فِـقْــهُ عِمـارةِ المساجِــد

فِـقْــهُ عِمـارةِ المساجِــد

نشأ‭ ‬عن‭ ‬تعاليم‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وما‭ ‬قرره‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬من‭ ‬مبادئ،‭ ‬ما‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬فقه‭ ‬عمارة‭ ‬المساجد‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهو‭ ‬باب‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬تهيئة‭ ‬الفراغ‭ ‬المعماري‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬المسلم‭ ‬على‭ ‬الخشوع‭ ‬والرهبة،‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭. ‬لقد‭ ‬يسر‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬سبل‭ ‬الحياة،‭ ‬فالصلاة‭ ‬تجوز‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬طاهر،‭ ‬وبناء‭ ‬المساجد‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬لجمع‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬وعلى‭ ‬قلب‭ ‬رجل‭ ‬واحد‭ ‬ليذكر‭ ‬فيها‭ ‬اسمه،‭ ‬مكان‭ ‬يحميهم‭ ‬من‭ ‬التقلبات‭ ‬الجوية،‭ ‬فالجانب‭ ‬الوظيفي‭ ‬في‭ ‬تصميم‭ ‬المسجد‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬إيجاد‭ ‬الفراغ‭ ‬المناسب‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬يقيمون‭ ‬فيه‭ ‬الصلاة،‭ ‬إذن‭ ‬المسجد‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬الوظيفة‭ ‬الاسمية‭ ‬للعبادة،‭ ‬وهي‭ ‬صلاة‭ ‬الجماعة‭ ‬في‭ ‬الصلوات‭ ‬الخمس،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لصلاة‭ ‬الجمعة‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬الجامعة،‭ ‬وهو‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬بين‭ ‬جنباته‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسلامي،‭ ‬لذا‭ ‬فجدران‭ ‬المسجد‭ ‬الأربعة‭ ‬تحدد‭ ‬الحرم‭ ‬الداخلي‭ ‬له،‭ ‬الذي‭ ‬يشترط‭ ‬فيه‭ ‬الطهارة‭.‬

معنى‭ ‬كلمة‭ ‬مسجد‭:‬

قال‭ ‬سيبويه‭: ‬اوأما‭ ‬المسجد‭ ‬فإنهم‭ ‬جعلوه‭ ‬اسما‭ ‬للبيت‭ ‬ولم‭ ‬يأت‭ ‬على‭ ‬فعل،‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬الأعرابي‭: ‬مسجد‭ ‬بفتح‭ ‬الجيم‭ ‬محراب‭ ‬للبيت،‭ ‬ومسجد‭ ‬بكسر‭ ‬الجيم‭ ‬مصلى‭ ‬الجماعات‭ ‬والمساجد‭ ‬جمعهاب‭.‬

وقال‭ ‬الزركشي‭: ... ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬السجود‭ ‬أشرف‭ ‬أفعال‭ ‬الصلاة‭ ‬لقرب‭ ‬العبد‭ ‬من‭ ‬ربه‭ ‬اشتق‭ ‬اسم‭ ‬المكان‭ ‬منه‭ ‬فقيل‭: ‬مسجد،‭ ‬ولم‭ ‬يقولوا‭ ‬مركع‭ ‬ولفظه‭ ‬فتح‭ ‬أوله‭ ‬وتسكين‭ ‬ثانيه،‭ ‬وكسر‭ ‬ثالثه‭.‬

 

عناصر‭ ‬المسجد‭ ‬المعمارية‭:‬

حائط‭ ‬القبلة‭: ‬القبلة،‭ ‬هي‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬شرع‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬للمسلمين‭ ‬التوجه‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬بتحديد‭ ‬نص‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام،‭ ‬مصداقًا‭ ‬للآية‭ ‬144‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭: ‬‭{‬قَدْ‭ ‬نَرَى‭ ‬تَقَلُّبَ‭ ‬وَجْهِكَ‭ ‬فِي‭ ‬السَّمَاء‭ ‬فَلَنُوَلِّيَنَّكَ‭ ‬قِبْلَةً‭ ‬تَرْضَاهَا‭ ‬فَوَلِّ‭ ‬وَجْهَكَ‭ ‬شَطْرَ‭ ‬الْمَسْجِدِ‭ ‬الْحَرَامِ‭ ‬وَحَيْثُ‭ ‬مَا‭ ‬كُنتُمْ‭ ‬فَوَلُّواْ‭ ‬وُجُوِهَكُمْ‭ ‬شَطْرَهُ‭ }.‬

لذلك‭ ‬جعل‭ ‬الفقهاء‭ ‬الاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬القبلة‭ ‬شرطا‭ ‬لصحة‭ ‬الصلاة،‭ ‬ولأحكام‭ ‬القبلة‭ ‬آثار‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فكونها‭ ‬حقا‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬تقتضي‭ ‬توجيه‭ ‬المساجد‭ ‬وفقها‭ ‬وإعطاء‭ ‬ذلك‭ ‬التوجيه‭ ‬الأولوية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاعتبارات‭ ‬العمرانية‭ ‬الأخرى،‭ ‬مثل‭ ‬المناخ‭ ‬وهندسة‭ ‬النسيج‭ ‬الحضري‭ ‬القائم‭ ‬وغيرها،‭ ‬وتختلف‭ ‬تلك‭ ‬الآثار‭ ‬المادية‭ ‬بحسب‭ ‬الموقع‭ ‬الجغرافي‭ ‬لكل‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬القبلة،‭ ‬كما‭ ‬لأحكام‭ ‬القبلة‭ ‬أثرها‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬المعالجة‭ ‬الداخلية‭ ‬لحوائط‭ ‬القبلة‭.‬

خصص‭ ‬في‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬مكان‭ ‬للإمام‭ ‬يؤم‭ ‬منه‭ ‬المصلين‭ ‬ويستغل‭ ‬مساحة‭ ‬المسجد‭ ‬بصورة‭ ‬مثالية،‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ‬المحراب،‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬معلما‭ ‬لحائط‭ ‬القبلة‭ ‬في‭ ‬المسجد،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتبين‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

كان‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬بناء‭ ‬عليه‭ ‬تخطيط‭ ‬المسجد،‭ ‬ولو‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مشكلات‭ ‬معمارية‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬انتظام‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬واتجاه‭ ‬الطريق‭ ‬الموازية‭ ‬له،‭ ‬وقد‭ ‬ابتكر‭ ‬المعماريون‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬المملوكي‭ ‬حلولا‭ ‬عبقرية‭ ‬لهذه‭ ‬المشكلة‭.‬

ترتب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬تحديد‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة‭ ‬إحدى‭ ‬المسائل‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬المسلمين،‭ ‬فنراهم‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الأمر‭ ‬يستعينون‭ ‬بكبار‭ ‬الصحابة‭ ‬لتحديد‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬جامع‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬حين‭ ‬استعان‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الصحابة‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬عددهم‭ ‬كان‭ ‬ثمانين‭ ‬رجلا،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير‭ ‬ثمانية‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬المتبع‭ ‬لتحديد‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة‭ ‬هو‭ ‬استخدام‭ ‬إحدى‭ ‬ثلاث‭ ‬وسائل،‭ ‬هي‭:‬

أولاً‭: ‬استخدام‭ ‬البوصلة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬باسم‭ ‬ابيت‭ ‬الإبرةب‭.‬

ثانيًا‭: ‬تقليد‭ ‬محراب‭ ‬بمصر‭ ‬من‭ ‬الأمصار‭ ‬العامرة‭ ‬التي‭ ‬تكررت‭ ‬فيها‭ ‬الصلوات،‭ ‬ويعلم‭ ‬أن‭ ‬إمام‭ ‬المسلمين‭ ‬نصبه‭ ‬واجتمع‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭ ‬عليه‭ ‬وفهم‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يظن‭ ‬اجتماعهم‭ ‬على‭ ‬الخطأ‭.‬

ثالثًا‭: ‬استخدام‭ ‬الآلة‭ ‬الفلكية‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬تقابل‭ ‬البروج‭ ‬والأفلاك‭ ‬على‭ ‬أجزاء‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬الجسم‭ ‬الإنساني‭ ‬يتم‭ ‬تحديدها‭ ‬بالنسبة‭ ‬لكل‭ ‬قطر‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭.‬

وقد‭ ‬وضعت‭ ‬جداول‭ ‬تتم‭ ‬عن‭ ‬طريقها‭ ‬معرفة‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة،‭ ‬كما‭ ‬وضعت‭ ‬جداول‭ ‬أخرى‭ ‬لتحديد‭ ‬انحرافها،‭ ‬ورغبة‭ ‬في‭ ‬تسهيل‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬لجأوا‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬بالشعر‭.‬

 

المحراب‭:‬

تكلم‭ ‬علماء‭ ‬اللغة‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬امحرابب،‭ ‬واتفقوا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬عربية‭ ‬وأدرجوها‭ ‬تحت‭ ‬مادة‭ ‬حرب‭.‬

وباستقراء‭ ‬كلام‭ ‬العرب‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬المحراب‭ ‬تعني‭ ‬الغرفة‭ ‬العالية،‭ ‬ومنه‭ ‬قول‭ ‬وضاح‭ ‬اليمن‭:‬

ربة‭ ‬محراب‭ ‬إذا‭ ‬جئتها

لم‭ ‬ألقها‭ ‬أو‭ ‬أرتق‭ ‬سلما

وتأتي‭ ‬بمعنى‭ ‬المجلس،‭ ‬ومنه‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭:‬

في‭ ‬الغيل‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬العريس‭ ‬محرابا،‭ ‬أي‭ ‬المجلس‭.‬

وتأتي‭ ‬بمعنى‭ ‬المكان‭ ‬المفضل‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬قال‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭:‬

‭ ‬أو‭ ‬دمية‭ ‬عند‭ ‬راهب‭ ‬ذي‭ ‬اجتهاد‭ ‬

صورها‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬المحراب

وردت‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬مواضع،‭ ‬بأربعة‭ ‬معاني‭:‬

ـ‭ ‬صدر‭ ‬البناء‭.‬

ـ‭ ‬الغرفة‭ ‬في‭ ‬مقدم‭ ‬المعبد‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأهل‭ ‬الكتاب‭.‬

ـ‭ ‬القصر‭ ‬الملكي‭.‬

ـ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يخصص‭ ‬للملك‭ ‬دون‭ ‬سائر‭ ‬الناس‭.‬

