ولادة «العروبة الدفاعية»

ولادة «العروبة الدفاعية»

يصادف‭ ‬شهر‭ ‬يونيو‭ ‬ذكرى‭ ‬مرور‭ ‬قرن‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬18‭ ‬و22‭ ‬يونيو‭ ‬1913‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬الكبرى‭ ‬للجمعية‭ ‬الجغرافية‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬وقد‭ ‬نبعت‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬شبان‭ ‬عرب‭ ‬يدرسون‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية‭: ‬عبدالغني‭ ‬العريسي،‭ ‬محمد‭ ‬المحمصاني،‭ ‬توفيق‭ ‬الفايد‭ (‬من‭ ‬بيروت‭)‬،‭ ‬عوني‭ ‬عبدالهادي‭ (‬من‭ ‬نابلس‭)‬،‭ ‬وجميل‭ ‬مردم‭ ‬بك‭ (‬من‭ ‬دمشق‭). ‬وكان‭ ‬المؤتمر‭ ‬ممثلا‭ ‬بهؤلاء‭ ‬الشبان‭ ‬وبحزب‭ ‬اللامركزية‭ ‬الإدارية‭ ‬العثماني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬مركزًا‭ ‬له،‭ ‬وبالجمعية‭ ‬الإصلاحية‭ ‬البيروتية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تألفت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬1912‭. ‬وقد‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬المؤتمر‭ ‬أكثر‭ ‬النشاطات‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭ ‬العلنية‭ ‬التي‭ ‬دافعت‭ ‬عن‭ ‬الفكرة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭. ‬وكتب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مؤرخ‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬وأسبابه‭ ‬وتداعياته،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬ركز‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬المؤتمر‭ ‬الذي‭ ‬دافع‭ ‬عنه‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬مطالبة‭ ‬الفئة‭ ‬الحاكمة‭ ‬من‭ ‬القوميين‭ ‬الأتراك‭ (‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭) ‬بحقوق‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬هاجمه‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬حركة‭ ‬متفقة‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬الأوربية‭ ‬عامة‭ ‬والمصالح‭ ‬الفرنسية‭ ‬خاصة‭ ‬والهادفة،‭ ‬وقتها،‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬تحت‭ ‬احتلالها‭ ‬المباشر‭ ‬أو‭ ‬نفوذها‭ ‬غير‭ ‬المباشر،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثبتته‭ ‬اتفاقيات‭ ‬سايكس‭ - ‬بيكو‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬1914‭ - ‬1918‭ ‬وإقامة‭ ‬الانتداب‭ ‬الفرنسي‭ ‬على‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان‭ ‬والانتداب‭ ‬البريطاني‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬وفلسطين‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬واحد،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬متفرقي‭ ‬الأهواء‭ ‬والمصالح،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مخلصًا‭ ‬للفكرة‭ ‬العربية‭ ‬ويرغب‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬كيان‭ ‬سوري‭ ‬صغير‭ ‬مرتبط‭ ‬بفرنسا‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬متصرفية‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭ ‬التي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬سنجقًا‭ ‬عثمانيًا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الإدارية‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬امحمية‭ ‬أوربيةب‭ ‬سياسيًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬المؤرخ‭ ‬الراحل‭ ‬ألبرت‭ ‬حوراني‭.‬

ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العجالة‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬مختلف‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية‭ ‬السياسية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬باريس،‭ ‬لذلك‭ ‬سنركز‭ ‬على‭ ‬الاتجاه‭ ‬الرئيسي‭ ‬الذي‭ ‬يتـــمثل‭ ‬بعنوانين‭ ‬جاءا‭ ‬على‭ ‬جدول‭ ‬الأعمال‭ ‬ومثّلا‭ ‬فكرتين‭ ‬محركتين‭ ‬لانطلاق‭ ‬المؤتمر‭ ‬ومناقشاته‭. ‬فإذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬العنوان‭ ‬أو‭ ‬الفكرة‭ ‬المحركة‭ ‬الأولى،‭ ‬لتبين‭ ‬لنا‭ ‬أنها‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬االحياة‭ ‬الوطنـــــية‭ ‬ومناهضـــــة‭ ‬الاحتلالب‭. ‬والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭: ‬اعن‭ ‬أي‭ ‬احتلال‭ ‬كان‭ ‬المجتمعون‭ ‬العرب‭ ‬يتحدثون؟ب‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬فكرة‭ ‬المؤتمر‭ ‬وعلة‭ ‬انعقاده‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الإطار‭ ‬التاريخي‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬ضمنه‭. ‬فمنذ‭ ‬1911‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬أوربا‭ ‬بنهش‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أراضيها،‭ ‬فقامت‭ ‬إيطاليا‭ ‬باحتلال‭ ‬طرابلس‭ ‬الغرب‭ ‬منهية‭ ‬بذلك‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬فرنسا‭ ‬قد‭ ‬احتلت‭ ‬الجزائر‭ ‬ثم‭ ‬تونس،‭ ‬وقامت‭ ‬بريطانيا‭ ‬باحتلال‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬العمليات‭ ‬الحربية‭ ‬تلك‭ ‬ومنعًا‭ ‬لوصول‭ ‬إي‭ ‬إمدادات‭ ‬إلى‭ ‬طرابلس‭ ‬الغرب‭ ‬قامت‭ ‬البحرية‭ ‬الإيطالية‭ ‬بقصف‭ ‬ميناء‭ ‬بيروت‭ ‬وأغرقت‭ ‬سفينتين‭ ‬عثمانيتين‭ ‬كانتا‭ ‬راسيتين‭ ‬فيه،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬القوات‭ ‬العثمانية‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬الاعتداء‭ ‬الإيطالي‭ ‬ذاك‭ ‬ففهم‭ ‬سكان‭ ‬بيروت‭ ‬بمثقفيها‭ ‬وأعيانها‭ ‬أنهم‭ ‬ووطنهم‭ ‬أصبحوا‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬الأخطار‭ ‬الأوربية‭. ‬وفي‭ ‬العامين‭ ‬التاليين‭ (‬1913‭ - ‬1912‭) ‬اندلعت‭ ‬الحرب‭ ‬البلقانية‭ - ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬خسرت‭ ‬فيها‭ ‬اسطبنول‭ ‬معظم‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬بقيت‭ ‬بحوزتها‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬إثر‭ ‬ذلك،‭ ‬انطلقت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المناقشات‭ ‬في‭ ‬العواصم‭ ‬الأوربية‭ ‬حول‭ ‬تقسيم‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وكان‭ ‬السياسيون‭ ‬والصحافيون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬واضحين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرهم‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬بلادهم‭ ‬في‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬سورية‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬وأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬إصابة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬والمفكرين‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬مصير‭ ‬سورية‭ ‬مثل‭ ‬مصير‭ ‬الجزائر‭ ‬وقتها،‭ ‬فتداعوا،‭ ‬أولاً،‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬سوري‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬اسمه‭ ‬إلى‭ ‬المؤتمر‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬بسبب‭ ‬مشاركة‭ ‬ممثلين‭ ‬عن‭ ‬أقطار‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬فيه‭ ‬لبحث‭ ‬الأخطار‭ ‬المتربصة‭. ‬وقد‭ ‬استهل‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الزهراوي‭ ‬رئيس‭ ‬المؤتمر‭ ‬المناقشات‭ ‬بكلمة‭ ‬افتتاحية‭ ‬وصف‭ ‬فيها‭ ‬أوضاع‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬وصفًا‭ ‬جامعًا،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬اإننا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ (‬العثمانية‭) ‬فريقان‭: ‬فريق‭ ‬قاطن‭ ‬قرب‭ ‬سواحل‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬وقرب‭ ‬سواحل‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬وقرب‭ ‬سواحل‭ ‬الخليج‭ ‬الفارسي،‭ ‬وفريق‭ ‬قاطن‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬السواحل‭. ‬فالفريق‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬السواحل‭ ‬أكثر‭ ‬احتكاكًا‭ ‬بالحضارة‭ ‬وأخذًا‭ ‬بالعلوم‭ ‬العصرية‭.‬

اأما‭ ‬الفريق‭ ‬البعيد‭ ‬عن‭ ‬السواحل‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬دائمًا‭ ‬يعوض‭ ‬قلة‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬بكثرة‭ ‬محافظته‭ ‬على‭ ‬عزته‭ ‬وحيّزه‭. ‬ومع‭ ‬قلة‭ ‬ذلك‭ ‬النصيب‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬لم‭ ‬يجهلوا‭ ‬أن‭ ‬يقيموا‭ ‬إمارات‭ ‬قد‭ ‬يعجب‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحقوق‭ ‬فيها‭ ‬مضمونة‭ ‬والطرق‭ ‬مأمونة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬المتذبذبة‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬متحضرة‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬ترق‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬أورباب‭.‬

