ولادة «العروبة الدفاعية»

يصادف شهر يونيو ذكرى مرور قرن كامل على انعقاد المؤتمر العربي الأول في الفترة الواقعة بين 18 و22 يونيو 1913 في القاعة الكبرى للجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس. وقد نبعت الفكرة من خمسة شبان عرب يدرسون في العاصمة الفرنسية: عبدالغني العريسي، محمد المحمصاني، توفيق الفايد (من بيروت)، عوني عبدالهادي (من نابلس)، وجميل مردم بك (من دمشق). وكان المؤتمر ممثلا بهؤلاء الشبان وبحزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي كان يتخذ من القاهرة مركزًا له، وبالجمعية الإصلاحية البيروتية التي كانت قد تألفت في نهاية 1912. وقد مثل ذلك المؤتمر أكثر النشاطات السياسية العربية العلنية التي دافعت عن الفكرة العربية الحديثة قبل الحرب العالمية الأولى. وكتب أكثر من مؤرخ عن هذا الحدث وأسبابه وتداعياته، فكان أن ركز كل من كتب في الموضوع على جانب من جوانب المؤتمر الذي دافع عنه البعض على أساس أنه كان يهدف إلى مطالبة الفئة الحاكمة من القوميين الأتراك (جمعية الاتحاد والترقي) بحقوق العرب في الدولة العثمانية، كما كان منهم من هاجمه بدعوى أنه كان حركة متفقة مع المصالح الأوربية عامة والمصالح الفرنسية خاصة والهادفة، وقتها، إلى وضع المشرق العربي تحت احتلالها المباشر أو نفوذها غير المباشر، الأمر الذي أثبتته اتفاقيات سايكس - بيكو أثناء حرب 1914 - 1918 وإقامة الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان والانتداب البريطاني على العراق وفلسطين بعد الحرب.
لا شك في أن المشاركين في المؤتمر لم يكونوا على قلب واحد، بل كانوا متفرقي الأهواء والمصالح، فمنهم من لم يكن مخلصًا للفكرة العربية ويرغب في إنشاء كيان سوري صغير مرتبط بفرنسا على غرار متصرفية جبل لبنان التي وإن كانت سنجقًا عثمانيًا من الناحية الإدارية إلا أنها كانت امحمية أوربيةب سياسيًا في الوقت ذاته، كما وصفها المؤرخ الراحل ألبرت حوراني.
ولا نستطيع في هذه العجالة التطرق إلى مختلف التيارات الفكرية السياسية الاجتماعية التي تمثلت في مؤتمر باريس، لذلك سنركز على الاتجاه الرئيسي الذي يتـــمثل بعنوانين جاءا على جدول الأعمال ومثّلا فكرتين محركتين لانطلاق المؤتمر ومناقشاته. فإذا عدنا إلى العنوان أو الفكرة المحركة الأولى، لتبين لنا أنها تحدثت عن االحياة الوطنـــــية ومناهضـــــة الاحتلالب. والسؤال الذي يطرح نفسه: اعن أي احتلال كان المجتمعون العرب يتحدثون؟ب.
لا يمكن تفسير فكرة المؤتمر وعلة انعقاده دون النظر إلى الإطار التاريخي العام الذي تم ضمنه. فمنذ 1911 كانت الدولة العثمانية في وضع الدولة التي بدأت أوربا بنهش ما تبقى من أراضيها، فقامت إيطاليا باحتلال طرابلس الغرب منهية بذلك الحكم العثماني في شمال إفريقيا، بعد أن كانت فرنسا قد احتلت الجزائر ثم تونس، وقامت بريطانيا باحتلال مصر في القرن التاسع عشر. وفي إطار العمليات الحربية تلك ومنعًا لوصول إي إمدادات إلى طرابلس الغرب قامت البحرية الإيطالية بقصف ميناء بيروت وأغرقت سفينتين عثمانيتين كانتا راسيتين فيه، ولم تستطع القوات العثمانية الرد على الاعتداء الإيطالي ذاك ففهم سكان بيروت بمثقفيها وأعيانها أنهم ووطنهم أصبحوا في مرمى الأخطار الأوربية. وفي العامين التاليين (1913 - 1912) اندلعت الحرب البلقانية - العثمانية التي خسرت فيها اسطبنول معظم الأراضي التي كنت قد بقيت بحوزتها في أوربا. إثر ذلك، انطلقت سلسلة من المناقشات في العواصم الأوربية حول تقسيم الدولة العثمانية أو ما تبقى منها في آسيا وكان السياسيون والصحافيون الفرنسيون واضحين أكثر من غيرهم في التعبير عن رغبة بلادهم في الاستيلاء على سورية في حال انهيار الدولة العثمانية. وأدى ذلك إلى إصابة الكثير من القادة والمفكرين في بلاد الشام بالخوف من أن يصبح مصير سورية مثل مصير الجزائر وقتها، فتداعوا، أولاً، إلى عقد مؤتمر سوري في باريس ما لبث أن تغير اسمه إلى المؤتمر العربي الأول بسبب مشاركة ممثلين عن أقطار عربية أخرى فيه لبحث الأخطار المتربصة. وقد استهل الشيخ عبدالحميد الزهراوي رئيس المؤتمر المناقشات بكلمة افتتاحية وصف فيها أوضاع البلاد العربية وصفًا جامعًا، حيث قال: اإننا في هذه المملكة (العثمانية) فريقان: فريق قاطن قرب سواحل البحر المتوسط وقرب سواحل البحر الأحمر وقرب سواحل الخليج الفارسي، وفريق قاطن في الداخل بعيدًا عن السواحل. فالفريق القريب من السواحل أكثر احتكاكًا بالحضارة وأخذًا بالعلوم العصرية.