قال‭ ‬تعالى‭:‬‭{ ‬كُلَّمَا‭ ‬دَخَلَ‭ ‬عَلَيْهَا‭ ‬زَكَرِيَّا‭ ‬الْمِحْرَابَ‭ ‬وَجَدَ‭ ‬عِندَهَا‭ ‬رِزْقا‭}‬ً،‭ ‬‮«‬‭{‬فَنَادَتْهُ‭ ‬الْمَلآئِكَةُ‭ ‬وَهُوَ‭ ‬قَائِمٌ‭ ‬يُصَلِّي‭ ‬فِي‭ ‬الْمِحْرَابِ‭}‬،‭ ‬وقال‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬فَخَرَجَ‭ ‬عَلَى‭ ‬قَوْمِهِ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمِحْرَابِ‭}‬،‭ ‬وقال‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬يَعْمَلُونَ‭ ‬لَهُ‭ ‬مَا‭ ‬يَشَاء‭ ‬مِن‭ ‬مَّحَارِيبَ‭ ‬وَتَمَاثِيلَ‭ ‬وَجِفَانٍ‭ ‬كَالْجَوَابِ‭}.‬‭ ‬والآيات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأولى‭ ‬تكتب‭ ‬دائما‭ ‬إما‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬المحراب‭ ‬وإما‭ ‬في‭ ‬أعلاه‭.‬

كلمة‭ ‬المحاريب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الاستعمالات‭ ‬تعني‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬الآتية‭:‬

القصور‭ - ‬المعابد‭ - ‬المساكن‭.‬

والمحراب‭ ‬في‭ ‬الاصطلاح‭ ‬عند‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين‭ ‬هو‭ ‬المكان‭ ‬المجوف‭ ‬داخل‭ ‬حائط‭ ‬المسجد‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬فيه‭ ‬الإمام‭ ‬للصلاة،‭ ‬وهو‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬الإمام‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتقدم‭ ‬صفوف‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الصلاة‭ ‬ليؤم‭ ‬المصلين‭ ‬وأن‭ ‬يستقبل‭ ‬القبلة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬طبيعيا‭ ‬أن‭ ‬يدل‭ ‬موضعه‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬على‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬ترادف‭ ‬لفظ‭ ‬القبلة‭ ‬مع‭ ‬لفظ‭ ‬المحراب‭.‬

المحراب‭ ‬معماريا‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬حنية‭ ‬في‭ ‬حائط‭ ‬حرم‭ ‬الصلاة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬القبلة‭ ‬االمسجد‭ ‬الحرام‭ ‬بمكة‭ ‬المكرمةب،‭ ‬ويقف‭ ‬الإمام‭ ‬في‭ ‬جوفه‭ ‬ليؤم‭ ‬المصلين،‭ ‬والمحراب‭ ‬عند‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬المملوكي‭ ‬بمصر‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭ ‬مقام‭ ‬الإمام‭.‬

تجويف‭ ‬المحراب‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نصف‭ ‬أسطوانة‭ ‬تغطيها‭ ‬نصف‭ ‬قبة‭ ‬تسمى‭ ‬اخوذةب،‭ ‬ويكتنف‭ ‬المحراب‭ ‬عادة‭ ‬عمودان،‭ ‬والجزء‭ ‬الذي‭ ‬يعلو‭ ‬تاج‭ ‬العمود‭ ‬مباشرة‭ ‬يسمى‭ ‬اصدرب،‭ ‬ويسمى‭ ‬الحائطان‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬المحراب‭ ‬اأكتاف‭ ‬المحرابب،‭ ‬أما‭ ‬قواعد‭ ‬وتيجان‭ ‬العواميد‭ ‬فتسمى‭ ‬اقواعدب،‭ ‬وفي‭ ‬أوصاف‭ ‬المحراب‭ ‬بالوثائق‭: ‬امحراب‭ ‬معقود‭ ‬بالحجر‭ ‬يكتنفه‭ ‬عمودا‭ ‬رخامب‭ ‬وامحراب‭ ‬بعمودي‭ ‬رخام‭ ‬وهو‭ ‬مرخم‭ ‬الصدر‭ ‬والخوذةب‭ ‬وامحراب‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬بايكتينب‭ ‬أي‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬بعض‭ ‬وامحراب‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬جانبيه‭ ‬عمود‭ ‬رخام‭ ‬مثمن‭ ‬بقاعدتين‭ ‬عليا‭ ‬وسفلى،‭ ‬وهما‭ ‬حاملتان‭ ‬لكتف‭ ‬المحرابب‭.‬

بروز‭ ‬المحراب‭ ‬عن‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬يوفر‭ ‬صفا‭ ‬من‭ ‬صفوف‭ ‬الصلاة‭ ‬بالمسجد،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬توسط‭ ‬المحراب‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬لكون‭ ‬الإمام‭ ‬قائد‭ ‬الصلاة،‭ ‬فيسهل‭ ‬من‭ ‬وسطية‭ ‬موقع‭ ‬المحراب‭ ‬الاستدلال‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬الإمام،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬منطقية‭ ‬موقعه‭ ‬لإمامة‭ ‬المسلمين‭.‬

أشارت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الأثرية‭ ‬الحديثة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بناء‭ ‬المحراب‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬مجوفة‭ ‬بالمسجد‭ ‬النبوي‭ ‬بالمدينة‭ ‬المنورة،‭ ‬كان‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬إنشائه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وقد‭ ‬اعتمدت‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬على‭ ‬روايتي‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬السمهودي،‭ ‬وابن‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬العمري،‭ ‬والتي‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬أن‭ ‬صحابة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬عند‭ ‬بناء‭ ‬محراب‭ ‬المسجد‭ ‬اصفوا‭ ‬النخل‭ ‬قبلة‭ ‬له،‭ ‬وجعلوا‭ ‬عضاديته‭ ‬من‭ ‬حجارةب،‭ ‬وهو‭ ‬يعني‭ ‬معماريا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لمحراب‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬عضادتان،‭ ‬أي‭ ‬كتفين‭ ‬من‭ ‬الحجر،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬المحراب‭ ‬مسدودا‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الخارجية،‭ ‬فذلك‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬دخلة‭ ‬أو‭ ‬حنية،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مجوفا‭.‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬المعماري‭ ‬للمحراب‭ ‬قد‭ ‬استقر‭ ‬تلك‭ ‬الهيئة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬تجديدات‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الخليفتين‭ ‬عمر‭ ‬وعثمان‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬حيث‭ ‬تشير‭ ‬رواية‭ ‬السمهودي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬عند‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬محراب‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬خاطب‭ ‬الصحابة‭ ‬والتابعين‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المدينة،‭ ‬بقوله‭: ‬اتعالوا‭ ‬احضروا‭ ‬بنيان‭ ‬قبلتكم،‭ ‬لا‭ ‬تقولوا‭ ‬غيَّر‭ ‬عمر‭ ‬قبلتنا،‭ ‬فجعل‭ ‬لا‭ ‬ينـزع‭ ‬حجرا‭ ‬إلا‭ ‬وضع‭ ‬مكانه‭ ‬حجراب،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬محراب‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الأمويين‭ ‬قد‭ ‬اتخذ‭ ‬الشكل‭ ‬المجوف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬المحراب‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬عثمان‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬ونظرا‭ ‬لارتفاع‭ ‬عمارة‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الأموي،‭ ‬فقد‭ ‬تطلب‭ ‬الأمر‭ ‬بناء‭ ‬طاق‭ (‬عقد‭ ‬علوي‭) ‬للمحراب،‭ ‬يعتبر‭ ‬هذا‭ ‬الطاق‭ ‬الذي‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬معقودة‭ ‬هو‭ ‬الجزء‭ ‬الأموي‭ ‬الذي‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬عمارة‭ ‬محراب‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭.‬

اختلط‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الفقهاء‭ ‬والمؤرخين‭ ‬الذين‭ ‬اعتقد‭ ‬بعضهم‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الخطأ‭ - ‬أن‭ ‬المحراب‭ ‬المجوف‭ ‬اقتبس‭ ‬من‭ ‬مبان‭ ‬دينية‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬الإسلام،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬إلى‭ ‬حيز‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬المساجد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ظهرت‭ ‬الآراء‭ ‬الفقهية‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬كراهية‭ ‬اتخاذ‭ ‬المحاريب‭ ‬وأبرزها‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬السيوطي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬اإعلام‭ ‬الأريب‭ ‬بحدوث‭ ‬بدعة‭ ‬المحاريبب‭.‬

شكل‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬والمحراب‭ ‬أهم‭ ‬معالم‭ ‬عمارة‭ ‬المساجد،‭ ‬ظهرت‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مظاهر،‭ ‬يمكن‭ ‬إجمالها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬

‭< ‬محاولة‭ ‬إبراز‭ ‬المحراب‭ ‬وتمييزه‭ ‬بحيث‭ ‬يمكن‭ ‬رؤيته‭ ‬بوضوح‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬بالمنشأة،‭ ‬ولذلك‭ ‬نراه‭ ‬غالبا‭ ‬يتوسط‭ ‬جدار‭ ‬القبلة‭ ‬فيما‭ ‬عدا‭ ‬أحوال‭ ‬قليلة‭.‬

‭< ‬الاهتمام‭ ‬بإنشائه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أدى‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬بروز‭ ‬خارجي‭ ‬لاستيعاب‭ ‬حنيته‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬قلة‭ ‬سمك‭ ‬الحائط‭.‬

‭< ‬الاهتمام‭ ‬بزخرفته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬العناصر،‭ ‬برغم‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬كراهية‭ ‬زخرفته،‭ ‬بحجة‭ ‬أنها‭ ‬تشغل‭ ‬المصلي‭ ‬بالنظر‭ ‬إليها،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬القبول‭ ‬بأن‭ ‬يترك‭ ‬المحراب‭ ‬دون‭ ‬زخرفة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تزخرف‭ ‬فيه‭ ‬الجدران،‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الاهتمام‭ ‬الخاص‭ ‬بزخرفة‭ ‬المحراب‭ ‬ينبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استخدام‭ ‬الرخام‭ ‬في‭ ‬كسوته،‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬جزيل‭ ‬الثواب‭ ‬وكريم‭ ‬المآب‭.‬

