الشعراء كانوا يقفون على ذلك الركام من قَبيل الوقوف على الأطلال. وكان أولئك المؤلّفون يستدلّون بهذا البيت لتعميم عادة الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهليّ، رائين أنّ عنترة يتساءل عمّا إذا كان أحد من الشعراء لم يقف على ديار الحبيبة المهجورة، وهو استدلال مغلوط. وقد ظللتُ أتساءل، من ناحيتي، من غير نفي معنى التهدّم: وهل كان الجاهليّون، ولاسيّما البدو، يبنون بيوتهم بالحجارة حتى تكون آثارها على تلك الصورة؟ ولم أكن، فوق ذلك، أجد لُحمة بين هذا المطلع وما يليه، بل تكلّفًا في الصياغة، فتكلّفًا في الشروح. وكنت أوثر العبور به بسرعة واعتباره مُقحمًا على المعلّقة، ولاسيّما أنّ أبا عَمْرو بن العلاء يؤكّد أنّه لم يكن يعرفه حتّى سمعه من الشاعر الأمويّ أبي حِزام العُكْليّ؛ وكنت أعلن لطلاّبي بصراحة أنّني ميّال إلى أنّ المطلع هو بيت مصرّع آخر من المعلّقة، وهو قول عنترة:
يا دارَ عَبْلةَ بالجَواءِ تَكلمي
وعِمِي صباحًا دارَ عبلةَ واسْلَمي
لأنّه يوافق الجوّ الغزليّ الرقيق الذي يسود مقدّمة تلك المعلّقة.
وظلّ معنى المتهدِّم هو المعنى الوحيد الذي أعرفه، حتّى اتّصل بي، منذ أسابيع، بعض من يستشيرونني في اللغة من كتّاب ومصحّحين، وسألني: كيف نجمع كلمة رَدْم؟ فأجبته: لا أعرف لها جمعًا، وأرجّح ألاّ يكون لها جمع لأنّها مَصدر، وقلّما تُجمع المصادر؛ أمّا إذا كان لها من جمع فينبغي أن يكون أَردام للقلّة، وردوم للكثرة، مع شكّي بذلك التفريق الكمّيّ. ثم استمهلته ريثما أراجع المصادر، وكانت المفاجأة: لم أجد أحدًا من الشرّاح واللغويّين يفسّر المتردَّم في شعر عنترة بالمتهدِّم، بل كلّهم مجمعون، تقريبًا، على أنّه يعني في ذلك الشعر ترقيع الثوب البالي، وأنّ العبسيّ يريد أنّ الشعراء لم يتركوا مكانًا لم يرقعوه، أي لم يدعوا قولًا لم يقولوه، أو فنًّا لم يسلكوه؛ بل زعم الأصمعيّ أنّ هذا مَثَل. وزاد بعضهم أنّ المتردَّم صفة للكلام، يراد بها استصلاحه وإقامة التناسب فيه، وأنّ هذا يعني سبق الشعراء القدماء إلى كلّ معنى. وللتردّم معنى آخر هو الترنّم، ولذلك احتمل أحد الشرّاح كون معنى البيت أنّ الشعراء لم يتركوا شيئًا يُنشَد الشعر فيه إلاّ أنشدوه، فلم يدعوا لمُنشِد بقيّة. وأَعْتَرف بأنّني لم أعرف هذه المعاني من قبل، ومن حسن حظي أنّني لم أشرح معنى البيت لطلابي قطّ، بل أشرت بتحفّظ إلى المغزى الذي نسبه الشرّاح إليه وناقشته. ووجدت اللغويّين يجعلون للكلمة جمعًا واحدًا هو ردوم، وهذا يؤيّد رفض من رفض التفريق بين القلّة والكثرة في الجموع، لأنّ ردوم ينبغي أن تدلّ عليهما جميعًا، مع أنّها، نظريًا، من جموع الكثرة. 
