ألا قاتل الله المغريات

 تأخذني الحيرة الممزوجة بالألم كلما وجدت كاتباً ينشر أثراً يدل على أنه واسع التفكير، ولكنه مع هذا كله يقف عند النتيجة متغافلاً عن السبب. في حين أن أولية التفكير تقول بأن الكاتب الحق هو الذي لا يتخذ موقفا من حدثٍ من الأحداث إلا بعد أن يدرس أسبابه دراسة مستفيضة، غير أننا وجدنا كثيراً من كتابنا، مع الأسف الشديد، لا يتبعون هذه القاعدة المعروفة لدى أقل الناس إدراكاً للأمور. وآخر كاتب وجدته ينحو هذا النحو الغريب؛ هو الدكتور رضا البهات في رسالة مطولة نشرها في مجلة (أدب ونقد) عدد د رقم (74) / أكتوبر 1991 م.

ولم يكن يعنيني هذا اللون من الكتابة التي تهمل القواعد الأساسية المعروفة، لولا أني رأيت أن مجلة (أدب ونقد) مجلة رصينة تعالج القضايا الأدبية والفلسفية معالجة عقلية وثيقة جريئة. ولو لم أر أن كاتب هذه الرسالة قد انفتح فكره على الإنسانية بأكملها كما يظهر واضحاً في هذه الرسالة. فنراه يقول: (إنها توطئة لكي تصبح الدنيا غابة... مبغى كبيراً، يصبح فيه كيسنجر أميناً عاماً للأمم المتحدة خلفاً لدى كويلار مدعما بشوارتسكوف ليكون أمينا عاماً للمنظمة العالمية لرعاية الأمومة والطفولة أو إحدى المنظمات المعنية بحقوق الإنسان. هل سيستقيم العالم هكذا؟...).

أقول: لو لم يكن كاتب هذه الرسالة على هذه الصورة من السلوك الحضاري لما تكلفت التعليق على بعض ما جاء في رسالته هذه، فكاتبنا يرى أن الحضارة الغربية قد فرغت العقلانية والإخاء والمساواة من محتواها واحدًا بعد الآخر.

الحضارة الأصلح

وأود أن أسأل د. رضا - كاتب هذه الرسالة - سؤالاً بسيطاً هو: هل الحضارة الإنسانية كلها شرقية وغربية أضحت حضارة تدعو إلى الرجوع إلى الغابة؟ ويعود سبب هذا السؤال إلى أن الحضارة الشرقية المتمثلة في روسيا ومن كان يدور في فلكها قد اعترفت بأنها حضارة غير صالحة؛ اعترفت بذلك بعد أن كانت تهز العالم كله هزاً عنيفاً واسعاً احتوى جميع النشاط الإنساني من فلسفة وأدب واقتصاد وسياسة، إلى حدّ سببت معه تخريب كثير من البلاد وإزهاق ما لا يحصى من الأرواح. وهو أمر معروف لا يحتاج إلى حديث مفصل، لأنه واضح لدى الجميع. فلو لم تكن روح الحضارة الغربية هي الأقوى والأصلح لما حدث للدول الاشتراكية ما حدث. ولا يعني ذلك أن الحضارة الغربية مبرأة من الأخطاء . . ومن يقول بأن الحضارة الغربية معصومة من الأخطاء فإنه جاهل لا ينبغي أن يُعتد بأقواله.. فالحضارة الغربية تضم مئات الملايين من البشر. ونحن نعلم أن الإنسان لم يستطع حتى الآن، أن يسيطر على رذائله كالطمع والجشع؛ على الرغم مما بذله الكتّاب الخيرون من جهود جبارة ليغيروا مسيرة الإنسان ليكون منبعاً لما يدعوه العقل والمنطق إلى فعل الخير وحب الجمال. على أن جهود أولئك الخيرين؛ من روائيين وكتّاب وشعراء؛ لم تذهب هدراً بدليل ما نراه من ازدياد قوة اتباع العقل المتمثل في هيئة الأمم المتحدة وما أفرزته من منظمات تعمل بقوة لتنمية العقل والخير والجمال، كالمنظمات المتخصصة بالتربية ومنظمة العقد العالمي للثقافة ومنظمة حقوق الإنسان؛ ومجلس الأمن الدولي الذي ينصر الشرعية في كثير من الأحيان. ومرة أخرى أود أن أبين أني ممن يرى أن هذه المنظمات قد تنحرف عن طبيعة عملها في كثير من الأحيان أيضاً. ولكني أعتقد أن من واجب كل مفكر خيّر بأن يعلن استنكاره لكل انحراف في أي أمر من الأمور.