لم‭ ‬يكتف‭ ‬لإبراز‭ ‬أهمية‭ ‬المحراب‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬ظلة‭ ‬القبلة‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬الظلات‭ ‬في‭ ‬المسجد،‭ ‬وإنما‭ ‬لزيادة‭ ‬إبراز‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية‭ ‬كان‭ ‬يراعى‭ ‬عمل‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالمجاز‭ ‬القاطع‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬فقط‭ ‬بتحديد‭ ‬اتجاه‭ ‬المحراب‭ ‬وإكسابه‭ ‬الأهمية،‭ ‬بل‭ ‬يساعد‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬إضاءة‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬تتقدمه،‭ ‬كذلك‭ ‬كانت‭ ‬تحدد‭ ‬أمام‭ ‬المحراب‭ ‬أحيانا‭ ‬منطقة‭ ‬مربعة‭ ‬تتم‭ ‬تغطيتها‭ ‬بقبة‭ ‬تبرز‭ ‬أهميته‭ ‬وتساعد‭ ‬على‭ ‬إضاءة‭ ‬المكان‭ ‬أمامه،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬القبة‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬المجاز‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬أو‭ ‬مستقلة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الظاهر‭ ‬بيبرس‭ ‬وجامع‭ ‬المارداني‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالإضاءة‭ ‬الطبيعية‭ ‬للمحراب‭ ‬كان‭ ‬يهتم‭ ‬بالإضاءة‭ ‬الصناعية‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المشكاوات‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الشماعد‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬المملوكي،‭ ‬توقف‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬المحاريب‭ ‬بدليل‭ ‬وجود‭ ‬شمعدان‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬المملوكي‭ ‬كتب‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬أوقف‭ ‬على‭ ‬محراب‭ ‬الجامع‭ ‬الطولوني‭ (‬696هـ‭/‬1296م‭)‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬الكراسي‭ ‬المعدنية‭ ‬أو‭ ‬الخشبية‭ ‬المعروفة‭ ‬بكراسي‭ ‬العشاء‭ ‬تستخدم‭ ‬لحمل‭ ‬هذه‭ ‬الشماعد‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬المحراب‭.‬

بيت‭ ‬الصلاة‭: ‬يسمى‭ ‬الظلة‭ ‬أو‭ ‬الرواق،‭ ‬والمسجد‭ ‬بصورة‭ ‬تقليدية‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬صحن‭ ‬وأربع‭ ‬ظلات‭ ‬حوله‭ ‬أو‭ ‬أروقة‭ ‬حوله،‭ ‬أعمقها‭ ‬وأكبرها‭ ‬ظلة‭ ‬القبلة‭ ‬أو‭ ‬رواق‭ ‬القبلة،‭ ‬ولد‭ ‬بيت‭ ‬الصلاة‭ ‬مع‭ ‬مسجد‭ ‬الرسول‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها،‭ ‬وتطور‭ - ‬مع‭ ‬الزمن‭ - ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬الجزء‭ ‬الرئيسي‭ ‬من‭ ‬المسجد،‭ ‬ففيه‭ ‬حائط‭ ‬القبلة‭ ‬والمحراب‭ ‬والمنبر،‭ ‬وفوقه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬تقوم‭ ‬القباب‭ ‬أو‭ ‬الأسقف‭ ‬المسطحة‭.‬

في‭ ‬العادة‭ ‬يقوم‭ ‬بيت‭ ‬الصلاة‭ ‬على‭ ‬عمد‭ ‬تحمل‭ ‬فوقها‭ ‬عقودا‭ ‬أو‭ ‬أقواسا،‭ ‬وفوق‭ ‬هذه‭ ‬يقوم‭ ‬السقف،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬العمد‭ ‬وعقودها‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بها‭ ‬بابا‭ ‬واسعا‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬أضاف‭ ‬فيه‭ ‬المعماري‭ ‬المسلم‭ ‬إضافات‭ ‬عظيمة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬الأعمدة‭ ‬وطرق‭ ‬إقامتها،‭ ‬أو‭ ‬أنواع‭ ‬العقود‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬وأشكالها‭ ‬ووسائل‭ ‬ربط‭ ‬الأعمدة‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬وكيفية‭ ‬وصل‭ ‬العقود‭ ‬بالسقف‭ ‬أو‭ ‬إقامة‭ ‬قباب‭ ‬فوقها‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬اهتمام‭ ‬المعمار‭ ‬بظلة‭ ‬القبلة‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬مخططات‭ ‬المساجد،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬مساحتها‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الظلات‭ ‬الجانبية‭ ‬والمقابلة‭ ‬لظلة‭ ‬القبلة،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلتها‭ ‬جامع‭ ‬القرويين‭ ‬بفاس‭ (‬245هـ‭/‬859م‭)‬،‭ ‬جامع‭ ‬الأندلسيين‭ ‬بفاس‭ (‬245هـ‭/‬859م‭)‬،‭ ‬جامع‭ ‬المهدية‭ ‬بتونس‭ (‬304هـ‭/‬916م‭)‬،‭ ‬جامع‭ ‬الكتبية‭ ‬بمراكش‭ (‬596هـ‭/‬1158م‭).‬

هناك‭ ‬بعض‭ ‬المساجد‭ ‬التي‭ ‬خططها‭ ‬المعمار‭ ‬من‭ ‬قسمين‭ ‬فقط،‭ ‬قسم‭ ‬مغطى‭ ‬وهو‭ ‬يمثل‭ ‬ظلة‭ ‬القبلة،‭ ‬وقسم‭ ‬مكشوف‭ ‬وهو‭ ‬يمثل‭ ‬كتلة‭ ‬الصحن،‭ ‬واستغنى‭ ‬المعمار‭ ‬بذلك‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬ظلات‭ ‬المسجد،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬جامع‭ ‬القيروان‭ (‬50هـ‭/‬670م‭)‬،‭ ‬جامع‭ ‬قرطبة‭ (‬170هـ‭/‬786م‭)‬،‭ ‬جامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬بتونس‭ (‬250هـ‭/‬864م‭)‬،‭ ‬ومسجد‭ ‬علاء‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬قونية‭ ‬القرن‭ (‬7هـ‭/‬13م‭).‬

هناك‭ ‬نوع‭ ‬ثالث‭ ‬من‭ ‬المساجد‭ ‬اعتبر‭ ‬المعمار‭ ‬المخطط‭ ‬مساحتها‭ ‬الداخلية‭ ‬كلها‭ ‬ظلة‭ ‬القبلة،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭: ‬المسجد‭ ‬الأقصى‭ (‬87هـ‭/‬706م‭)‬،‭ ‬مسجد‭ ‬أبو‭ ‬فتاته‭ ‬بتونس‭ (‬253‭/ ‬838م‭).‬

ابتكر‭ ‬العثمانيون‭ ‬طرازًا‭ ‬رابعًا‭ ‬في‭ ‬تخطيط‭ ‬بيت‭ ‬الصلاة،‭ ‬تميز‭ ‬بسعة‭ ‬مساحته‭ ‬الداخلية‭ ‬مع‭ ‬قلة‭ ‬الأعمدة‭ ‬والدعائم‭ ‬والعقود‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعج‭ ‬بها،‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المساحات‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬الجامعة‭ ‬والمساجد‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬النماذج‭ ‬السابقة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حمل‭ ‬أسقفها‭.‬

وافق‭ ‬هذا‭ ‬التخطيط‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الصلاة‭ ‬العثمانية‭ ‬المطلب‭ ‬العقائدي‭ ‬الذي‭ ‬يحث‭ ‬المصلين‭ ‬على‭ ‬وصل‭ ‬الصفوف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬امتدادها‭ ‬قاطع،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬نجح‭ ‬العثمانيون‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬قاطعة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬قطع‭ ‬صفوف‭ ‬المصلين‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحدثها‭ ‬كثرة‭ ‬الأعمدة‭ ‬والدعائم‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬السابقة‭ ‬ويتبلور‭ ‬تخطيط‭ ‬بيوت‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬مربعة‭ ‬تتميز‭ ‬رقعتها‭ ‬الداخلية‭ ‬بالسعة‭ ‬نتيجة‭ ‬قلة‭ ‬الركائز‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬حمل‭ ‬القبة‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬معظم‭ ‬مساحة‭ ‬بيت‭ ‬الصلاة،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬جامع‭ ‬السليمانية‭ ‬في‭ ‬استانبول‭ (‬957هـ‭/‬1550م‭)‬،‭ ‬وجامع‭ ‬السليمية‭ (‬959هـ‭/‬1553‭).‬

هنا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬الجانب‭ ‬الوظيفي‭ ‬في‭ ‬تصميم‭ ‬المسجد‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬إيجاد‭ ‬الفراغ‭ ‬المناسب‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬يقيمون‭ ‬فيه‭ ‬الصلاة‭ ‬متجهين‭ ‬في‭ ‬صفوفهم‭ ‬المتواصلة‭ ‬قبل‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لكونه‭ ‬يقيهم‭ ‬المطر‭ ‬والحر‭ ‬والبرد،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المضمون‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬المعمارية‭ ‬لعمارة‭ ‬المساجد‭ ‬يتطلب‭ ‬الآتي‭:‬

أن‭ ‬يأخذ‭ ‬المسجد‭ ‬شكلا‭ ‬طولياً‭ ‬متعامدا‭ ‬على‭ ‬اتجاه‭ ‬القبلة،‭ ‬لإطالة‭ ‬صفوف‭ ‬المصلين،‭ ‬حتى‭ ‬يحظى‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬منهم‭ ‬بالصفوف‭ ‬الأولى،‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬جزاء‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬وقد‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬االصحاحب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭ ‬الصحيحة‭ ‬منها‭: ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬أن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬قال‭: ‬الو‭ ‬يعلم‭ ‬الناس‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬النداء‭ ‬والصف‭ ‬الأول‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يستهموا‭ ‬عليه‭ ‬لاستهمواب‭ ‬رواه‭ ‬البخاري‭ ‬ومسلم‭. ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬لمسلم‭ ‬الو‭ ‬تعلمون‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬المتقدم‭ ‬لكانت‭ ‬قرعةب،‭ ‬وعن‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬قال‭: ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬اخير‭ ‬صفوف‭ ‬الرجال‭ ‬أولها،‭ ‬وخير‭ ‬صفوف‭ ‬النساء‭ ‬آخرها‭ ‬وشرها‭ ‬أولهاب‭ ‬رواه‭ ‬مسلم‭.‬

ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مسافة‭ ‬كافية‭ ‬للسجود‭ ‬بين‭ ‬الصف‭ ‬والآخر،‭ ‬مع‭ ‬استواء‭ ‬الصفوف‭ ‬ومحاذاة‭ ‬الأقدام،‭ ‬لذلك‭ ‬فمن‭ ‬المستحسن‭ ‬وضع‭ ‬علامات‭ ‬أو‭ ‬خطوط‭ ‬تساعد‭ ‬المصلين‭ ‬على‭ ‬ضبط‭ ‬ذلك،‭ ‬وحيث‭ ‬إن‭ ‬الإسلام‭ ‬أيضا‭ ‬يحث‭ ‬على‭ ‬التصاق‭ ‬الكتف‭ ‬بالكتف‭ ‬وعدم‭ ‬ترك‭ ‬الفراغات‭ ‬بين‭ ‬المصلين‭ ‬وملء‭ ‬الصف‭ ‬الأول،‭ ‬لذلك‭ ‬فإنه‭ ‬عند‭ ‬احتساب‭ ‬سعة‭ ‬المسجد‭ ‬فإنها‭ ‬تحسب‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬العرض‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬المسلم‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭ ‬حوالي‭ ‬50‭ ‬سم،‭ ‬ثم‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬أمامه‭ ‬للسجود‭ ‬وتقدر‭ ‬بـحوالي‭ ‬120سم،‭ ‬فنجد‭ ‬ابن‭ ‬حوقل‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬سعة‭ ‬المسجد‭ ‬الجامع‭ ‬في‭ ‬باليرمو‭ ‬بصقلية،‭ ‬بقوله‭ ‬اوذلك‭ ‬أني‭ ‬حزرت‭ ‬المجتمع‭ ‬فيه‭ ‬إذا‭ ‬غص‭ ‬بأهله‭ ‬بلغ‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬رجل‭ ‬ونيف‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬فيه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬وثلاثين‭ ‬صفا‭ ‬للصلاة،‭ ‬وكل‭ ‬صف‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مائتي‭ ‬رجلب‭ ‬هذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬حصر‭ ‬عدد‭ ‬المصلين‭ ‬طبقا‭ ‬لسعة‭ ‬المسجد‭ ‬وحاجة‭ ‬المدينة‭ ‬حين‭ ‬إنشائه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يمكننا‭ ‬باستخدام‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظات‭ ‬من‭ ‬استنتاج‭ ‬معلومات‭ ‬كثيرة‭ ‬تفيدنا‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الدراسات‭ ‬المعمارية‭ ‬والعمرانية‭ ‬والاجتماعية‭.. ‬إلخ‭.‬

 

المنبر‭:‬

أشارت‭ ‬المعاجم‭ ‬اللغوية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لفظة‭ ‬االمنبرب‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬الجذر‭ ‬الثلاثي‭ ‬ان‭ ‬ب‭ ‬رب‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬مرقاة‭ ‬الخطيب،‭ ‬وسمي‭ ‬المنبر‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭ ‬لارتفاعه‭ ‬وعلوه‭ ‬ذ‭ ‬الزمخشري‭ (‬ت538هـ‭/‬1142م‭)‬،‭ ‬يقول‭ ‬المنبر‭ ‬من‭ ‬الجذر‭ ‬نبر‭ ‬بمعنى‭ ‬الارتفاع،‭ ‬وانتبر‭ ‬الخطيب‭: ‬ارتفع‭ ‬على‭ ‬المنبر‭ ‬ابرفع‭ ‬الميم‭ ‬وفتحها‭ ‬وكسرهاب،‭ ‬وانتبر‭ ‬الجرح‭ ‬بمعنى‭ ‬تورم‭ ‬وارتفع‭ ‬مكانه،‭ ‬ونبرت‭ ‬الشيء‭ ‬بمعنى‭ ‬رفعته‭. ‬يذكر‭ ‬ياقوت‭ ‬الحموي‭ (‬ت626هـ‭/‬1229م‭) ‬أن‭ ‬لفظة‭ ‬المنبر‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬الصوت‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬ومنه‭ ‬نبرت‭ ‬الصوت‭ ‬إذا‭ ‬همزته،‭ ‬بينما‭ ‬يذكر‭ ‬ابن‭ ‬منصور‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭: ‬أن‭ ‬المنبر‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ارتفع‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬والمنبر‭ ‬مرقاة‭ ‬الخطيب،‭ ‬سمي‭ ‬منبرا‭ ‬لارتفاعه‭ ‬وعلوه،‭ ‬وانتبر‭ ‬الأمير‭ ‬ارتفع‭ ‬فوق‭ ‬المنبر‭ ‬ثم‭ ‬استشهد‭ ‬بقول‭ ‬ابن‭ ‬الأنباري‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬المنبر‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬ارتفاع‭ ‬الصوت،‭ ‬وأنشد‭:‬

إني‭ ‬لأسمع‭ ‬نبرة‭ ‬من‭ ‬قولها

فأكاد‭ ‬أن‭ ‬يغشى‭ ‬علي‭ ‬سرورًا

اختلفت‭ ‬المصادر‭ ‬والدراسات‭ ‬الأثرية‭ ‬حول‭ ‬بداية‭ ‬المنبر‭ ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬المبكرة،‭ ‬فبعض‭ ‬المصادر‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المنبر‭ ‬كان‭ ‬ضروريا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬صحية‭ - ‬للنبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ - ‬بينما‭ ‬مصادر‭ ‬أخرى‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬المنبر‭ ‬أدخل‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬لازدياد‭ ‬عدد‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتجمعون‭ ‬للصلاة‭ ‬الجامعة‭ ‬وليستمعوا‭ ‬للنبي،‭ ‬وتبين‭ ‬هذه‭ ‬المصادر‭ ‬أن‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬كان‭ ‬إذا‭ ‬صعد‭ ‬المنبر‭ ‬سلم،‭ ‬فإذا‭ ‬جلس‭ ‬أذن‭ ‬المؤذن،‭ ‬وكان‭ ‬يخطب‭ ‬خطبتين‭ ‬ويجلس‭ ‬جلستين،‭ ‬وكان‭ ‬يتوكأ‭ ‬على‭ ‬عصا‭ ‬يخطب‭ ‬عليها‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬وكان‭ ‬إذا‭ ‬خطب‭ ‬استقبله‭ ‬الناس‭ ‬بوجوههم‭ ‬وأصغوا‭ ‬بأسماعهم‭ ‬ورمقوه‭ ‬بأبصارهم،‭ ‬وقال‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭:‬

ايأيها‭ ‬الناس‭ ‬إنما‭ ‬فعلت‭ ‬هذا‭ ‬لتأتموا‭ ‬بي‭ ‬ولتعلموا‭ ‬صلاتيب‭.‬

قبل‭ ‬إدخال‭ ‬المنبر‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬كان‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يسند‭ ‬ظهره‭ ‬إلى‭ ‬جذع‭ ‬نخلة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬لفظ‭ ‬خشبة،‭ ‬نقلت‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬العربية‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬اكان‭ ‬يخطب‭ ‬وهو‭ ‬مستند‭ ‬إلى‭ ‬جذع‭ ‬النخلة،‭ ‬فقال‭: ‬إن‭ ‬القيام‭ ‬قد‭ ‬شق‭ ‬علي،‭ ‬فقال‭ ‬تميم‭ ‬الدري‭: ‬أأعمل‭ ‬لك‭ ‬منبرا‭ ‬كما‭ ‬رأيت‭ ‬يصنع‭ ‬بالشام؟‭ ‬فشاور‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فرأوا‭ ‬أن‭ ‬يتخذه،‭ ‬فقال‭ ‬العباس‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬المطلب‭: ‬إن‭ ‬لي‭ ‬غلاما‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬كلاب‭ ‬أعمل‭ ‬الناس،‭ ‬فقال‭: ‬امره‭ ‬أن‭ ‬يعملب،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬الأنصار‭ ‬اسمها‭ ‬عائشة‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬غلام‭ ‬نجار‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬باقوم‭ ‬الرومي،‭ ‬قالت‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬إن‭ ‬لي‭ ‬غلاما‭ ‬نجارا‭ ‬أفلا‭ ‬آمره‭ ‬يتخذ‭ ‬لك‭ ‬منبرا‭ ‬تخطب‭ ‬عليه؟‭ ‬قال‭: ‬بلى‭ ‬فأمرته‭ ‬فاتخذ‭ ‬له‭ ‬منبرا‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ينقل‭ ‬بعدد‭ ‬درجات‭ ‬المنبر‭ ‬النبوي،‭ ‬فأشارت‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬درجات‭ ‬منبر‭ ‬النبي‭ ‬كانت‭ ‬ثلاثا‭: ‬درجتين‭ (‬مرقاتين‭) ‬ومجلسا‭ ‬امقعداب،‭ ‬وروى‭ ‬يحيى‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬الزناد‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬المجلس‭ ‬ويضع‭ ‬رجليه‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية،‭ ‬فلما‭ ‬ولي‭ ‬أبوبكر‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية،‭ ‬ووضع‭ ‬رجليه‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬السفلى،‭ ‬فلما‭ ‬ولي‭ ‬عمر‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬السفلى،‭ ‬ووضع‭ ‬رجليه‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وذلك‭ ‬ست‭ ‬سنين‭ ‬من‭ ‬خلافته،‭ ‬ثم‭ ‬علا‭ ‬إلى‭ ‬موضع‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭. ‬زاد‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬ست‭ ‬درجات‭ ‬من‭ ‬أسفل‭ ‬فصار‭ ‬المنبر‭ ‬تسع‭ ‬درجات،‭ ‬وكان‭ ‬الخلفاء‭ ‬يقفون‭ ‬على‭ ‬السابعة‭ ‬وهي‭ ‬أولى‭ ‬الأول،‭ ‬وقيل‭ ‬إن‭ ‬الذي‭ ‬زاد‭ ‬الست‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬معاوية،‭ ‬وسبب‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬معاوية‭ ‬كتب‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬المنبر‭ ‬إليه،‭ ‬فأمر‭ ‬به‭ ‬فقلع‭ ‬فانكسفت‭ ‬الشمس‭ ‬وأظلمت‭ ‬المدينة‭ ‬حتى‭ ‬رؤيت‭ ‬النجوم،‭ ‬فخرج‭ ‬مروان‭ ‬وخطب‭ ‬معتذرا،‭ ‬وقال‭ ‬إنما‭ ‬أمرني‭ ‬أن‭ ‬أرفعه‭ ‬ثم‭ ‬رده‭ ‬وزاد‭ ‬فيه‭ ‬ست‭ ‬درجات‭ ‬لما‭ ‬كثر‭ ‬الناس‭ ‬واستمر‭ ‬كذلك‭.‬

حدد‭ ‬الفقهاء‭ ‬مكان‭ ‬المنبر‭ ‬بالمسجد‭ ‬وحجمه،‭ ‬فقالوا‭ ‬يستحب‭ ‬جعل‭ ‬المنبر‭ ‬على‭ ‬يسار‭ ‬القبلة‭ ‬تلقاء‭ ‬يمين‭ ‬المصلي‭ ‬إذا‭ ‬استقبل،‭ ‬وقال‭ ‬الصيمري‭ ‬والدرامي‭ ‬وغيرهما‭ (‬مما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬المهذب‭ ‬للنووي‭) ‬من‭ ‬استحباب‭ ‬جعله‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬المحراب‭ ‬سهوا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يريد‭ ‬يمين‭ ‬مستقبله،‭ ‬قال‭ ‬الصيمري‭: ‬اوينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بين‭ ‬المنبر‭ ‬والقبلة‭ ‬قدر‭ ‬ذراع‭ ‬أو‭ ‬ذراعينب‭.‬