 

مع‭ ‬‮«‬العثمانية‮»‬‭ ‬وضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأوربي

أما‭ ‬أول‭ ‬بند‭ ‬على‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬مؤتمر‭ ‬باريس‭ ‬فكان‭ ‬االحياة‭ ‬الوطنية‭ ‬ومناهضة‭ ‬الاحتلالب‭. ‬لهذا‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الفكرة‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬النقطة‭ ‬فكرة‭ ‬دفاعية‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬والأرض‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوربي‭. ‬ولهذا‭ ‬أيضًا‭ ‬ارتبط‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬الأول‭ ‬بهدف‭ ‬اضرورة‭ ‬الإصلاح‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬اللامركزيةب،‭ ‬لأن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬المشرق‭ ‬اعتبروا‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حمايتهم‭ ‬فطرحوا‭ ‬فكرة‭ ‬التعبئة‭ ‬الذاتية‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬اللامركزية‭ ‬دون‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الذي‭ ‬أنهكته‭ ‬الحروب‭ ‬والهزائم،‭ ‬إذن،‭ ‬كان‭ ‬مصدر‭ ‬الخوف‭ ‬والتخوف‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬العثمانية‭. ‬ولعل‭ ‬أبلغ‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬كتبه‭ ‬محمد‭ ‬كرد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬االمقتبسب‭ ‬الدمشقية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬1912‭ ‬قائلاً‭: ‬ايطلقون‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬شعار‭ ‬امقدونيا‭ ‬للمقدونيينب،‭ ‬وإذا‭ ‬استخدمنا‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬نفسه‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬سورية‭ ‬للسوريين‭ ‬وليس‭ ‬للفرنسيين،‭ ‬لأن‭ ‬سورية‭ ‬عثمانية‭ ‬وستظل‭ ‬كذلك‭ ‬مادامت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الولاية‭ ‬وغيرهاب‭! ‬ويتفق‭ ‬مع‭ ‬كرد‭ ‬علي‭ ‬الذي‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬المؤتمر‭ ‬مع‭ ‬كلام‭ ‬رئيس‭ ‬المؤتمر،‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الزهراوي،‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬أعماله‭: ‬انحن‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬الانفصال‭ ‬بل‭ ‬عكسه‭ ‬ومطالبنا‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬العثمانية‭ ‬مطالب‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تحسين‭ ‬حال‭ ‬الدولة‭ ‬والعنصر‭ ‬العربي‭ ‬معًاب‭.‬

 

وضد‭ ‬المركزية‭ ‬المتطرفة‭ ‬والتتريك

أما‭ ‬الفكرة‭ ‬الثانية‭ ‬المحركة‭ ‬للمؤتمر‭ ‬فجاءت‭ ‬تحت‭ ‬بند‭ ‬احقوق‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬العثمانيةب‭. ‬وقد‭ ‬يظن‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬عرب‭ ‬المشرق‭ ‬الذين‭ ‬مثلوا‭ ‬غالبية‭ ‬أعضاء‭ ‬المؤتمر‭ ‬كانوا‭ ‬يطالبون‭ ‬بامتيازات‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬يريدون‭ ‬وقف‭ ‬سياسة‭ ‬التتريك‭ ‬التعليمية‭ ‬والإدارية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتبعها‭ ‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭ ‬رغبة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬تشديد‭ ‬السياسة‭ ‬المركزية‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬اسطنبول‭. ‬وكانوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يطالبون‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭ ‬وجامعتهم‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الإطار‭ ‬العثماني‭ ‬الأوسع‭. ‬فعندما‭ ‬طرح‭ ‬عبدالغني‭ ‬العريسي‭ ‬سؤالا‭: ‬اهل‭ ‬للعرب‭ ‬حق‭ ‬جماعة؟ب‭ ‬في‭ ‬المؤتمر،‭ ‬أجاب‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬بالقول‭: ‬اإن‭ ‬الجماعات‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬هذا‭ ‬الحق‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬جمعت،‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬علماء‭ ‬الألمان،‭ ‬وحدة‭ ‬اللغة‭ ‬ووحدة‭ ‬العنصر،‭ ‬وعلى‭ ‬رأي‭ ‬علماء‭ ‬الطليان‭ ‬وحدة‭ ‬التاريخ‭ ‬ووحدة‭ ‬العادات،‭ ‬وعلى‭ ‬مذهب‭ ‬ساسة‭ ‬الفرنسيس‭ ‬وحدة‭ ‬المطمح‭ ‬السياسي‭. ‬فإذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬الثلاثة‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬تجمعهم‭ ‬وحدة‭ ‬لغة،‭ ‬ووحدة‭ ‬عنصر،‭ ‬ووحدة‭ ‬تاريخ،‭ ‬ووحدة‭ ‬عادات،‭ ‬ووحدة‭ ‬مطمح‭ ‬سياسي‭. ‬فحق‭ ‬العرب‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬كل‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭ ‬حق‭ ‬جماعة،‭ ‬حق‭ ‬شعب،‭ ‬حق‭ ‬أمةب‭.‬