اأما الفريق البعيد عن السواحل فإنه كان دائمًا يعوض قلة نصيبه من الحضارة بكثرة محافظته على عزته وحيّزه. ومع قلة ذلك النصيب من الحضارة لم يجهلوا أن يقيموا إمارات قد يعجب الناس من أن الحقوق فيها مضمونة والطرق مأمونة أكثر مما هي في البلاد المتذبذبة التي تعد متحضرة ولكن لم ترق إلى حضارة أورباب.
مع «العثمانية» وضد الاحتلال الأوربي
أما أول بند على جدول أعمال مؤتمر باريس فكان االحياة الوطنية ومناهضة الاحتلالب. لهذا نقول إن الفكرة العربية كانت عند تلك النقطة فكرة دفاعية عن الوطن والأرض ضد الاستعمار الأوربي. ولهذا أيضًا ارتبط هذا الهدف الأول بهدف اضرورة الإصلاح على قاعدة اللامركزيةب، لأن العديد من عرب المشرق اعتبروا أن الدولة العثمانية لم تعد قادرة على حمايتهم فطرحوا فكرة التعبئة الذاتية والعمل على الاعتماد على النفس على قاعدة اللامركزية دون الرجوع إلى مركز الدولة في العاصمة الذي أنهكته الحروب والهزائم، إذن، كان مصدر الخوف والتخوف من أوربا وليس من العثمانية. ولعل أبلغ تعبير عن ذلك ما كان كتبه محمد كرد علي في جريدة االمقتبسب الدمشقية في نهاية 1912 قائلاً: ايطلقون في أوربا شعار امقدونيا للمقدونيينب، وإذا استخدمنا هذا المنطق نفسه فإن ذلك يعني أن سورية للسوريين وليس للفرنسيين، لأن سورية عثمانية وستظل كذلك مادامت الدولة العثمانية قادرة على الدفاع عن هذه الولاية وغيرهاب! ويتفق مع كرد علي الذي غاب عن المؤتمر مع كلام رئيس المؤتمر، الشيخ عبدالحميد الزهراوي، الذي أعلن قبل بداية أعماله: انحن لا نريد الانفصال بل عكسه ومطالبنا من الحكومة العثمانية مطالب تؤدي إلى تحسين حال الدولة والعنصر العربي معًاب.
وضد المركزية المتطرفة والتتريك
أما الفكرة الثانية المحركة للمؤتمر فجاءت تحت بند احقوق العرب في المملكة العثمانيةب. وقد يظن المرء أن عرب المشرق الذين مثلوا غالبية أعضاء المؤتمر كانوا يطالبون بامتيازات خاصة في الدولة، إلا أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا يريدون وقف سياسة التتريك التعليمية والإدارية والثقافية التي كانت تتبعها جمعية الاتحاد والترقي رغبة منها في تشديد السياسة المركزية من العاصمة اسطنبول. وكانوا في ذلك يطالبون بالقدرة على الحفاظ على حياتهم وجامعتهم السياسية والثقافية، لكن من ضمن الإطار العثماني الأوسع. فعندما طرح عبدالغني العريسي سؤالا: اهل للعرب حق جماعة؟ب في المؤتمر، أجاب هو نفسه بالقول: اإن الجماعات في نظر علماء السياسة لا تستحق هذا الحق إلا إذا جمعت، على رأي علماء الألمان، وحدة اللغة ووحدة العنصر، وعلى رأي علماء الطليان وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب ساسة الفرنسيس وحدة المطمح السياسي. فإذا نظرنا إلى العرب من هذه الوجوه الثلاثة علمنا أن العرب تجمعهم وحدة لغة، ووحدة عنصر، ووحدة تاريخ، ووحدة عادات، ووحدة مطمح سياسي. فحق العرب بعد هذا البيان أن يكون لهم على رأي كل علماء السياسة دون استثناء حق جماعة، حق شعب، حق أمةب.