أعود إلى ما ذكرته في أول هذه الكلمة من رأيّ في د. رضا كاتب هذه الرسالة من أنه قد وقف على النتيجة متغافلاً عن السبب. وذلك حين قال في هذه الرسالة بأن: (الرأسمالية العالمية حلت مشكلتها بضرب العراق واحتواء المنطقة).

العدوان العراقي وبعض الكتّاب

الحق أنني لا أستطيع أن أتصور بأن كاتب هذه الرسالة وأمثاله من الكتاب الذين اتخذوا مثل هذا الموقف من العدوان العراقي على الكويت لم يطلعها على ما بُذل من محاولات شملت معظم زعماء العالم، حيث جاءوا إلى بغداد يوضحون لحاكمها بأنه ينهج نهجاً فيه أكبر الخطر على الأمة العربية، بل على الشرق الأوسط كله، وأن ذلك الحاكم أصمّ أذنيه عن كل النداءات والتوضيحات. كما أني لا أتصور أبداً أن كاتب هذه الرسالة وأمثاله من الكتاب الذين اتخذوا مثل هذا الموقف المؤيد للعدوان العراقي لم يشاهدوا ما حلّ بالكويت من تدمير، لم تقتصر أضراره على الكويت، بل امتدت إلى المنطقة كلها، بل إلى كثير من مناطق العالم.

هل بقي أحد لم يشهد ما حلّ بسبعمائة بئر نفطية من تفجير سبب حريقاً هائلاً بثته جميع وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة؟ أليس من واجب كل كاتب منصف بأن يقول الحق؛ فإن في قول الحق إثراء للعقل وتقوية للعدل وتعزيزاً للحرية؟!! كم أنا قلق وأعتقد أن كثيرين يشاركونني هذا القلق بسبب ما نراه من سلوك كتّاب يملكون زمام الكلمة في طريق يرفضه كل وجدان سليم.

وما زالت الكويت تناشد العالم الإنساني كله في كل وسائل الإعلام بأن يطلق العراق ما لديه من الأسرى من نساء ورجال وأطفال أخذوا قسرا من المساجد ومن بيوتهم بدون جرم اقترفوه. وما أعتقد إلا أن كل ذي حجر يدرك "لو أن حاكم العراق سمع نصيحة الناصحين فانسحب من الكويت دون أن يقوم بما قام به من تدمير لكانت حجة المحتجين على وجود الأجنبي في المنطقة لا يمكن لأحد أن يتنكر لها أو يمارى فيها، ولكن حاكم العراق أخذه الغرور مع الأسف الشديد فوقع ما يؤلم كل محب للعدل والإنصاف.

وعلى كل حال فإني أرجو مخلصًا ألا يكون د. رضا كاتب هذه الرسالة قد وقع في الشراك الذي وقع فيه كثيرون، وهو شراك يتكون من فتح طريق المغريات النقدية وغير النقدية؛ فقد وقع فيه كثيرون من الكتّاب مع الأسف الشديد.

لقد قال أحد المسئولين الذين استطاعوا أن يتخلصوا من هذا الشراك (إن هناك نظرية مؤداها في كل دولة لي صحيفة وفي كل مجلة قلم) انظر كتاب (مذكرات بعثي سابق - سليمان فرحات) ومن يتابع بعض الصحف العربية المهاجرة يتضح له مصداقية هذه النظرية.

وهذا أمر مفجع حقاً لأنه يعني أن المبادئ والقيم والأفكار والآراء أضحت سلعة تباع.

ومجال الحديث في هذا غريض لا نريد الدخول فيه لأني أشعر بجمرة تلذع أحشائي كلما سقط كاتب من الكتّاب الذين كنت أعتز بصداقتهم.

ففيما أشرت إليه كفاية.