وأضاف‭ ‬العريسي‭: ‬اتتساءلون‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬حق‭ ‬الجماعة‭ ‬في‭ ‬الأمة‭ ‬العربية،‭ ‬فبيانًا‭ ‬لهذا‭ ‬الحق‭ ‬أقول‭: ‬أول‭ ‬حق‭ ‬لجماعة‭ ‬الشعوب‭ ‬حق‭ ‬الجنسية،‭ ‬فنحن‭ ‬عرب‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬صبغة‭ ‬سياسية‭: ‬حافظنا‭ ‬على‭ ‬خصائصنا‭ ‬وميزاتنا‭ ‬وذاتنا‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬عدة‭ ‬رغمًا‭ ‬عمّا‭ ‬كان‭ ‬ينتابنا‭ ‬من‭ ‬حكومة‭ ‬الأستانة‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الإدارات‭ ‬كالامتصاص‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬التسخير‭ ‬الاستعماري‭ ‬أو‭ ‬الذوبان‭ ‬العنصري‭. ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬تذرّعت‭ ‬به‭ ‬الأستانة‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬نتيجة‭ ‬واحدة‭ ‬وهو‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬مكانة‭ ‬حق‭ ‬الجماعة‭ ‬وإحياء‭ ‬هذا‭ ‬الحس‭ ‬الشريف‭ ‬النبيل‭ ‬حسّ‭ ‬الجنسية‭. ‬فاقتفاء‭ ‬للماضي‭ ‬نقرر‭ ‬مناهضة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤول‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬هذه‭ ‬القومية‭ ‬والتذرّع‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬حياة‭ ‬لخصائص‭ ‬العرب‭ ‬وميزات‭ ‬العرب،‭ ‬فنحن‭ ‬كتلة‭ ‬حية‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها‭ ‬وخاصتها‭ ‬لا‭ ‬تدع‭ ‬أي‭ ‬قوة‭ ‬تمس‭ ‬بناء‭ ‬هذا‭ ‬الركن‭ ‬الركينب‭.‬

إذا،‭ ‬كان‭ ‬المجتمعون‭ ‬يرون‭ ‬وجود‭ ‬قومية‭ ‬عربية‭ ‬متميّزة‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬القوميات،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعني‭ ‬مطالبتهم‭ ‬بالانفصال‭ ‬عن‭ ‬الكيان‭ ‬السياسي‭ ‬العثماني،‭ ‬فهم‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بوجود‭ ‬أمة‭ ‬عربية،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يطرحوا‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬راضين‭ ‬بالولاء‭ ‬للسلطنة‭ ‬العثمانية،‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أيضًا‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬ممثلين‭ ‬التمثيل‭ ‬الصحيح‭ ‬في‭ ‬مرافق‭ ‬الدولة‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬لغتهم‭ ‬العربية‭ (‬التي‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬لغة‭ ‬الدين‭) ‬مستخدمة‭ ‬بصورة‭ ‬قانونية‭ ‬في‭ ‬إدارات‭ ‬ولاياتهم‭ ‬الداخلية‭. ‬فقد‭ ‬فزعوا‭ ‬من‭ ‬قيام‭ ‬حكام‭ ‬اسطنبول‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬التركية‭ - ‬العثمانية‭ ‬هي‭ ‬المقبولة‭ ‬حصرًا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الدوائر‭ ‬الرسمية‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستنتاج‭ ‬بأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬بحركة‭ ‬ثقافية‭ ‬واجتماعية‭ ‬دفاعية‭ ‬أخرى‭ ‬ضد‭ ‬محاولات‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وعن‭ ‬الموظفين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬لايعرفون‭ ‬غيرها‭ ‬آنذاك‭.‬