وأضاف العريسي: اتتساءلون عن ماهية حق الجماعة في الأمة العربية، فبيانًا لهذا الحق أقول: أول حق لجماعة الشعوب حق الجنسية، فنحن عرب قبل كل صبغة سياسية: حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عدة رغمًا عمّا كان ينتابنا من حكومة الأستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري. فكل ما تذرّعت به الأستانة من الوسائل لم يؤد إلى غير نتيجة واحدة وهو الحرص على مكانة حق الجماعة وإحياء هذا الحس الشريف النبيل حسّ الجنسية. فاقتفاء للماضي نقرر مناهضة كل ما يؤول إلى إضعاف هذه القومية والتذرّع بكل ما فيه حياة لخصائص العرب وميزات العرب، فنحن كتلة حية قائمة بذاتها وخاصتها لا تدع أي قوة تمس بناء هذا الركن الركينب.
إذا، كان المجتمعون يرون وجود قومية عربية متميّزة عن غيرها من القوميات، لكن ذلك لم يكن يعني مطالبتهم بالانفصال عن الكيان السياسي العثماني، فهم وإن كانوا يؤمنون بوجود أمة عربية، إلا أنهم لم يطرحوا وقتها أن هذه الأمة بحاجة إلى دولة خاصة بها، بل كانوا راضين بالولاء للسلطنة العثمانية، لكنهم كانوا أيضًا يرغبون في أن يكونوا ممثلين التمثيل الصحيح في مرافق الدولة السياسية والإدارية، وأن تكون لغتهم العربية (التي هي أيضًا لغة الدين) مستخدمة بصورة قانونية في إدارات ولاياتهم الداخلية. فقد فزعوا من قيام حكام اسطنبول باعتبار أن اللغة التركية - العثمانية هي المقبولة حصرًا في جميع الدوائر الرسمية. وعلى هذا يمكن الاستنتاج بأنهم كانوا يقومون بحركة ثقافية واجتماعية دفاعية أخرى ضد محاولات الاستغناء عن اللغة العربية وعن الموظفين العرب الذين لايعرفون غيرها آنذاك.
وهكذا، يمكننا القول إن عروبة المؤتمر الباريسي كانت دفاعية على جبهة الخوف على الأرض والوطن والاحتلال تجاه أوربا وكذا دفاعية على جبهة الخوف على الوظائف المحلية وعلى اللغة والثقافة العربيتين.
ما بعد المؤتمر
لقد استطاع المجتمعون العرب في باريس الوصول إلى اتفاق مشترك مع حكام اسطنبول الفعليين، حيث أرسلت جمعية الاتحاد والترقي مندوبًا إلى باريس قدم لهم تنازلات في ما يتعلق بمطالبهم من الحكومة المركزية. وبالفعل، ساد جو من التفاهم بين العروبيين والسلطة المركزية بالرغم من أن بعض الأصوات ارتفعت بالضجة معترضة على الاتفاق، الأمر الذي لم يهمد إلا بعد أن تدخل عبدالكريم الخليل، أحد أبرز ممثلي التيار العروبي، مقنعًا زملاءه بأن الاتفاق هو الأفضل لأنه يحقق جزءًا كبيرًا من المطالب العربية ويحافظ على اللحمة العربية - التركية التي من دونها يصبح الاحتلال الأجنبي شبه مؤكد.