 

‭ ‬الصحن‭ (‬رحبة‭ ‬المسجد‭):‬

الصحن‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬هو‭ ‬ساحة‭ ‬الدار‭ ‬ووسطه‭ ‬ومستواه،‭ ‬وسعته،‭ ‬يقال‭: ‬سرنا‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬الفلاة،‭ ‬وهو‭ ‬ساحته،‭ ‬وسمي‭ ‬رحبة‭ ‬السعتها‭ ‬بما‭ ‬رحبتب‭ ‬وهي‭ ‬المساحة‭ ‬المكشوفة‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬وتتصل‭ ‬بحرمه‭ ‬وأروقته‭ ‬وجدرانه‭ ‬الخارجية،‭ ‬وتسمى‭ ‬ارحبةب‭ ‬وتسمى‭ ‬اصحناب،‭ ‬وقد‭ ‬اتخذت‭ ‬في‭ ‬مساجد‭ ‬الأمصار‭ ‬التي‭ ‬دانت‭ ‬بالإسلام‭ ‬اقتداء‭ ‬بعمارة‭ ‬مسجد‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬مساحة‭ ‬مكشوفة‭ ‬بين‭ ‬ظلتين‭: ‬إحداهما‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الجنوبية‭ ‬والأخرى‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الشمالية،‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المساجد‭ ‬يضم‭ ‬الصحن‭ ‬مصادر‭ ‬للمياه‭ ‬يتوضأ‭ ‬منها‭ ‬الناس،‭ ‬وتزرع‭ ‬فيه‭ ‬الأشجار‭ ‬أحيانا‭ ‬ويستفاد‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬استيعاب‭ ‬المصلين‭ ‬إذا‭ ‬زادوا‭ ‬عن‭ ‬طاقة‭ ‬المسجد،‭ ‬وفي‭ ‬المساجد‭ ‬الكبيرة‭ ‬كالمسجد‭ ‬الأموي‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬شيدت‭ ‬قبة‭ ‬لحفظ‭ ‬أوراق‭ ‬الوقف‭ ‬وأموال‭ ‬الدولة‭ ‬والمخطوطات‭ ‬وغيرها،‭ ‬شيد‭ ‬قبة‭ ‬المسجد‭ ‬الأموي‭ ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬صالح‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬العباسي‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬أمير‭ ‬دمشق‭ ‬سنة‭ ‬172هـ‭/ ‬788م‭.‬

 

الفقهاء‭ ‬وأحكام‭ ‬الرحبة‭:‬

اختلف‭ ‬الفقهاء‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬الصحن‭ ‬أو‭ ‬الرحبة‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقوال‭: ‬هل‭ ‬تأخذ‭ ‬حكم‭ ‬المسجد‭ ‬أم‭ ‬لا؟

القول‭ ‬الأول‭: ‬إن‭ ‬الرحبة‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬متصلة‭ ‬بالمسجد‭ ‬محوطة‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬وتأخذ‭ ‬حكمه،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬الشيخ‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عبدالسلام‭: ‬من‭ ‬صلى‭ ‬في‭ ‬الصحن‭ ‬بصلاة‭ ‬الإمام‭ ‬تصح‭ ‬صلاته‭ ‬لأنه‭ ‬رحبة‭ ‬الجامع‭.‬

القول‭ ‬الثاني‭: ‬إن‭ ‬الرحبة‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬مطلقا‭ ‬متصلة‭ ‬به‭ ‬أم‭ ‬منفصلة‭ ‬عنه‭.‬

القول‭ ‬الثالث‭: ‬إن‭ ‬رحبة‭ ‬المسجد‭ ‬منه‭ ‬مطلقا‭ ‬متصلة‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬منفصلة‭ ‬عنه‭.‬

أغلب‭ ‬الفقهاء‭ ‬اعتبروا‭ ‬صحن‭ ‬المسجد‭ ‬جزءا‭ ‬منه‭ ‬وتسري‭ ‬عليه‭ ‬الأحكام‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تسري‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬أجزائه‭ ‬التي‭ ‬يتألف‭ ‬منها‭ ‬بناؤه،‭ ‬فلو‭ ‬أن‭ ‬رجلا‭ ‬نوى‭ ‬سنة‭ ‬الاعتكاف‭ ‬واعتكف‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬المسجد‭ ‬صح‭ ‬منه‭ ‬ذلك‭ ‬وأجزأه‭.‬

خلط‭ ‬البعض‭ ‬بين‭ ‬صحن‭ ‬الجامع‭ ‬وحرم‭ ‬الجامع،‭ ‬ولكن‭ ‬الفقهاء‭ ‬فرقوا‭ ‬بينهما،‭ ‬فصحن‭ ‬المسجد‭ ‬ما‭ ‬يوجد‭ ‬بداخل‭ ‬جدرانه‭ ‬من‭ ‬فناء‭ ‬غير‭ ‬مسقوف،‭ ‬وأما‭ ‬حرم‭ ‬المسجد‭ ‬فالمنطقة‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مبان‭ ‬ملاصقة‭ ‬لجدرانه‭ ‬أو‭ ‬رحبات‭ ‬خارجها،‭ ‬وقد‭ ‬اشترطوا‭ ‬فيها‭ ‬النظافة‭ ‬وحرموا‭ ‬الاتجار‭ ‬فيها،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يشوب‭ ‬نظافة‭ ‬المسجد‭ ‬وجلاله،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬الصلاة‭ ‬قد‭ ‬تمتد‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الجمع‭ ‬والأعياد‭ ‬إذا‭ ‬ازدحم‭ ‬الجامع‭.‬

لقد‭ ‬حرص‭ ‬الشرع‭ ‬الحنيف‭ ‬على‭ ‬نظافة‭ ‬صحون‭ ‬المساجد،‭ ‬لأنها‭ ‬قد‭ ‬تستخدم‭ ‬للصلاة‭ ‬بها‭ ‬عندما‭ ‬يكثر‭ ‬عدد‭ ‬المصلين‭ ‬وتضيق‭ ‬بهم‭ ‬أروقة‭ ‬المسجد،‭ ‬وحدث‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الفترات‭ ‬أن‭ ‬غرست‭ ‬صحون‭ ‬بعض‭ ‬المساجد‭ ‬بالأشجار،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بعضها‭ ‬اشتهر‭ ‬بأسماء‭ ‬الأشجار‭ ‬المزروعة‭ ‬في‭ ‬صحنها‭ ‬كمسجد‭ ‬الياسمين‭ ‬في‭ ‬طبرية‭ ‬بفلسطين،‭  ‬وقد‭ ‬غرست‭ ‬جميع‭ ‬صحون‭ ‬المساجد‭ ‬الجامعة‭ ‬بالأندلس‭ ‬بأشجار‭ ‬البرتقال‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬أحدثه‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬معاوية‭ ‬عندما‭ ‬أمر‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬سلام‭ ‬صاحب‭ ‬الصلاة‭ ‬بجامع‭ ‬قرطبة،‭ ‬بغرس‭ ‬صحن‭ ‬الجامع‭ ‬بالأشجار،‭ ‬متبعا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مذهب‭ ‬الإمام‭ ‬الأوزاعي‭ ‬الذي‭ ‬أجاز‭ ‬ذلك‭.‬

وهناك‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬بتحريم‭ ‬غرس‭ ‬أشجار‭ ‬المسجد‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الوظيفة‭ ‬الأساسية‭ ‬للمسجد‭ ‬وهي‭ ‬الصلاة،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬كراهية‭ ‬ذلك،‭ ‬كأبي‭ ‬موسى‭ ‬وأبي‭ ‬الفرج‭ ‬وابن‭ ‬شريف‭ ‬الشافعي،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬من‭ ‬أجاز‭ ‬ذلك‭ ‬طالما‭ ‬لا‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬المسجد‭ ‬وتحقق‭ ‬أغراضا‭ ‬نفعية‭ ‬له‭ ‬وللمسلمين‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الصحن‭ ‬قد‭ ‬مر‭ ‬بمراحل‭ ‬وظيفية‭ ‬متعددة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يستعمل‭ ‬أثناء‭ ‬إقامة‭ ‬الصلوات‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولا‭ ‬يعتبر‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المصلى‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يعدونه‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ممرات‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الأروقة،‭ ‬وربما‭ ‬جلسوا‭ ‬فيه‭ ‬للتسامر‭ ‬أو‭ ‬البيع‭ ‬والشراء،‭ ‬ولا‭ ‬يراعون‭ ‬نظافته،‭ ‬لذا‭ ‬أخذ‭ ‬الفقهاء‭ ‬يحددون‭ ‬استعمالاته‭ ‬ويحرمون‭ ‬القيام‭ ‬بأي‭ ‬عمل‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يتصل‭ ‬بالصلاة،‭ ‬ثم‭ ‬اعتبر‭ ‬من‭ ‬الأجزاء‭ ‬الأساسية،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الصحن‭ ‬مبلطا‭ ‬أو‭ ‬فيه‭ ‬فسقية‭ ‬أو‭ ‬حوض‭ ‬ماء،‭ ‬أو‭ ‬تزرع‭ ‬فيه‭ ‬أشجار،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أهميته‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬مصدرًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬للتهوية‭ ‬وإضاءة‭ ‬الأروقة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭.‬

سن‭ ‬العثمانيون‭ ‬سنة‭ ‬حميدة‭ ‬حبذا‭ ‬لو‭ ‬اتبعت‭ ‬في‭ ‬مساجد‭ ‬الإسلام‭ ‬جميعها،‭ ‬وهي‭ ‬إحاطة‭ ‬المسجد‭ ‬بحديقة‭ ‬يدور‭ ‬عليها‭ ‬سور،‭ ‬فهذا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يصون‭ ‬المسجد‭ ‬وحرمه،‭ ‬ومن‭ ‬شأنه‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬يضفي‭ ‬عليه‭ ‬جمالا،‭ ‬وجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬مساجدنا‭ ‬القديمة‭ ‬مساحات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬حولها‭.‬

 