إنّ ما سبق يدلّ على أنّنا كثيرًا ما نفسّر النصوص القديمة بمقتضى عادات عصرنا اللغويّة، ولاسيّما في الأمور التي تبدو من المسلّمات والبديهيّات؛ ونحن معتادون استعمال الردْم بمعنى ركام الحجارة المحطّمة المجتمعة بعد هدم بناء من الأبنيّة، أو التي نجمعها من الأبنيّة المهدومة، وأنّ بعضهم يسمّي ذلك الركام اليوم بالردميّات، وهو قريب من أحد معاني الكلمة، نعني ما يسقط من الجدار إذا انهدم. وقد نقول: ردَمَ فلانٌ الحفرةَ أي ملأَها بالرمل أو غيره، أو أعاد إلى جوفها ما أخرجه منها بالحفر. وقد يستعمل بعضهم، ولاسيّما العامّة، كلمة الردم بمعنى تمهيد الأرض غير المستوية، وهو أقرب الاستعمالات إلى معنى الاستصلاح الذي أشار إليه أحد الشرّاح.
وحقًّا أنّنا لا نسيغ تفسير أولئك، لأنّنا لا نجد علاقة منطقيّة بين الثوب البالي والشِّعر، وبين النظم والترقيع، لكنّ اختيار معنى الحجارة المتراكمة لا يقنع أيضًا، ولا يبدو أفضل من معنى الترقيع، والأمران يزيدان الشكّ في صحّة البيت. 
لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ في الاعتماد على الاستعمال المتأخّر خطرًا على النصوص المتقدّمة، فكثير من المعاني التي عبّرت عنها استعمالات الشعراء والناثرين القدماء صارت مهملة في استعمالاتنا الحديثة، أو بدت ذات خصوصيّة لم تتكرّر، كعبارة عنترة «حَلَّتْ بأَرضِ الزائرِينَ» التي يسرع معنى الزوّار إلى قارئها، وإذا هي من الزئير، وهي استعارة أريد بها معنى الأعداء، ولم نجدها إلاّ في شعر عنترة؛ وكقوله :«إذْ تَسْتَبِيكَ بِذي غُروبٍ واضحٍ»؛ والمعنى المستعمل للغُروب في اللغة الحديثة هو غياب أحد أجرام السماء، ولاسيّما الشمس، لكنّه في شعر عنترة جمع لِلغَرْب، أي الحَدّ، يعني حَدّ الأسنان؛ و«الواضح» في اللغة الحديثة هو البيّن الظاهر، وهو في شعر عنترة: الأبيض؛ ولهذا فإن الرجوع إلى الشروح ونصوص كتب اللغة ضروريّ لفهم النصوص القديمة، مع وجوب الحذر والتدقيق في ذلك، لأنّ بعض تلك الشروح والنصوص لا يبعث على الاطمئنان. لكنّ التعويل على المعاني الدارجة في أيامنا قد يجعل القديم حديثًا بلا مسوّغ. وقد وقع بعض أدعياء التحقيق في هذا الخطأ الجسيم، فجاءت الكتب التي حقّقوها خلوًا من المنهج العلميّ الدقيق، وأخرجوها من تاريخها إلى تاريخ آخر، وذلك بسبب المنحى التجاريّ الذي اتخذته أعمال النشر أحيانًا. وهم في أحسن الأحوال يعوّلون على المعاجم وحدها، وقد يصطادون أقرب معنى يجدونه فيها فيشوّهون النصوص. 
وهذا يصحّ أيضًا على الأبحاث؛ فكثير من الباحثين يستنبطون معاني نفسيّة واجتماعيّة وحضاريّة من النصوص القديمة، بفهم تلك النصوص وفق اللغة الحديثة، وإذا الإنسان الجاهليّ أو الإسلاميّ أو العبّاسيّ واحد من أبناء القرن العشرين أو الحادي والعشرين، هذا إذا لم يصبح أشبه بالإنسان الأوربيّ في حال طُبّقت عليه بعض النظريّات الغربيّة الحديثة في علم النفس والاجتماع وغيره. إنّه ما يسمى الإسقاط، أي إسقاط لغتنا وتجاربنا والدراسات التي تناولت الإنسان المعاصر في العالم العربيّ أو الغربيّ على الإنسان العربيّ القديم.
وينبغي الاعتراف، مع ذلك، بصعوبة التحرّر من العادات اللغويّة والمعطيات العلميّة الحديثة عند البحث في الأدب القديم، وبأنّ كلّ المطلوب هو الاحتياط الشديد، وتلافي الإسقاطيّة ما أمكن، لكيلا نكتشف بعد نحو الخمسين سنة أنّنا أخطأنا أو لامسنا الخطأ .