محاولة إنقاذ القسم العربي من السلطنة
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ودخلتها الدولة العثمانية صيف 1914 إلى جانب ألمانيا وقعت الواقعة التي خشاها عرب المشرق أيّما خشية. فقد كان الكثير من مثقفيهم وزعمائهم يعتقدون أن الجيش العثماني لا يمكن أن ينتصر في حرب تكون روسيا ذات القوات البرية الهائلة والحدود الطويلة المشتركة مع الدولة العثمانية وبريطانيا بقوة أساطيلها البحرية وبجبروتها الدولي وقتها من بين حلف الأعداء، خاصة أن البوارج البريطانية والفرنسية كانت تقصف سواحل سورية الجغرافية بين الحين والآخر، كما أن القوات البحرية البريطانية والأسترالية كانت تحاول الاستيلاء على شبه جزيرة غاليبولي التركية التي تتحكم بمضيقي البوسفور والدردنيل الاستراتيجيين. ولعل بعضهم كان قد فكر وسعى فعلاً، عند تلك الانعطافة إلى الاستقلال والخروج عن الدولة. أما السبب الذي كان يكمن وراء ذلك التفكير فهو أن هزيمة الدولة العثمانية ستفتح الباب على مصراعيه لقيام الدول الغربية باستعمار كل الممتلكات العثمانية بما فيها المناطق العربية. ولا شك أن الحلفاء وخاصة بريطانيا شجعت القيادات العربية التي اشتركت في الثورة العربية على اسطنبول عام 1916 على اتخاذ هكذا خطوة، مغدقة وعودًا غامضة وملتبسة وتحتمل تفسيرات عدة، والأغلب أنها لم تكن جادة في تنفيذها، إلا أنه يجب ألا يغيب عن البال أن تلك القيادات العربية كانت أمام خيارين صعبين، كما اجتهدت حينها، وهي تقوم بحساباتها: إما الاشتراك بالهزيمة المتوقعة مع الدولة العثمانية وتحمل تبعات الاحتلال الأجنبي في المشرق العربي، وإما الانحياز إلى المتوقع لهم النصر والأمل بإنقاذ الأجزاء العربية من السلطنة العثمانية من فك الأسد، وكذلك الحصول على جزء من وعود المنتصرين! وقد عبّر الشيخ رشيد رضا، أحد قادة حزب اللامركزية الإدارية العثماني، وأحد دعاة الاستقلال العربي أثناء الحرب، عن هذا الموقف عندما كتب يقول، إن لا ضرر من الاستقلال العربي على الدولة العثمانية ولا على الأمة التركية، لأنه إذا سقطت الدولة في الحرب يكون قد أُنقذ الجزء بدلاً من خسارة الكل ولا يكون استقلال العرب أحد أسباب سقوط الدولة العثمانية، وإن سلمت من الحرب وعادت دولة قوية لا يكون هناك مانع من العودة إلى الوفاق معها.
ومع ذلك، دفعت القيادات العربية ثمن خيارها، فساق جمال باشا، قائد الجيش التركي الرابع، العشرات من شبابها ومنهم الكثير ممن اشترك في مؤتمر باريس، منهم عبدالحميد الزهراوي وعبدالغني العريسي إلى المشانق في بيروت ودمشق بحجة الاتصال بالعدو قبل الحرب لا أثنائها، ولم يجر حتى الآن تدقيق في الوثائق التاريخية التي قُدمت في محاكماتهم العسكرية على عجل.
هل أخطأ العربيون؟
إلا أن نشوب الحرب غير المعادلات واختارت قيادات الحركة العربية ما بدا لها أنه أهون الشرين في تلك الظروف. لكن التاريخ لا يفصح عن مفاجأته فإذا بثورة البلاشفة في موسكو عام 1917 تعيد خلط الأوراق. ومع أن الدولة العثمانية بقيادة جمعية الاتحاد والترقي خسرت الحرب، إلا أن مصطفى كمال (أتاتورك) استطاع أن يربح الاستقلال، بدعم سوفييتي، لجمهورية تركية في الأناضول غير مهتمة بالعلاقة مع جنوبها العربي لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الثقافية ولا الدينية. بالتالي، إذن كان صحيحًا أن العرب خسروا استقلالهم بعد الحرب العالمية الأولى، فإن ذلك حصل لا لأن حساباتهم وسياساتهم كانت خاطئة، وكان يمكن أن ينتصروا لو كانت حساباتهم مختلفة أو لو اتبعوا سياسات مغايرة، بل لأن موازين القوى كانت تحتم ذلك سواء كانوا قد ظلوا على ولائهم لإسطنبول أو كانوا قد ثاروا عليها كما فعلوا. ولعله يمكن الختام بأن الضعيف مهزوم على كل الأحوال، ومهما كانت الإستراتيجية السياسية التي قد يتبعها، كما أثبتت أحداث القرنين الماضيين. ومع أن الدفاع عن النفس وطنيًا وسياسيًا وثقافيًا قد لا يجدي في بعض الظروف، إلا أنه حق وواجب لا تعيش الأمم من دونه .