الميضأة‭:‬

اسم‭ ‬مكان‭ ‬مخصص‭ ‬للوضوء،‭ ‬وأصل‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬وضوء‭ ‬وضاءة‭ ‬وهو‭ ‬الحسن‭ ‬والبهجة‭. ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬يَا‭ ‬أَيُّهَا‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬آمَنُواْ‭ ‬إِذَا‭ ‬قُمْتُمْ‭ ‬إِلَى‭ ‬الصَّلاةِ‭ ‬فاغْسِلُواْ‭ ‬وُجُوهَكُمْ‭ ‬وَأَيْدِيَكُمْ‭ ‬إِلَى‭ ‬الْمَرَافِقِ‭ ‬وَامْسَحُواْ‭ ‬بِرُؤُوسِكُمْ‭ ‬وَأَرْجُلَكُمْ‭ ‬إِلَى‭ ‬الْكَعْبَينِ‭}‬‭ (‬المائدة‭ ‬آية‭ ‬6‭)‬‭. ‬وفي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬قتادة‭ ‬قال‭: ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬الا‭ ‬يقبل‭ ‬الله‭ ‬صلاة‭ ‬بغير‭ ‬طهور‭.....‬ب‭ ‬وعن‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬قال‭: ‬اقال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬الا‭ ‬صلاة‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬وضوء‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬وضوء‭ ‬لمن‭ ‬لم‭ ‬يذكر‭ ‬اسم‭ ‬الله‭ ‬عليهب،‭ ‬والأحاديث‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرة‭.‬

من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬كان‭ ‬ضروريا‭ ‬أن‭ ‬تبنى‭ ‬محلات‭ ‬الوضوء‭ ‬استعدادا‭ ‬للصلاة،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬المسجد‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬العام،‭ ‬ويطرقه‭ ‬المارة‭ ‬وأبناء‭ ‬السبيل،‭ ‬أو‭ ‬يخاف‭ ‬الرجل‭ ‬فوات‭ ‬الجماعة،‭ ‬إذا‭ ‬قصد‭ ‬بيته‭ ‬لغرض‭ ‬الوضوء،‭ ‬وما‭ ‬بنيت‭ ‬المساجد‭ ‬إلا‭ ‬لأداء‭ ‬الصلاة‭ ‬جماعة،‭ ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬خدمة‭ ‬بيوت‭ ‬الله‭ ‬ونظافتها‭ ‬وتوفير‭ ‬الراحة‭ ‬للمصلين‭ ‬فيها،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬درج‭ ‬عليه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حفر‭ ‬بئر‭ ‬في‭ ‬المسجد،‭ ‬أو‭ ‬بناء‭ ‬أحواض‭ ‬خاصة‭ ‬للوضوء‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬المسجد،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬القرويين‭ ‬في‭ ‬فاس‭ ‬وفي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مساجد‭ ‬المغرب،‭ ‬فلا‭ ‬مانع‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬تبنى‭ ‬أماكن‭ ‬خاصة‭ ‬بالوضوء‭ ‬على‭ ‬أحدث‭ ‬طراز‭ ‬وأتقن‭ ‬وجه‭. ‬ولما‭ ‬جوز‭ ‬العلماء‭ ‬الوضوء‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يؤذ‭ ‬بمائه‭ ‬فلئن‭ ‬تبنى‭ ‬محلات‭ ‬خاصة‭ ‬تعد‭ ‬مواضئ‭ ‬للمسجد‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬أولى‭.‬

بناء‭ ‬محلات‭ ‬للوضوء‭ ‬تابعة‭ ‬للمسجد‭ ‬تخضع‭ ‬لقاعدة‭ ‬الضرورة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تعذر‭ ‬الوضوء‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬وتحكم‭ ‬ذلك‭ ‬قاعدة‭ ‬فقهية‭ ‬هي‭ ‬االمشقة‭ ‬تجلب‭ ‬التيسيرب،‭ ‬وقد‭ ‬تكلم‭ ‬الحنفية‭ ‬عن‭ ‬محلات‭ ‬الوضوء،‭ ‬فعنون‭ ‬ابن‭ ‬عابدين‭ ‬بقوله‭ ‬امطلب‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الوضوء‭ ‬من‭ ‬الفساقيب،‭ ‬وهي‭ ‬الحياض‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وانتصر‭ ‬صاحب‭ ‬البحر‭ ‬للعلامة‭ ‬قاسم،‭ ‬وألف‭ ‬رسالة‭ ‬سماها‭ ‬االخير‭ ‬الباقي‭ ‬في‭ ‬الوضوء‭ ‬من‭ ‬الفساقيب‭.‬

تتكون‭ ‬الميضأة‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬مستطيلة‭ ‬يتوسطها‭ ‬فناء‭ ‬مكشوف‭ ‬بوسطه‭ ‬فسقية‭ ‬للوضوء‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬عدة‭ ‬مراحيض‭ ‬أو‭ ‬بيوت‭ ‬خلاء،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬حمام‭ ‬صغير‭ ‬أو‭ ‬مستحم‭ ‬للاغتسال‭ ‬وإزالة‭ ‬الجنابة،‭ ‬ولكون‭ ‬هذه‭ ‬الوحدات‭ ‬المعمارية‭ ‬قد‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬طهارة‭ ‬المسجد‭ ‬ونظافته،‭ ‬لذلك‭ ‬ناقش‭ ‬الفقهاء‭ ‬موضعها‭ ‬بالنسبة‭ ‬له،‭ ‬واستقر‭ ‬رأيهم‭ ‬على‭ ‬جواز‭ ‬بنائها‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬المساجد‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أسطحها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يسبب‭ ‬ماؤها‭ ‬ضررا‭ ‬لأسقفها‭.‬

وفي‭ ‬إطار‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬والتزاما‭ ‬بتطبيقه‭ ‬بنيت‭ ‬الميضأة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المساجد‭ ‬الأثرية‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬بناء‭ ‬الجامع،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬ميضأة‭ ‬جامع‭ ‬سودون‭ ‬من‭ ‬زاده‭ ‬وجامع‭ ‬برسباي‭ ‬بالخانكة‭ ‬ومدرسة‭ ‬قجماس‭ ‬الإسحاقي‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬بنيت‭ ‬الميضاة‭ ‬بأسفل‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الجامع‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬ميضأة‭ ‬السلطان‭ ‬حسن‭ ‬وميضأة‭ ‬مدرسة‭ ‬المحمودية‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬شيدت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬ميضأة‭ ‬بأسفل‭ ‬الصحن،‭ ‬وبنيت‭ ‬الميضأة‭ ‬أحيانا‭ ‬متصلة‭ ‬بالجامع،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬منخفض‭ ‬عن‭ ‬أرضيته‭ ‬ويتوصل‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬بسلم‭ ‬هابط‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬بالشارع،‭ ‬وقد‭ ‬شاع‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬المملوكية‭ ‬بمدينة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وفي‭ ‬المسجد‭ ‬الصنعاني‭ ‬بنيت‭ ‬المطاهر‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬واحد‭ ‬وتكسى‭ ‬جدرانها‭ ‬الداخلية‭ ‬وقنوات‭ ‬جريان‭ ‬الماء‭ ‬وتصريفه‭ ‬بالقضاض‭ ‬لخاصيته‭ ‬في‭ ‬العزل،‭ ‬وقد‭ ‬تزين‭ ‬بعض‭ ‬جدرانها‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬المدخل،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬في‭ ‬صنعاء‭ ‬هو‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬استخدام‭ ‬مياه‭ ‬الوضوء‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬ري‭ ‬البساتين‭ ‬والمزارع‭ ‬الموقوفة‭ ‬على‭ ‬المسجد‭ ‬عبر‭ ‬قنوات‭ ‬ممتدة‭ ‬من‭ ‬المطاهر‭ ‬لهذه‭ ‬المزارع،‭ ‬و‭ ‬هو‭ ‬وعي‭ ‬حضاري‭ ‬بأهمية‭ ‬المياه‭.‬

الحرص‭ ‬على‭ ‬نظافة‭ ‬الميضأة‭ ‬وبيوت‭ ‬الخلاء‭ ‬بها‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬طهارة‭ ‬المكان‭ ‬نراه‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الحسبة‭ ‬والوقفيات‭ ‬بصورة‭ ‬ملحوظة‭.‬

وقد‭ ‬اختلفت‭ ‬آراء‭ ‬الفقهاء‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بكيفية‭ ‬ماء‭ ‬الوضوء،‭ ‬فمثلا‭ ‬رأى‭ ‬الحنفية‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يتوضأ‭ ‬جميع‭ ‬المتوضئين‭ ‬من‭ ‬حوض‭ ‬ماء‭ ‬واحد،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬طهارة‭ ‬ماء‭ ‬الحوض،‭ ‬ولذلك‭ ‬فضلوا‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬الحوض‭ ‬عبر‭ ‬أنابيب‭ ‬إلى‭ ‬صنابير‭ ‬يتحكم‭ ‬كل‭ ‬متوضئ‭ ‬في‭ ‬فتحها‭ ‬وغلقها‭ ‬حسب‭ ‬حاجته،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلتها‭ ‬ميضأة‭ ‬مسجد‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬بينما‭ ‬أجاز‭ ‬الشافعية‭ ‬وضوء‭ ‬المتوضئين‭ ‬جميعهم‭ ‬من‭ ‬حوض‭ ‬واحد،‭ ‬وقد‭ ‬انعكس‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬تخطيط‭ ‬بعض‭ ‬ميضآت‭ ‬المساجد‭ ‬الأثرية‭ ‬فوجدنا‭ ‬أن‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬اشتمل‭ ‬على‭ ‬فسقية‭ ‬لوضوء‭ ‬الحنفية‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬نص‭ ‬عليه‭ ‬مذهبهم،‭ ‬وكذلك‭ ‬فسقية‭ ‬أخرى‭ ‬لوضوء‭ ‬الشافعية‭ ‬بالصفة‭ ‬التي‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬مذهبهم‭.‬

 

المآذن

المئذنة‭ ‬وحدة‭ ‬معمارية‭ ‬أصبحت‭ ‬مع‭ ‬القبة‭ ‬رمزًا‭ ‬دالاً‭ ‬على‭ ‬المسجد‭ ‬موضع‭ ‬عبادة‭ ‬المسلمين،‭ ‬والأذان‭: ‬اسم‭ ‬مصدر‭ ‬من‭ ‬التأذين‭ ‬وهو‭ ‬لغة‭ ‬الإعلام‭. ‬وشرعا‭: ‬الإعلام‭ ‬بوقت‭ ‬الصلاة‭ ‬بوجه‭ ‬مخصوص،‭ ‬ويحصل‭ ‬به‭ ‬الدعاء‭ ‬إلى‭ ‬الجماعة‭ ‬وإظهار‭ ‬شعائر‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهو‭ ‬واجب‭ ‬أو‭ ‬مندوب‭. ‬قال‭ ‬القرطبي‭: ‬الأذان‭ ‬على‭ ‬قلة‭ ‬ألفاظه‭ ‬مشتمل‭ ‬على‭ ‬مسائل‭ ‬العقيدة،‭ ‬لأنه‭ ‬يبدأ‭ ‬بالأكبرية،‭ ‬وهي‭ ‬تتضمن‭ ‬وجود‭ ‬الله‭ ‬وكماله،‭ ‬ثم‭ ‬ثني‭ ‬بالتوحيد‭ ‬ونفي‭ ‬الشريك،‭ ‬ثم‭ ‬بإثبات‭ ‬الرسالة‭ ‬لمحمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬ثم‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الطاعة‭ ‬عقب‭ ‬الشهادة‭ ‬بالرسالة،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الرسول،‭ ‬ثم‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الفلاح،‭ ‬وهو‭ ‬البقاء‭ ‬الدائم‭ ‬وفيه‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الميعاد،‭ ‬ثم‭ ‬أعاد‭ ‬ما‭ ‬أعاد‭ ‬توكيدا‭. ‬نشأ‭ ‬الأذان‭ ‬لإعلام‭ ‬الناس‭ ‬بوقت‭ ‬الصلاة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬كانوا‭ ‬يجتمعون‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الصلاة‭ ‬عندما‭ ‬تحين‭ ‬مواقيتها‭ ‬بغير‭ ‬دعوة‭ ‬لقلة‭ ‬عددهم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولاستمرار‭ ‬وجودهم‭ ‬مع‭ ‬الرسول‭ ‬ومصاحبتهم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