وهكذا،‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬عروبة‭ ‬المؤتمر‭ ‬الباريسي‭ ‬كانت‭ ‬دفاعية‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والوطن‭ ‬والاحتلال‭ ‬تجاه‭ ‬أوربا‭ ‬وكذا‭ ‬دفاعية‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬الوظائف‭ ‬المحلية‭ ‬وعلى‭ ‬اللغة‭ ‬والثقافة‭ ‬العربيتين‭.‬

 

ما‭ ‬بعد‭ ‬المؤتمر

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬المجتمعون‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬مشترك‭ ‬مع‭ ‬حكام‭ ‬اسطنبول‭ ‬الفعليين،‭ ‬حيث‭ ‬أرسلت‭ ‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭ ‬مندوبًا‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬قدم‭ ‬لهم‭ ‬تنازلات‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمطالبهم‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬المركزية‭. ‬وبالفعل،‭ ‬ساد‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬التفاهم‭ ‬بين‭ ‬العروبيين‭ ‬والسلطة‭ ‬المركزية‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬ارتفعت‭ ‬بالضجة‭ ‬معترضة‭ ‬على‭ ‬الاتفاق،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يهمد‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الخليل،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬ممثلي‭ ‬التيار‭ ‬العروبي،‭ ‬مقنعًا‭ ‬زملاءه‭ ‬بأن‭ ‬الاتفاق‭ ‬هو‭ ‬الأفضل‭ ‬لأنه‭ ‬يحقق‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المطالب‭ ‬العربية‭ ‬ويحافظ‭ ‬على‭ ‬اللحمة‭ ‬العربية‭ - ‬التركية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬يصبح‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأجنبي‭ ‬شبه‭ ‬مؤكد‭.‬

 

محاولة‭ ‬إنقاذ‭ ‬القسم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬السلطنة

وعندما‭ ‬اندلعت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬ودخلتها‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬صيف‭ ‬1914‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ألمانيا‭ ‬وقعت‭ ‬الواقعة‭ ‬التي‭ ‬خشاها‭ ‬عرب‭ ‬المشرق‭ ‬أيّما‭ ‬خشية‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مثقفيهم‭ ‬وزعمائهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬العثماني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتصر‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬تكون‭ ‬روسيا‭ ‬ذات‭ ‬القوات‭ ‬البرية‭ ‬الهائلة‭ ‬والحدود‭ ‬الطويلة‭ ‬المشتركة‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وبريطانيا‭ ‬بقوة‭ ‬أساطيلها‭ ‬البحرية‭ ‬وبجبروتها‭ ‬الدولي‭ ‬وقتها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬حلف‭ ‬الأعداء،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬البوارج‭ ‬البريطانية‭ ‬والفرنسية‭ ‬كانت‭ ‬تقصف‭ ‬سواحل‭ ‬سورية‭ ‬الجغرافية‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬القوات‭ ‬البحرية‭ ‬البريطانية‭ ‬والأسترالية‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬غاليبولي‭ ‬التركية‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬بمضيقي‭ ‬البوسفور‭ ‬والدردنيل‭ ‬الاستراتيجيين‭. ‬ولعل‭ ‬بعضهم‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬فكر‭ ‬وسعى‭ ‬فعلاً،‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬الانعطافة‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭. ‬أما‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يكمن‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬التفكير‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬هزيمة‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬ستفتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬لقيام‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬باستعمار‭ ‬كل‭ ‬الممتلكات‭ ‬العثمانية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المناطق‭ ‬العربية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الحلفاء‭ ‬وخاصة‭ ‬بريطانيا‭ ‬شجعت‭ ‬القيادات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬اسطنبول‭ ‬عام‭ ‬1916‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬هكذا‭ ‬خطوة،‭ ‬مغدقة‭ ‬وعودًا‭ ‬غامضة‭ ‬وملتبسة‭ ‬وتحتمل‭ ‬تفسيرات‭ ‬عدة،‭ ‬والأغلب‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬جادة‭ ‬في‭ ‬تنفيذها،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬البال‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬القيادات‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬أمام‭ ‬خيارين‭ ‬صعبين،‭ ‬كما‭ ‬اجتهدت‭ ‬حينها،‭ ‬وهي‭ ‬تقوم‭ ‬بحساباتها‭: ‬إما‭ ‬الاشتراك‭ ‬بالهزيمة‭ ‬المتوقعة‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وتحمل‭ ‬تبعات‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأجنبي‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬وإما‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬المتوقع‭ ‬لهم‭ ‬النصر‭ ‬والأمل‭ ‬بإنقاذ‭ ‬الأجزاء‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬السلطنة‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬فك‭ ‬الأسد،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬وعود‭ ‬المنتصرين‭! ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬الشيخ‭ ‬رشيد‭ ‬رضا،‭ ‬أحد‭ ‬قادة‭ ‬حزب‭ ‬اللامركزية‭ ‬الإدارية‭ ‬العثماني،‭ ‬وأحد‭ ‬دعاة‭ ‬الاستقلال‭ ‬العربي‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب،‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬يقول،‭ ‬إن‭ ‬لا‭ ‬ضرر‭ ‬من‭ ‬الاستقلال‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الأمة‭ ‬التركية،‭ ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬سقطت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬أُنقذ‭ ‬الجزء‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬خسارة‭ ‬الكل‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬استقلال‭ ‬العرب‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬سقوط‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وإن‭ ‬سلمت‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬وعادت‭ ‬دولة‭ ‬قوية‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوفاق‭ ‬معها‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬دفعت‭ ‬القيادات‭ ‬العربية‭ ‬ثمن‭ ‬خيارها،‭ ‬فساق‭ ‬جمال‭ ‬باشا،‭ ‬قائد‭ ‬الجيش‭ ‬التركي‭ ‬الرابع،‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬شبابها‭ ‬ومنهم‭ ‬الكثير‭ ‬ممن‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬باريس،‭ ‬منهم‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الزهراوي‭ ‬وعبدالغني‭ ‬العريسي‭ ‬إلى‭ ‬المشانق‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬ودمشق‭ ‬بحجة‭ ‬الاتصال‭ ‬بالعدو‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬لا‭ ‬أثنائها،‭ ‬ولم‭ ‬يجر‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬تدقيق‭ ‬في‭ ‬الوثائق‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬قُدمت‭ ‬في‭ ‬محاكماتهم‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬عجل‭.‬

 

هل‭ ‬أخطأ‭ ‬العربيون؟

إلا‭ ‬أن‭ ‬نشوب‭ ‬الحرب‭ ‬غير‭ ‬المعادلات‭ ‬واختارت‭ ‬قيادات‭ ‬الحركة‭ ‬العربية‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬لها‭ ‬أنه‭ ‬أهون‭ ‬الشرين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭. ‬لكن‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬مفاجأته‭ ‬فإذا‭ ‬بثورة‭ ‬البلاشفة‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬عام‭ ‬1917‭ ‬تعيد‭ ‬خلط‭ ‬الأوراق‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬بقيادة‭ ‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭ ‬خسرت‭ ‬الحرب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مصطفى‭ ‬كمال‭ (‬أتاتورك‭) ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يربح‭ ‬الاستقلال،‭ ‬بدعم‭ ‬سوفييتي،‭ ‬لجمهورية‭ ‬تركية‭ ‬في‭ ‬الأناضول‭ ‬غير‭ ‬مهتمة‭ ‬بالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬جنوبها‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬السياسية‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الثقافية‭ ‬ولا‭ ‬الدينية‭. ‬بالتالي،‭ ‬إذن‭ ‬كان‭ ‬صحيحًا‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬خسروا‭ ‬استقلالهم‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬حصل‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬حساباتهم‭ ‬وسياساتهم‭ ‬كانت‭ ‬خاطئة،‭ ‬وكان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتصروا‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬حساباتهم‭ ‬مختلفة‭ ‬أو‭ ‬لو‭ ‬اتبعوا‭ ‬سياسات‭ ‬مغايرة،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬كانت‭ ‬تحتم‭ ‬ذلك‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬ظلوا‭ ‬على‭ ‬ولائهم‭ ‬لإسطنبول‭ ‬أو‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬ثاروا‭ ‬عليها‭ ‬كما‭ ‬فعلوا‭. ‬ولعله‭ ‬يمكن‭ ‬الختام‭ ‬بأن‭ ‬الضعيف‭ ‬مهزوم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يتبعها،‭ ‬كما‭ ‬أثبتت‭ ‬أحداث‭ ‬القرنين‭ ‬الماضيين‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬وطنيًا‭ ‬وسياسيًا‭ ‬وثقافيًا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يجدي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الظروف،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬حق‭ ‬وواجب‭ ‬لا‭ ‬تعيش‭ ‬الأمم‭ ‬من‭ ‬دونه‭ .