لما‭ ‬انتشر‭ ‬الإسلام‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬والقبائل‭ ‬الضاربة‭ ‬حولها‭ ‬وازداد‭ ‬عدد‭ ‬المسلمين‭ ‬دعت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬جمعهم‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الصلاة،‭ ‬ولذلك‭ ‬رأى‭ ‬الرسول‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬المسلمون‭ ‬بحلول‭ ‬مواقيت‭ ‬الصلاة‭ ‬لكي‭ ‬يجتمعوا‭ ‬لأدائها،‭ ‬فاستشار‭ ‬أصحابه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فعرض‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬ينصب‭ ‬راية‭ ‬عند‭ ‬حضور‭ ‬الصلاة‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬رآها‭ ‬الناس‭ ‬أذن‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضا،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يستحسن‭ ‬هذا‭ ‬الرأي،‭ ‬فعرض‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الدف‭ ‬فقال‭ ‬هو‭ ‬للروم‭ ‬ولم‭ ‬يستحسنه،‭ ‬فعرض‭ ‬بعضهم‭ ‬الناقوس‭ ‬الذي‭ ‬يستخدمه‭ ‬النصارى‭ ‬في‭ ‬النداء‭ ‬إلى‭ ‬صلاتهم‭ ‬فلم‭ ‬يستحسنه،‭ ‬فعرض‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬يشعلوا‭ ‬نارا‭ ‬فلم‭ ‬يستحسن‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭.‬

فبينما‭ ‬المسلمون‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إذا‭ ‬بالصحابي‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬زيد‭ ‬الخزرجي‭ ‬الأنصاري‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬رجلاً‭ ‬عليه‭ ‬ثوبان‭ ‬خضراوان‭ ‬وفي‭ ‬يده‭ ‬ناقوس،‭ ‬فقال‭ ‬عبدالله‭ ‬أتبيع‭ ‬الناقوس؟‭ ‬فقال‭ ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬به؟‭ ‬فقال‭ ‬عبدالله‭ ‬ندعو‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الصلاة،‭ ‬فقال‭ ‬أنا‭ ‬أدلك‭ ‬على‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬ذلك‭: ‬تقول‭ ‬الله‭ ‬أكبر‭ ... ‬الله‭ ‬أكبر‭ ... ‬الله‭ ‬أكبر‭ ..... ‬الله‭ ‬أكبر‭ ... ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله‭... ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله‭....‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬محمدا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭.... ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬محمدا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭....‬حي‭ ‬على‭ ‬الصلاة‭ .... ‬حي‭ ‬على‭ ‬الصلاة‭..... ‬حي‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭ ... ‬حي‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭.... ‬الله‭ ‬أكبر‭ .... ‬الله‭ ‬أكبر،‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله،‭  ‬فأتى‭ ‬عبدالله‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬فأخبره،‭ ‬فقال‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬إنها‭ ‬لرؤيا‭ ‬حق‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬فقم‭ ‬مع‭ ‬بلال‭ ‬فألقها‭ ‬عليه‭ ‬فيؤذن‭ ‬بها،‭ ‬فإنه‭ ‬أندى‭ ‬صوتا‭ ‬منك‭. ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬أن‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬قال‭: ‬أولا‭ ‬تبعثون‭ ‬رجلا‭ ‬ينادي‭ ‬بالصلاة؟‭ ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬ايا‭ ‬بلال‭ ‬قم‭ ‬فناد‭ ‬بالصلاةب‭.‬

تعددت‭ ‬تسمية‭ ‬المآذن،‭ ‬فالمئذنة‭ ‬لفظها‭ ‬من‭ ‬الفعل‭ ‬أذن،‭ ‬وقيل‭ ‬لها‭ ‬أسطوان،‭ ‬مطمار،‭ ‬زوراء،‭ ‬منارة،‭ ‬منار،‭ ‬صومعة،‭ ‬وقد‭ ‬حصر‭ ‬لنا‭ ‬عبدالحي‭ ‬الكتاني‭ ‬في‭ ‬التراتيب‭ ‬الإدارية،‭ ‬كل‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬المئذنة‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬اوفي‭ ‬النزهة‭ ‬الثمينة‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬المدينة‭ ‬لابن‭ ‬النحاسب‭ ‬أن‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬النجار‭ ‬قالت‭ ‬كان‭ ‬بيتي‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬حذاء‭ ‬المسجد،‭ ‬وكان‭ ‬بلال‭ ‬يؤذن‭ ‬عليه‭ ‬الفجر‭ ‬كل‭ ‬غداة‭ ‬فيأتي‭ ‬بسحر‭ ‬فيجلس‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬ينتظر‭ ‬الفجر،‭ ‬فإذا‭ ‬رآه‭ ‬تمطى‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬اللهم‭ ‬أحمدك‭ ‬وأستعينك‭ ‬على‭ ‬قريش‭ ‬أن‭ ‬يقيموا‭ ‬دينك،‭ ‬قالت‭ ‬ثم‭ ‬يؤذن،‭ ‬وذكر‭ ‬أهل‭ ‬السير‭ ‬أن‭ ‬بلالا‭ ‬كان‭ ‬يؤذن‭ ‬على‭ ‬أسطوان‭ ‬في‭ ‬قبلة‭ ‬المسجد‭ ‬يرقى‭ ‬إليها‭ ‬بأقتاب‭ ‬فيها‭ ‬وكانت‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬وهي‭ ‬قائمة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬عبيد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬وروى‭ ‬نافع‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عمر‭ ‬قال‭ ‬كان‭ ‬بلال‭ ‬يؤذن‭ ‬على‭ ‬منارة‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬حفصة‭ ‬بنت‭ ‬عمر‭ (‬التي‭ ‬تلي‭ ‬المسجد‭) ‬قال‭ ‬فكان‭ ‬يرقى‭ ‬على‭ ‬أقتاب‭ ‬فيها‭ ‬وكانت‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬مسجد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيه‭ ‬وليست‭ ‬فيه‭ ‬اليوم‭...... ‬

لما‭ ‬كان‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬الأذان‭ ‬هو‭ ‬الإعلام‭ ‬بدخول‭ ‬وقت‭ ‬الصلاة‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الجماعة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭ ‬مسموع‭ ‬حتى‭ ‬يؤدي‭ ‬الغرض‭ ‬الذي‭ ‬شرع‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتبلور‭ ‬فكرة‭ ‬المئذنة‭ ‬معماريا‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬معماري‭ ‬بسيط‭ ‬للغاية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬فإنه‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬الأذان‭ ‬معلنا‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬مرتفع،‭ ‬صار‭ ‬مسموعا‭ ‬لمسافة‭ ‬أبعد‭ ‬ولعدد‭ ‬أكبر‭.‬

فامرأة‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬النجار‭ ‬كان‭ ‬منزلها‭ ‬لارتفاعه‭ ‬هو‭ ‬البداية،‭ ‬لكن‭ ‬حدث‭ ‬تطور‭ ‬آخر،‭ ‬إذ‭ ‬أعيد‭ ‬تشييد‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الرسول،‭ ‬حيث‭ ‬رفع‭ ‬بناء‭ ‬فوق‭ ‬سقف‭ ‬المسجد‭ ‬ليؤذن‭ ‬من‭ ‬عليه‭ ‬بلال،‭ ‬ذكر‭ ‬هذا‭ ‬ابن‭ ‬سعد‭ ‬في‭ ‬طبقاته،‭ ‬ويمكن‭ ‬تخيل‭ ‬هذا‭ ‬الارتفاع‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬كتلة‭ ‬بنائية‭ ‬من‭ ‬اللبن‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬المسجد،‭ ‬حيث‭ ‬يتيسر‭ ‬إقامتها،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إقامتها‭ ‬فوق‭ ‬سقف‭ ‬المسجد‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬عوارض‭ ‬وسقف‭ ‬ونصفه‭ ‬على‭ ‬سواري‭ ‬من‭ ‬جذوع‭ ‬النخل،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتخيل‭ ‬الرقي‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬هذه‭ ‬الكتلة‭ ‬بواسطة‭ ‬أقتاب‭ (‬أي‭ ‬درجات‭ ‬توضع‭ ‬فوق‭ ‬أحد‭ ‬جدران‭ ‬المسجد‭)‬،‭ ‬وإذا‭ ‬عرفنا‭ ‬أن‭ ‬سمك‭ ‬جدار‭ ‬مسجد‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬بعد‭ ‬التوسعة‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬كان‭ ‬بمقدار‭ ‬لبنتين‭ ‬مختلفتين‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬لبنة‭ ‬ونصف،‭ ‬أمكننا‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬سمكه‭ ‬كان‭ ‬يقارب‭ ‬80‭ ‬سم،‭ ‬وهو‭ ‬قدر‭ ‬يسمح‭ ‬باستغلاله‭ ‬لبناء‭ ‬تكوين‭ ‬بسيط‭ ‬مربع‭ ‬القاعدة‭ ‬يمكن‭ ‬الرقي‭ ‬عليه‭ ‬للأذان‭.‬

وارتفاع‭ ‬الكتلة‭ ‬المعمارية‭ ‬البسيطة‭ ‬فوق‭ ‬ركن‭ ‬المسجد‭ ‬وما‭ ‬يستلزمه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬أقتاب‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬لتأدية‭ ‬الوظيفة‭ ‬الانتفاعية‭ ‬وخدمة‭ ‬الغرض‭ ‬العلمي‭ ‬ليصل‭ ‬الصوت‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬معلنا‭ ‬الأذان‭.‬

تطورت‭ ‬المئذنة‭ ‬لتتحول‭ ‬لكيان‭ ‬معماري‭ ‬له‭ ‬سماته‭ ‬خلال‭ ‬عصر‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬زبالة‭: ‬حدثني‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬إسماعيل‭ ‬وغيره،‭ ‬قال‭: ‬كان‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬أسطوان،‭ ‬في‭ ‬قبلة‭ ‬المسجد‭ ‬يؤذن‭ ‬عليها‭ ‬بلال،‭ ‬يرقى‭ ‬إليها‭ ‬بأقتاب،‭ ‬والأسطوان‭ ‬مربعة‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬يقال‭ ‬لها‭ ‬المطمار‭.‬

يستنتج‭ ‬عبدالله‭ ‬كامل‭ ‬أن‭ ‬المطمار‭ ‬كان‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تكوين‭ ‬معماري‭ ‬مربع‭ ‬من‭ ‬قاعدته‭ ‬إلى‭ ‬أعلاه‭ ‬يرقى‭ ‬إليه‭ ‬المؤذن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أقتاب‭ ‬تلتصق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬جهاته‭ ‬الأربع،‭ ‬كما‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬المطمار‭ ‬كان‭ ‬خارجا‭ ‬عن‭ ‬مسجد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وقد‭ ‬اتفق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموضع‭ ‬ابن‭ ‬النجار‭ ‬والسمهودي‭.‬

لم‭ ‬يحدث‭ ‬تطور‭ ‬ما‭ ‬تذكره‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬عن‭ ‬عمارة‭ ‬المآذن‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬وعمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬خلافة‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬يذكر‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬عن‭ ‬عمارة‭ ‬المسجد‭ ‬النبوي‭ ‬فيها‭ (‬أي‭ ‬سنة‭ ‬29هجرية‭) ‬زاد‭ ‬عثمان‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬الزيادة‭ ‬العظيمة‭ ‬وجعل‭ ‬طوله‭ ‬مائة‭ ‬وستين‭ ‬ذراعا،‭ ‬وعرضه‭ ‬مائة‭ ‬وخمسين‭ ‬ذراعا،‭ ‬وحصلت‭ ‬له‭ ‬الحجارة‭ ‬من‭ ‬بطن‭ ‬نخل،‭ ‬ووضع‭ ‬في‭ ‬عمده‭ ‬الرصاص،‭ ‬وجعل‭ ‬أبوابه‭ ‬ستة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عمر،‭ ‬ومن‭ ‬مآثر‭ ‬عثمان‭ ‬بناء‭ ‬المنارات‭ ‬للأذان‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬زمنه‭ ‬مربعة‭ ‬الشكل،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬عبدالحي‭ ‬الكتاني‭ ‬في‭ ‬التراتيب‭ ‬الإدارية‭: ‬افلما‭ ‬كان‭ ‬عثمان‭ ‬وكثر‭ ‬الناس‭ ‬زاد‭ ‬النداء‭ ‬الثالث‭ ‬على‭ ‬الزوراء،‭ ‬والزوراء‭ ‬قيل‭ ‬إنه‭ ‬مرتفع‭ ‬كالمنارةب‭.‬

إن‭ ‬كانت‭ ‬لدينا‭ ‬إشارة‭ ‬تاريخية‭ ‬لبناء‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬لمنارة‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬أجياد‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‭ ‬بمكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬ينادي‭ ‬عليها‭ ‬المؤذن‭ ‬في‭ ‬رمضان،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬المؤرخين‭ ‬أن‭ ‬الأذان‭ ‬كان‭ ‬يرفع‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬المبكرة‭ ‬للإسلام‭ ‬على‭ ‬أسوار‭ ‬المدن‭ ‬وخاصة‭ ‬دمشق،‭ ‬حيث‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬الفرزدق‭ ‬ذلك‭ ‬حينما‭ ‬قال‭:‬

وحتى‭ ‬دعا‭ ‬في‭ ‬سور‭ ‬كل‭ ‬مدينة

مناد‭ ‬ينادي‭ ‬فوقها‭ ‬بأذان

لكننا‭ ‬سنتوقف‭ ‬أمام‭ ‬منارات‭ ‬مسجد‭ ‬البصرة‭ ‬الجامع،‭ ‬حيث‭ ‬ذكر‭ ‬البلاذري‭ ‬بناءها‭ ‬بالحجر‭ ‬سنة‭ ‬45هـ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬زياد‭ ‬بن‭ ‬أبيه،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يؤشر‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬معماري‭ ‬أخذ‭ ‬يظهر‭ ‬بوضوح‭ ‬للمئذنة‭ ‬كتطور‭ ‬طبيعي‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬كان‭ ‬تاريخ‭ ‬بناء‭ ‬هذه‭ ‬المئذنة‭ ‬45هـ،‭ ‬وقد‭ ‬بنيت‭ ‬من‭ ‬الحجر،‭ ‬وأجرت‭ ‬دائرة‭ ‬الآثار‭ ‬والتراث‭ ‬العراقية‭ ‬برئاسة‭ ‬د‭.‬عبدالعزيز‭ ‬حميد‭ ‬حفرية‭ ‬سنة‭ ‬1960م‭ ‬في‭ ‬جامع‭ ‬البصرة‭ ‬كشفت‭ ‬النقاب‭ ‬عن‭ ‬قواعد‭ ‬حجرية‭ ‬لمئذنتين‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬ترجعان‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬زياد‭ ‬بن‭ ‬أبيه،‭ ‬ومن‭ ‬أقدم‭ ‬وأشهر‭ ‬مآذن‭ ‬المساجد‭ ‬الإسلامية‭ ‬مئذنة‭ ‬مسجد‭ ‬القرويين‭ ‬التي‭ ‬شيدها‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬سنة‭ ‬50هـ‭ ‬مع‭ ‬بنائه‭ ‬مسجد‭ ‬القيروان،‭ ‬تليها‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬مآذن‭ ‬جامع‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬التي‭ ‬شيدها‭ ‬مسلمة‭ ‬بن‭ ‬مخلد‭ ‬الأنصاري‭ ‬سنة‭ ‬53هـ‭. ‬ويذكر‭ ‬الكندي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬اأخبار‭ ‬مسجد‭ ‬أهل‭ ‬الرايةب‭:‬

الما‭ ‬ضاق‭ ‬المسجد‭ ‬بأهله،‭ ‬شكى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مسلمة‭ ‬بن‭ ‬مخلد‭- ‬وهو‭ ‬الأمير‭ ‬يومئذ‭ - ‬فكتب‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سفيان،‭ ‬فكتب‭ ‬إليه‭ ‬يأمره‭ ‬بالزيادة‭ ‬فيه،‭ ‬فزاد‭ ‬من‭ ‬شرقيه‭ ‬مما‭ ‬يلي‭ ‬دار‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭...... ‬وأمر‭ ‬ببناء‭ ‬منار‭ ‬المسجد‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬الفسطاط،‭ ‬وأمر‭ ‬أن‭ ‬يؤذنوا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬وأمر‭ ‬مؤذني‭ ‬الجامع‭ ‬أن‭ ‬يؤذنوا‭ ‬للفجر‭ ‬إذا‭ ‬مضى‭ ‬نصف‭ ‬الليل،‭ ‬فإذا‭ ‬فرغوا‭ ‬من‭ ‬أذانهم‭ ‬أذن‭ ‬كل‭ ‬مؤذن‭ ‬في‭ ‬الفسطاط‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬لهيعة‭: ‬افكان‭ ‬لأذانهم‭ ‬دوي‭ ‬شديد،‭ ‬وقيل‭ ‬إن‭ ‬معاوية‭ ‬أمره‭ ‬ببناء‭ ‬الصوامع‭ ‬للأذان‭.... ‬وجعل‭ ‬مسلمة‭ ‬للمسجد‭ ‬الجامع‭ ‬أربع‭ ‬صوامع‭ ‬في‭ ‬أركانه‭ ‬الأربعة،‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬جعلها‭ ‬فيه،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭..... ‬وكان‭ ‬السلم‭ ‬الذي‭ ‬يصعد‭ ‬منه‭ ‬المؤذن‭ ‬في‭ ‬الطريق‭, ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬فحوله‭ ‬داخل‭ ‬المسجد‭.‬

ثم‭ ‬تتابع‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬المآذن،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬أشكال‭ ‬وطرز‭ ‬مختلفة‭ ‬للمآذن‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس،‭ ‬لكن‭ ‬أشهر‭ ‬مآذن‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬مئذنة‭ ‬الجيرالدا،‭ ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬شيدت‭ ‬لجامع‭ ‬إشبيلية،‭ ‬ثم‭ ‬حول‭ ‬المسجد‭ ‬إلى‭ ‬كاتدرائية،‭ ‬واستبدل‭ ‬الجوسق‭ ‬العلوي‭ ‬للمئذنة‭ ‬بنهاية‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬طرز‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربي،‭ ‬والمئذنة‭ ‬الملوية‭ ‬لجامع‭ ‬سامراء‭ ‬ومئذنة‭ ‬جامع‭ ‬أبي‭ ‬دلف‭ ‬اللتان‭ ‬تعدان‭ ‬نموذجا‭ ‬فريدا‭ ‬لعمارة‭ ‬المآذن،‭ ‬أما‭ ‬مئذنة‭ ‬الرقة‭ ‬التي‭ ‬بقى‭ ‬منها‭ ‬بدنها‭ ‬الأسطواني‭ ‬حتى‭ ‬شرفة‭ ‬المؤذن،‭ ‬كانت‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬شيدت‭ ‬عليه‭ ‬حلقات‭ ‬من‭ ‬المآذن‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬حتى‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬لكن‭ ‬تستوقفنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬الجغرافية‭ ‬الهائلة‭ ‬مئذنة‭ ‬قطب‭ ‬منار‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬مآذنها‭ ‬باستدارة‭ ‬البدن‭ ‬ونحافته‭ ‬وارتفاعه‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬قاعدة‭ ‬تبدو‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورنت‭ ‬بارتفاعه،‭ ‬ويضيق‭ ‬قطر‭ ‬هذا‭ ‬البدن‭ ‬كلما‭ ‬ارتفع‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬ملحوظة‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬شرفة‭ ‬المؤذن‭ ‬التي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تحملها‭ ‬صفوف‭ ‬من‭ ‬المقرنصات،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يستمر‭ ‬البدن‭ ‬فوقها‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬آخر‭ ‬تتوجه‭ ‬صفوف‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المقرنصات،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يأتي‭ ‬بدن‭ ‬رفيع‭ ‬ثالث‭ ‬تغطيه‭ ‬قبيبة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬البصلة‭ .