المناخ العثماني لـحركة الإصلاح العربية

المناخ العثماني لـحركة الإصلاح العربية

استنهضت‭ ‬ثورة‭ ‬1908‭ ‬الدستورية‭ ‬همم‭ ‬التيارات‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬فراحت‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬تسلك‭ ‬سبيل‭ ‬المبادرة‭ ‬العلنية‭ ‬إلى‭ ‬إعلان‭ ‬أمانيها‭ ‬وتميل‭ ‬إلى‭ ‬توخي‭ ‬الإقدام‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬مطالبها‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬التيار‭ ‬العربي‭ ‬بتنويعات‭ ‬مختلفة‭ ‬فيه‭. ‬وذاك‭ ‬أن‭ ‬كلّ‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬أطرافه‭ ‬كان‭ ‬يعتمد‭ ‬لحركته‭ ‬نطاقا‭ ‬أو‭ ‬قاعدة‭ ‬ترابية‭ ‬بعينها‭. ‬وكان‭ ‬يختلف‭ ‬التصور‭ ‬لمضامين‭ ‬الحركات‭ ‬ولأساس‭ ‬التضامن‭ ‬المعلن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬وطبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬المتوخاة‭ ‬بالدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وبالقوى‭ ‬الدولية‭ ‬الأخرى‭. ‬وهذه‭ ‬اختلافات‭ ‬لم‭ ‬يخل‭ ‬تحديدها‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬للوجهات‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬جنحت‭ ‬إلى‭ ‬التسيّس‭ ‬وتوزّعت‭ ‬مفاتيحها‭ ‬على‭ ‬القنصليات‭ ‬الأوربية‭ ‬ومراجع‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

لم‭ ‬تنشئ‭ ‬إعادة‭ ‬الدستور‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬القومية‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬القرن‭ ‬الآفل،‭ ‬هو‭ ‬قرن‭ ‬القوميات‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬قد‭ ‬عصف‭ ‬بالدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وأفقدها‭ ‬معظم‭ ‬ممتلكاتها‭ ‬الأوربية‭. ‬بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬بانفصال‭ ‬اليونان‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1830،‭ ‬ثم‭ ‬تسلسلت‭ ‬الخسائر‭ ‬في‭ ‬البلقان‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لهذا‭ ‬الغليان‭ ‬أن‭ ‬يستثني‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬شهدته‭ ‬هذه‭ ‬الولايات‭ ‬من‭ ‬نزاعات‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬المذكور‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقرأ،‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانبه،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬باعتباره‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬إرهاصات‭ ‬الحركة‭ ‬القومية‭ ‬وعن‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬التي‭ ‬استثارتها‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭. ‬وهذا‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الحركة‭ ‬المذكورة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬استقرّت‭ ‬على‭ ‬صيغة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬غالبة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬توا‭. ‬فكانت‭ ‬لاتزال‭ ‬تختلط‭ ‬فيها،‭ ‬بلا‭ ‬شعور‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الحسم،‭ ‬نزعات‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬السورية‭ ‬والعربية‭ ‬واللبنانية،‭ ‬وكان‭ ‬العامل‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬الطائفي‭ ‬يجاور‭ ‬فيها‭ ‬عصبية‭ ‬الجماعة‭ ‬القومية‭.‬

وكان‭ ‬النهوض‭ ‬الأرمني،‭ ‬على‭ ‬التخصيص،‭ ‬يزداد‭ ‬بروزًا‭ ‬بموازاة‭ ‬الحركة‭ ‬العربية‭ ‬ويلتقيها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقع‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬حركة‭ ‬اتركيا‭ ‬الفتاةب‭ ‬أو‭ ‬اجمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقيب‭ (‬وهي‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬على‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الثاني‭ ‬إعادة‭ ‬العمل‭ ‬بالدستور‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬يوليو‭ (‬تموز‭) ‬1908‭ ‬ثم‭ ‬أجبرته‭ ‬على‭ ‬التنحي‭ ‬بعد‭ ‬محاولته‭ ‬الارتداد‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬التالية‭)‬،‭ ‬إنما‭ ‬كانت‭ ‬تعبيرًا‭ ‬تركيًا‭ ‬عن‭ ‬النزعة‭ ‬القومية‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬استولت‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬الشعوب‭ ‬والجماعات‭ ‬في‭ ‬نواحي‭ ‬السلطنة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬عجبًا‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ ‬التركي‭ ‬مختلفًا‭ ‬عن‭ ‬سواه‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬حركته‭. ‬ففيما‭ ‬يتعدى‭ ‬الهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬المعلنة‭ ‬أساسًا‭ ‬للدولة‭ ‬وسببًا‭ ‬لصيغة‭ ‬الخلافة،‭ ‬كان‭ ‬العنصر‭ ‬التركي‭ ‬هو‭ ‬المتغلّب‭ ‬وكانت‭ ‬حركات‭ ‬العناصر‭ ‬القومية‭ ‬الأخرى‭ ‬تواجه،‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬أستار‭ ‬من‭ ‬الإنكار‭ ‬والملاينة،‭ ‬هيمنته‭ ‬المختلفة‭ ‬الوجوه‭ ‬والنازعة،‭ ‬مع‭ ‬استبداد‭ ‬الشعور‭ ‬القومي،‭ ‬إلى‭ ‬التجذّر‭ ‬والاحتدام‭. ‬فكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تطغى‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬القومية‭ ‬التركية‭ ‬نزعة‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الدولة‭ ‬ومركزية‭ ‬السلطة‭ ‬فيه‭. ‬كانت‭ ‬تزيّن‭ ‬هذه‭ ‬المحافظة،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعدى‭ ‬تباين‭ ‬الأجنحة‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬التركية،‭ ‬ضرورات‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬أراضي‭ ‬الدولة‭.. ‬إذ‭ ‬بدا‭ ‬أنها‭ ‬صائرة‭ ‬إلى‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬قبضتها‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الحركات‭ ‬القومية‭ ‬المتنامية‭ ‬في‭ ‬الداخل‭. ‬وفي‭ ‬الجوار‭ ‬كانت‭ ‬تتعاظم‭ ‬المطامع‭ ‬الأوربية‭ ‬الضاربة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬خطرها‭ ‬العسكري،‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬اقتصاد‭ ‬السلطنة‭ ‬وماليتها‭. ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬اتصال‭ ‬هذه‭ ‬المطامع‭ ‬بحوزات‭ ‬الجماعات‭ ‬من‭ ‬طائفة‭ ‬وقومية،‭ ‬في‭ ‬توقها‭ ‬إلى‭ ‬الحماية‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال‭. ‬كان‭ ‬الميل‭ ‬الأساسي‭ ‬للحركة‭ ‬القومية‭ ‬التركية‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬الدولة‭ ‬ومركزيتها،‭ ‬إذن،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬ميل‭ ‬الحركات‭ ‬الأخرى‭ ‬متجهًا‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بالإصلاح‭ ‬اللامركزي‭ ‬مع‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬استبقاء‭ ‬التبعية‭ ‬للدولة‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬إضمار‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانفصال‭ ‬تحت‭ ‬حماية‭ ‬راع‭ ‬أوربي‭ ‬كان‭ ‬معروفًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حالة‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬فرض‭ ‬حضوره‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬عقر‭ ‬ديارها‭ ‬وبين‭ ‬صفوف‭ ‬الجماعات‭ ‬المنتمية‭ ‬إليها‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬النزعة‭ ‬المركزية‭ ‬التركية‭ ‬لم‭ ‬تبرز‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬بعد‭ ‬1908‭. ‬وإنما‭ ‬برزت‭ ‬النزعة‭ ‬الدستورية‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬الوحدة‭ ‬بين‭ ‬الأقوام‭ ‬والملل‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأخطار‭ ‬الداهمة‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الأوربية‭. ‬وهذه‭ ‬أخطار‭ ‬متنوعة‭ ‬كانت،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬إقامة‭ ‬بعضها‭ ‬بين‭ ‬ظهراني‭ ‬السلطنة،‭ ‬تقترب،‭ ‬بوجهها‭ ‬العسكري،‭ ‬من‭ ‬عاصمة‭ ‬السلطنة،‭ ‬وتوشك،‭ ‬لولا‭ ‬خشية‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬من‭ ‬التذابح‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬حول‭ ‬سرير‭ ‬االرجل‭ ‬المريضب،‭ ‬على‭ ‬الإجهاز‭ ‬عليها‭.‬

هذه‭ ‬الغلبة‭ ‬للوجه‭ ‬الدستوري‭ ‬لانقلاب‭ ‬1908،‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬تلته‭ ‬مباشرة،‭ ‬قابلها‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬العربية،‭ ‬إقبال‭ ‬النخب‭ ‬الكثيف‭ ‬نسبيًا‭ ‬على‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬اجمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقيب‭ ‬وفتح‭ ‬النوادي‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬وتعليق‭ ‬الآمال‭ ‬على‭ ‬سعيها‭ ‬الإصلاحي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬البروز‭ ‬السريع،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الضباط‭ ‬الاتحاديين‭ ‬لبوادر‭ ‬التعصب‭ ‬والأثرة،‭ ‬وكذلك‭ ‬عوامل‭ ‬التنازع‭ ‬والتنافس‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬النخب‭ ‬العربية‭ ‬نفسها،‭ ‬حملت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأعيان‭ ‬والمتنورين‭ ‬على‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬الجهة‭ ‬التركية‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬أكثر‭ ‬اعتدالاً‭ ‬في‭ ‬مقاربتها‭ ‬مسألة‭ ‬القوميات‭ ‬ومسألة‭ ‬الإصلاح‭. ‬وقد‭ ‬تمثلت‭ ‬هذه‭ ‬الجهة‭ ‬تباعًا‭ ‬بحزب‭ ‬االأحرارب‭ ‬وبحزب‭ ‬االحرية‭ ‬والائتلافب‭. ‬وقد‭ ‬أتيح‭ ‬لهذا‭ ‬الأخير‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬مدة‭ ‬قصيرة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يطيحه‭ ‬انقلاب‭ ‬جديد‭ - ‬سنعود‭ ‬إليه‭ - ‬دبّره‭ ‬الاتحاديون‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬الصدارة‭ ‬العظمى‭ ‬والوزراء‭ ‬بؤرة‭ ‬السلطة‭ ‬الفعلية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كفّت‭ ‬يد‭ ‬السلطان‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬وأصبح‭ ‬مقامه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعدّ‭ ‬رمزيًا‭. ‬وهذا‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬ضباط‭ ‬اجمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقيب‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬قد‭ ‬أقدموا،‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬العهد‭ ‬الدستوري،‭ ‬على‭ ‬الاستيلاء‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬بل‭ ‬هم‭ ‬اكتفوا‭ ‬بتشكيل‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬المراقبة‭ ‬أو‭ ‬جماعة‭ ‬الضغط،‭ ‬موظفين‭ ‬نفوذهم‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬عمل‭ ‬الصدارة‭ ‬العظمى‭ ‬والوزراء،‭ ‬ما‭ ‬استطاعوا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلاً‭.‬

 

أدوار‭ ‬أوربية

والواقع‭ ‬أن‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬لعبت‭ ‬الدور‭ ‬الأول،‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬التمزّق‭ ‬النهائي‭ ‬بين‭ ‬مخالب‭ ‬الدول‭: ‬تلك‭ ‬المحاذية‭ ‬لتخومها‭ ‬الأوربية‭ ‬أو‭ ‬القريبة‭ ‬إليها‭ ‬شأن‭ ‬روسيا‭ ‬واليونان‭ ‬والنمسا‭ ‬والمجر‭ ‬وصربيا،‭ ‬وتلك‭ ‬البعيدة‭ ‬قليلاً‭ ‬أو‭ ‬كثيرًا‭ ‬شأن‭ ‬فرنسا‭ ‬وبروسيا‭ ‬قبل‭ ‬تحقق‭ ‬الوحدة‭ ‬الألمانية،‭ ‬ثم‭ ‬إيطاليا‭ ‬وألمانيا‭ ‬بعد‭ ‬توحيدهما‭. ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الحماية‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬انكماش‭ ‬السلطنة‭ ‬المتزايد‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وقد‭ ‬نشأت‭ ‬من‭ ‬بعضه‭ ‬دول‭ ‬جديدة،‭ ‬شأن‭ ‬بلغاريا‭ ‬وصربيا،‭ ‬وحصل‭ ‬بعضه‭ ‬الآخر‭ ‬لمصلحة‭ ‬دول‭ ‬قائمة‭. ‬وكانت‭ ‬بريطانيا‭ ‬بجبروتها،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬تهالك‭ ‬التاج‭ ‬العثماني‭. ‬فمدّت‭ ‬يدها‭ ‬إلى‭ ‬ممتلكات‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬وآسيا‭: ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬سنة‭ ‬1882‭ ‬وإلى‭ ‬عدن‭ ‬والسواحل‭ ‬العربـــية‭ ‬للـخلـــيج،‭ ‬حيث‭ ‬بسطت‭ ‬حمايتها‭ ‬ونفوذها‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئا‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬العثماني‭ ‬لبريطانيا‭ ‬يأخذ‭ ‬في‭ ‬حسبانه‭ ‬ما‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬تعذر‭ ‬اقتسام‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬النهائي‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬أوربية‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬البريطاني‭ ‬أخذ‭ ‬يواجه،‭ ‬بعد‭ ‬1908،‭ ‬ما‭ ‬ذكرناه‭ ‬من‭ ‬نزوع‭ ‬القوميين‭ ‬الأتراك‭ ‬ممثلين،‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬بحركة‭ ‬اتركيا‭ ‬الفتاةب‭ ‬وضباطها،‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬المنعة‭ ‬والاستقلال‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وإخراجها‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬النفوذ‭ ‬السياسي‭ ‬والمالي‭ ‬لبريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬خصوصا،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬سلامتها‭ ‬الإقليمية‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬واجهت،‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا،‭ ‬طغيان‭ ‬عبدالحميد‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬وعجزه‭ ‬حيال‭ ‬القوى‭ ‬الأوربية‭ ‬المتربصة‭ ‬بالدولة‭. ‬وقد‭ ‬راح‭ ‬النافذون‭ ‬الجدد‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬العسكريين‭ ‬خصوصًا‭ ‬يبدون‭ ‬ميلاً‭ ‬متزايدًا‭ ‬إلى‭ ‬محالفة‭ ‬ألمانيا‭ ‬والتقرّب‭ ‬منها‭ ‬باعتبارها‭ ‬قوة‭ ‬أوربية،‭ ‬متعاظمة‭ ‬الشأن‭ ‬العسكري‭ ‬والاقتصادي‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نزعة‭ ‬توسعية‭ ‬ظاهرة‭. ‬هذا‭ ‬فيما‭ ‬بقي‭ ‬لبريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬مؤيدون‭ ‬بين‭ ‬المدنيين‭ ‬من‭ ‬الاتحاديين‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الموازنة‭ ‬للنفوذ‭ ‬البريطاني‭ - ‬الفرنسي‭ ‬بدور‭ ‬ألماني‭ ‬قد‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عبدالحميد‭. ‬ولكنها‭ ‬راحت‭ ‬تزداد‭ ‬وضوحًا‭ ‬بعد‭ ‬خلع‭ ‬االسلطان‭ ‬الأحمرب‭ ‬ثم‭ ‬استيلاء‭ ‬جماعة‭ ‬االاتحاد‭ ‬والترقيب‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬الألماني‭ ‬للحركة‭ ‬القومية‭ ‬التركية‭ ‬يقابل‭ ‬ميولاً‭ ‬فرنسية‭ ‬أو‭ ‬بريطانية‭ ‬تتوزّع‭ ‬على‭ ‬الحركات‭ ‬القومية‭ ‬الأخرى‭ ‬أو‭ ‬فروعها،‭ ‬ومنها‭ ‬فروع‭ ‬الحركة‭ ‬العربية‭. ‬وكان‭ ‬يشي،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مسبق،‭ ‬بصورة‭ ‬الاستقطاب‭ ‬الأوربي‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬صورته‭ ‬القتالية‭ ‬الجلية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭.‬

 

حقوق‭ ‬الرعايا‭ ‬ومحنة‭ ‬الدولة

يلقي‭ ‬هذا‭ ‬الاستقطاب‭ ‬ضوءًا‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬بروز‭ ‬وجهتين‭ ‬متخالفتين‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬العثمانية،‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬الدستورية‭. ‬الأولى‭ ‬وجهة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬سلامة‭ ‬الدولة‭ ‬واستنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬استنقاذه‭ ‬من‭ ‬استقلالها‭ ‬وهيبتها‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الدولي،‭ ‬والثانية‭ ‬وجهة‭ ‬ضمان‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬التي‭ ‬كفلها‭ ‬الدستور‭ ‬والاستجابة‭ ‬لدواعي‭ ‬الإصلاح‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬بروزها‭ ‬محتومًا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الوضع‭ ‬الدستوري‭ ‬الجديد‭ ‬وفي‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬بلغتها‭ ‬الدولة‭ ‬بما‭ ‬كانت‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬وتيارات‭. ‬وقد‭ ‬رأينا‭ ‬الوجهة‭ ‬الأولى‭ ‬تملي‭ ‬بناء‭ ‬سلطة‭ ‬مركزية‭ ‬متماسكة‭ ‬وضبط‭ ‬القوى‭ ‬النازعة‭ ‬إلى‭ ‬الانعزال‭ ‬أو‭ ‬الانفصال‭ ‬والمائلة،‭ ‬فوق‭ ‬ذلك،‭ ‬إلى‭ ‬ممالأة‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬المعتبرة‭ ‬موضوع‭ ‬حذر‭ ‬ونفور‭. ‬وهذان‭ (‬الحذر‭ ‬والنفور‭) ‬سيصبحان‭ ‬عداء‭ ‬سافرًا‭ ‬بعد‭ ‬حين‭. ‬هذا‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬الوجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬تدفع‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬العامة‭ ‬مطالب‭ ‬واضحة‭ ‬الصفة‭ ‬القومية‭ ‬أصبح‭ ‬يجملها‭ ‬عنوان‭ ‬الإصلاح‭ ‬اللامركزي،‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬ينجم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬أو‭ ‬يتصل‭ ‬به‭ ‬الارتفاع‭ ‬بشأن‭ ‬اللغة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬وفي‭ ‬المعاملات‭ ‬وحصر‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكرية،‭ ‬أيام‭ ‬السلم،‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المنشأ‭... ‬إلخ‭. ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬لبّ‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬تعظيم‭ ‬صلاحيات‭ ‬المجالس‭ ‬العمومية‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬سلطة‭ ‬الولاة‭ ‬وفي‭ ‬التوزيع‭ ‬اللامركزي‭ ‬للموارد‭ ‬العمومية‭. ‬ولم‭ ‬يأنف‭ ‬أصحاب‭ ‬هذه‭ ‬الوجهة‭ ‬من‭ ‬المطالبة‭ ‬باستقدام‭ ‬خبراء‭ ‬أوربيين‭ ‬يعيدون‭ ‬تنظيم‭ ‬الإدارات‭ ‬والخدمات‭ ‬في‭ ‬ديارهم‭ ‬ويواصلون‭ ‬الإشراف‭ ‬عليها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتاح‭ ‬لأبناء‭ ‬البلاد‭ ‬أن‭ ‬يقوموا‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭ ‬بالكفاية‭ ‬المطلوبة‭. ‬ولقد‭ ‬قيّض‭ ‬لهاتين‭ ‬النزعتين‭ ‬مدى‭ ‬زمني‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬تواجهتا‭ ‬فيه‭ ‬كرًا‭ ‬وفرًا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتغلب‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الثانية‭ ‬وتسحقها‭ ‬مؤقتا‭ ‬أو‭ ‬تخرجها‭ ‬من‭ ‬نطاق‭ ‬الولاء‭ ‬للدولة‭ ‬برمته،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬العشايا‭ ‬القريبة‭ ‬للحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬وفي‭ ‬غدوات‭ ‬نشوبها‭.‬

في‭ ‬مضمار‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬الدولة،‭ ‬كانت‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬حركة‭ ‬1908‭ ‬سنوات‭ ‬شؤم‭ ‬عظيم‭. ‬وبدا‭ ‬أنها‭ ‬تكذّب‭ ‬مزاعم‭ ‬أصحاب‭ ‬الحركة‭ ‬لهذه‭ ‬الجهة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬جماعة‭ ‬االاتحاد‭ ‬والترقيب‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬لقيادة‭ ‬الدولة‭ ‬مباشرة،‭ ‬سالكين‭ ‬سبيل‭ ‬الانقلاب‭ ‬الموصوف،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يبطلوا‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬سائر‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬الثورة‭ ‬من‭ ‬حريّات‭ ‬وحقوق‭. ‬وخلاصة‭ ‬ما‭ ‬شهدته‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ (‬تموز‭)  ‬1908‭ ‬أن‭ ‬خسائر‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬ممتلكاتها‭ ‬الأوربية‭ ‬فاقت‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬قد‭ ‬خسرته‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الحميدي‭ ‬كله‭. ‬بكرت‭ ‬كريت‭ ‬إلى‭ ‬إعلان‭ ‬انضمامها‭ ‬إلى‭ ‬اليونان،‭ ‬وقامت‭ ‬في‭ ‬ألبانيا‭ ‬ثورة‭ ‬واضحة‭ ‬المنحى‭ ‬القومي‭ ‬وعادت‭ ‬روسيا‭ ‬تهدّد‭ ‬المضائق،‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬تنشيط‭ ‬الحركة‭ ‬الأرمنية‭. ‬وكانت‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬بريطانيا‭ ‬قد‭ ‬ازدادت‭ ‬صعوبة‭ ‬بعدما‭ ‬أقيلت‭ ‬وزارة‭ ‬كامل‭ ‬باشا‭ ‬المعتبر‭ ‬مقربًا‭ ‬إلى‭ ‬البريطانيين‭. ‬كذلك‭ ‬تمنّعت‭ ‬فرنسا،‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مصالح‭ ‬اقتصادية‭ ‬ضخمة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العثمانية،‭ ‬عن‭ ‬منح‭ ‬الدولة‭ ‬قرضًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬مبدية‭ ‬حذرًا‭ ‬من‭ ‬الشحنة‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬الانقلاب‭. ‬وهذا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تجهز‭ ‬الحرب‭ ‬البلقانية‭ ‬على‭ ‬مقدونيا‭ ‬وتراقيا‭ ‬الغربية‭ ‬فتقتسمهما‭ ‬بلغاريا‭ ‬واليونان‭ ‬وصربيا‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬صدم‭ ‬الأهالي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬كان‭ ‬الهجوم‭ ‬الإيطالي‭ ‬على‭ ‬السواحل‭ ‬الليبية‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬1911،‭ ‬ثم‭ ‬إعلان‭ ‬إيطاليا،‭ ‬بعد‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬الساحل،‭ ‬ضمّ‭ ‬طرابلس‭ ‬وبنغازي‭ ‬إلى‭ ‬ممتلكاتها‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬المقاومة‭ ‬العثمانية‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬اشتدّت‭ ‬واشتركت‭ ‬فيها‭ ‬عناصر‭ ‬عربية‭ ‬ومنعت‭ ‬القوات‭ ‬الإيطالية‭ ‬من‭ ‬التوغل‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬الليبي،‭ ‬فإن‭ ‬عرب‭ ‬الولايات‭ ‬الآسيوية‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الإيطالية‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬عجز‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬حمايتهم‭ ‬وسببًا‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬مستقلّ‭ ‬لشئون‭ ‬بلادهم،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬النفوذ‭ ‬الفرنسي‭ ‬والبريطاني‭ ‬ولا‭ ‬مطامح‭ ‬هاتين‭ ‬الدولتين‭ ‬خافيين‭ ‬فيها‭. ‬ذاك‭ ‬قلق‭ ‬زاد‭ ‬فيه‭ ‬قصف‭ ‬الدوارع‭ ‬الإيطالية‭ ‬لبيروت،‭ ‬في‭ ‬مساق‭ ‬الحرب‭ ‬الليبية‭ ‬نفسها،‭ ‬وتدميرها‭ ‬سفنًا‭ ‬عثمانية‭ ‬في‭ ‬مرفأ‭ ‬المدينة‭. ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يفترض‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الإصلاحيون‭ ‬العرب‭ ‬يضمرون‭ ‬عداء‭ ‬لبريطانيا‭ ‬وفرنسا،‭ ‬بل‭ ‬معظمهم‭ ‬يعوّل‭ ‬على‭ ‬رعايتهما‭ ‬وعونهما‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬طالبي‭ ‬الإصلاح‭ ‬للدولة،‭ ‬وكانوا‭ ‬ينشئون‭ ‬علاقات‭ ‬مع‭ ‬ممثلي‭ ‬الدولتين‭ ‬في‭ ‬عواصم‭ ‬الولايات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬توزّعها‭ ‬بريئًا‭ ‬من‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الطائفية‭. ‬وهذا‭ ‬مع‭ ‬ميل‭ ‬غالب‭ ‬عند‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬مع‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬السلطنة،‭ ‬ومع‭ ‬ميل‭ ‬مسيحي،‭ ‬كاثوليكي‭ ‬خصوصًا،‭ ‬غالـــب‭ ‬أيضًا،‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الانفصال‭. ‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬يستلهم‭ ‬النموذج‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطاني،‭ ‬يصل‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القبول‭ (‬وحتى‭ ‬المطالبة‭) ‬باحتلال‭ ‬فرنسي‭ ‬للبلاد‭. ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬الانفصالي‭ ‬كان‭ ‬لابدّ‭ ‬أن‭ ‬يزداد‭ ‬قوة‭ ‬وانتشارًا‭ ‬حين‭ ‬عمدت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬سنة‭ ‬1912‭ ‬إلى‭ ‬الاستسلام‭ ‬الكلي‭ ‬للمطالب‭ ‬الإيطالية‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الخطر‭ ‬الداهم‭ ‬الذي‭ ‬مثلته‭ ‬الحرب‭ ‬الوشيكة‭ ‬في‭ ‬البلقان‭. ‬أنهت‭ ‬الدولة‭ ‬أيضًا‭ ‬العصيان‭ ‬الألباني،‭ ‬وقد‭ ‬تميّز‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تواجه‭ ‬أوربا‭ ‬بكونه‭ ‬تمرّد‭ ‬شعب‭ ‬مسلم‭ ‬على‭ ‬دولة‭ ‬الإسلام‭. ‬أنهته‭ ‬بالإقرار‭ ‬للألبان‭ ‬بالاستقلال‭ ‬مع‭ ‬استبقاء‭ ‬تبعية‭ ‬مسلميهم‭ ‬الدينية‭ ‬للسلطان‭.‬

وكانت‭ ‬هاتان‭ ‬الهزيمتان‭ ‬يتعذّر‭ ‬بقاؤهما‭ ‬بلا‭ ‬تأثير‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬الرعايا‭ ‬العرب،‭ ‬مسلمين‭ ‬ومسيحيين،‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭.‬

 

الفرصة‭ ‬البلقانية

كانت‭ ‬دول‭ ‬البلقان‭ ‬قد‭ ‬مهّدت‭ ‬لاستئناف‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬بأحلاف‭ ‬عقدتها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭. ‬فحصل‭ ‬تفاهم‭ ‬يوناني‭ ‬بلغاري‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1911‭ ‬وتلاه‭ ‬توافق‭ ‬صربي‭ ‬بلغاري‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1912‭ ‬تبعته‭ ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬معاهدة‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬الدولتين‭ ‬نظّمت‭ ‬سلفًا‭ ‬تقسيم‭ ‬مقدونيا‭ ‬العثمانية‭ ‬وشفعت‭ ‬باتفاق‭ ‬دفاع‭ ‬مشترك‭ ‬يوناني‭ ‬بلغاري‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬أخيرًا‭ ‬انضمّ‭ ‬الجبل‭ ‬الأسود‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحلف‭ ‬العريض‭ ‬بتوقيعه‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬1912‭ ‬اتفاقين‭ ‬عسكريين‭ ‬مع‭ ‬بلغاريا‭ ‬وصربيا‭. ‬كانت‭ ‬مقدونيا‭ ‬مدار‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬أكتوبر‭ ‬ووصلت‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬أبواب‭ ‬أدرنة‭ ‬وهي‭ ‬خط‭ ‬الدفاع‭ ‬الأخير‭ ‬عن‭ ‬استانبول‭ ‬نفسها‭. ‬هذا‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬القوى‭ ‬المتحالفة‭ ‬تقتسم‭ ‬مقدونيا‭ ‬وتستردّ‭ ‬اليونان‭ ‬ما‭ ‬تعتبره‭ ‬تابعًا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الجزر‭.. ‬فتخسر‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أسابيع‭ ‬جناحها‭ ‬الأوربي،‭ ‬إلا‭ ‬أقلّه‭ ‬المؤدي‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة،‭ ‬وتفقد‭ ‬أدرنة‭ ‬نفسها‭ ‬ولكن‭ ‬لتستردّها‭ ‬بعد‭ ‬حين‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬حزب‭ ‬االاتحاد‭ ‬والترقّيب‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬إذ‭ ‬ذاك،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬حزب‭ ‬االحرية‭ ‬والائتلافب‭. ‬فشكّل‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬وزارة‭ ‬جديدة‭ ‬برئاسة‭ ‬كامل‭ ‬باشا،‭ ‬آملاً‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬استدراج‭ ‬دعم‭ ‬بريطاني‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هزيمة‭ ‬بدت‭ ‬صاعقة‭. ‬وفي‭ ‬المفاوضات‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1912،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬توقف‭ ‬القتال‭ ‬بسعي‭ ‬بريطاني،‭ ‬استمات‭ ‬الجانب‭ ‬العثماني‭ ‬للاحتفاظ‭ ‬بأدرنة‭ ‬وبالجزر‭ ‬الإيجية‭ ‬مقدّمًا‭ ‬تنازلات‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بما‭ ‬تبقّى‭. ‬ولكن‭ ‬الاتحاديين‭ ‬رفعوا،‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬لواء‭ ‬المقاومة،‭ ‬آخذين‭ ‬على‭ ‬الوزارة‭ ‬ملاينتها‭ ‬الأعداء‭. ‬وفي‭ ‬23‭ ‬ديسمبر‭ ‬1913،‭ ‬دخل‭ ‬أنور‭ ‬أحد‭ ‬الأبطال‭ ‬الأسطوريين‭ ‬للثورة‭ ‬الدستورية‭ ‬قاعة‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬شاهرًا‭ ‬مسدسه‭ ‬وأجبر‭ ‬الصدر‭ ‬الأعظم‭ ‬كامل‭ ‬باشا‭ ‬على‭ ‬الاستقالة‭. ‬هذه‭ ‬الاستقالة‭ ‬عدّت‭ ‬نكسة‭ ‬لآمال‭ ‬العرب‭ ‬الإصلاحية‭. ‬ومذ‭ ‬ذاك‭ ‬انفردت‭ ‬جماعة‭ ‬االاتحاد‭ ‬والترقيب‭ ‬مباشرة‭ ‬بالسلطة‭ ‬ليبقوا‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬ويتحمّلوا‭ ‬المسئولية‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬الحوادث‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭.‬

 

صحف‭ ‬وجمعيّات

عند‭ ‬هذه‭ ‬النقطة،‭ ‬أي‭ ‬حرب‭ ‬البلقان‭ ‬وعواقبها‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬القتال‭ ‬وفي‭ ‬العاصمة،‭ ‬تحسّن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬المساق‭ ‬الثوري‭ ‬الذي‭ ‬أطلقته‭ ‬حركة‭ ‬1908،‭ ‬وهو‭ ‬الوجه‭ ‬المقابل،‭ ‬بل‭ ‬المعاكس،‭ ‬للسعي‭ ‬التركي‭ ‬إلى‭ ‬تقوية‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭ ‬وإلى‭ ‬التعبئة‭ ‬وراء‭ ‬الجيش‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬السلامة‭ ‬الإقليمية‭ ‬للدولة‭. ‬ذاك‭ ‬وجه‭ ‬الحريات‭ ‬التي‭ ‬أتاحت‭ ‬إنشاء‭ ‬الجمعيات‭ ‬وتكاثر‭ ‬الصحف‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬وفي‭ ‬قواعد‭ ‬الولايات‭ ‬وتصاعد‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬اللامركزي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تعزيز‭ ‬مكانة‭ ‬اللغة‭ ‬الخاصة‭ ‬بكل‭ ‬قومية‭. ‬فالواقع‭ ‬أن‭ ‬ظروف‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1912‭ ‬والأولى‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1913‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يأذن‭ ‬بفهم‭ ‬التحرّكات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬1913‭. ‬وهي‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬يأذن‭ ‬بفهم‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬حيال‭ ‬العرب‭ ‬ومطالبهم‭. ‬وهذه‭ ‬سياسة‭ ‬تطوّرت‭ ‬من‭ ‬المسايرة،‭ ‬وحتى‭ ‬التشجيع،‭ ‬إلى‭ ‬المراوغة‭ ‬في‭ ‬الوفاء‭ ‬بالوعود،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬الإصلاحيين‭ ‬بالقمع‭. ‬وهذا‭ ‬موقف‭ ‬ستؤدي‭ ‬ظروف‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬تفاقمه،‭ ‬فتصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬الجمعيات‭ ‬الإصلاحية‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ ‬الحرب‭ ‬العرفي،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬تعليق‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬المشانق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬ودمشق‭.‬

في‭ ‬مجال‭ ‬الصحافة،‭ ‬كان‭ ‬لسان‭ ‬الحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬جريدتا‭ ‬االمفيدب‭ ‬لعبدالغني‭ ‬العريسي‭ ‬واالاتحاد‭ ‬العثمانيب‭ ‬للشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬طبّارة‭ ‬وكلاهما‭ ‬سيكون‭ ‬سنة‭ ‬1916‭ ‬بين‭ ‬مَن‭ ‬أرسلهم‭ ‬الديوان‭ ‬العرفي‭ ‬إلى‭ ‬المشانق‭. ‬وفي‭ ‬دمشق‭ ‬نطقت‭ ‬باسم‭ ‬الإصلاحيين‭ ‬جريدة‭ ‬االمقتبسب‭ ‬لمحمد‭ ‬كرد‭ ‬علي‭. ‬وأما‭ ‬الجمعيات‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬طليعتها‭ ‬االمنتدى‭ ‬الأدبيب،‭ ‬في‭ ‬الأستانة‭ ‬نفسها،‭ ‬وكان‭ ‬رئيسه‭ ‬المحامي‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الخليل‭. ‬وكان‭ ‬االمنتدىب‭ ‬عند‭ ‬تأسيسه،‭ ‬غداة‭ ‬ثورة‭ ‬1908،‭ ‬ملتقى‭ ‬للطلاب‭ ‬العرب،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬بؤرة‭ ‬للنشاط‭ ‬السياسي‭ ‬القومي‭ ‬العربي،‭ ‬وكان‭ ‬لرئيسه‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬المطالب‭ ‬التي‭ ‬سيتمخّض‭ ‬عنها‭ ‬مؤتمر‭ ‬باريس‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬أرسلهم‭ ‬ديوان‭ ‬جمال‭ ‬باشا‭ ‬العرفي‭ ‬إلى‭ ‬المشانق‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬دفعة‭ ‬شهدت‭ ‬إعدامها‭ ‬ساحة‭ ‬البرج‭ ‬في‭ ‬بيروت‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬برامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬العربية‭ ‬تمخّضت‭ ‬عنها‭ ‬الجمعيات‭ ‬التي‭ ‬تشكّلت‭ ‬بين‭ ‬أواخر‭ ‬1912‭ ‬وأوائل‭ ‬1913‭ ‬في‭ ‬قواعد‭ ‬الولايات‭ ‬العربية‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬المغتربات‭. ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬صدر‭ ‬قانون‭ ‬للجمعيات‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1909‭ ‬استوحى‭ ‬قانون‭ ‬1901‭ ‬الفرنسي‭ ‬لجهة‭ ‬تشريع‭ ‬الانتظام‭ ‬وتسهيل‭ ‬إجراءاته‭. ‬ولكنه‭ ‬ضيّق‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الانتظام‭ ‬السياسي‭ ‬وخصوصًا‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬العنصر‭ ‬أو‭ ‬القومية‭ ‬أساسًا‭ ‬له‭. ‬وأما‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬حركة‭ ‬تشكيل‭ ‬الجمعيات‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬تجدّد‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬البلقان،‭ ‬فكان،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬انشغال‭ ‬الدولة‭ ‬بالحرب،‭ ‬وتضعضع‭ ‬سطوتها‭ ‬الداخلية‭ ‬وحاجتها‭ ‬إلى‭ ‬الهدوء‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬الولايات،‭ ‬أن‭ ‬خسارتها‭ ‬ممتلكاتها‭ ‬الأوربية‭ ‬أحالتها،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التقريب،‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ثنائية‭ ‬القومية‭ ‬يمثل‭ ‬سوادها‭ ‬العنصران‭ ‬التركي‭ ‬والعربي،‭ ‬ويتخللها‭ ‬عناصر‭ ‬أخرى‭ ‬أقليّة‭. ‬وكان‭ ‬العرب‭ ‬والترك‭ ‬يبدوان‭ ‬شبه‭ ‬متساويين‭ ‬فيها‭ ‬لجهة‭ ‬الثقل‭ ‬السكاني‭ ‬مع‭ ‬تفاوت‭ ‬فادح‭ ‬بينهما‭ ‬لجهة‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬مقاليد‭ ‬السلطة‭ ‬والحضور‭ ‬السياسي‭ ‬والإداري‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬قد‭ ‬نحا‭ ‬إلى‭ ‬الازدياد‭ ‬مع‭ ‬هيمنة‭ ‬الاتحاديين‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬ونزوعهم‭ ‬إلى‭ ‬التشدّد‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬عصبيتهم‭ ‬التركية‭ ‬أو‭ ‬الطورانية‭ ‬وفي‭ ‬إخراجها‭ ‬إلى‭ ‬حيّز‭ ‬الفعل‭.‬

وفي‭ ‬باريس‭ ‬واستانبول‭ ‬ثم‭ ‬بيروت،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تألفت،‭ ‬بين‭ ‬1911و1913،‭ ‬جمعيتا‭ ‬االفتاةب‭ ‬واالعهدب‭ ‬السريّتان‭. ‬وهما‭ ‬جمعيتان‭ ‬سيبقى‭ ‬لهما‭ ‬شأن‭ ‬كبير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬الكونية‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يعنينا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الجمعيات‭ ‬التي‭ ‬رفعت‭ ‬علنًا‭ ‬شعار‭ ‬الإصلاح‭. ‬وأهمّ‭ ‬هذه‭ ‬اثنتان‭ ‬هما‭ ‬احزب‭ ‬اللامركزية‭ ‬الإداريةب‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬واالجمعية‭ ‬الإصلاحيةب‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬وقد‭ ‬تأسستا‭ ‬بين‭ ‬أواخر‭ ‬1912‭ ‬وأوائل‭ ‬1913،‭ ‬مستفيدتين‭ ‬من‭ ‬المناخ‭ ‬الذي‭ ‬أشاعته‭ ‬وزارة‭ ‬احزب‭ ‬الحرية‭ ‬والائتلافب‭ ‬بصدارة‭ ‬كامل‭ ‬باشا‭. ‬وهذا‭ ‬مناخ‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬مدته‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬انتهت‭ ‬بإطاحة‭ ‬الاتحاديين‭ ‬هذه‭ ‬الوزارة‭ ‬بالقوة،‭ ‬

 

من‭ ‬أفول‭ ‬‮«‬الجمعية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر

عمد‭ ‬الوالي‭ ‬الاتحادي‭ ‬النزعة‭ ‬أبوبكر‭ ‬حازم‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬جمعية‭ ‬بيروت،‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬أبريل‭ ‬1913‭. ‬فأثار‭ ‬ذلك‭ ‬إضرابًا‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬اشتركت‭ ‬فيه‭ ‬الصحافة،‭ ‬إذ‭ ‬ظهرت‭ ‬الصحف‭ ‬خالية‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قرار‭ ‬الحلّ‭ ‬هذا‭. ‬وكان‭ ‬الوالي‭ ‬السابق‭ ‬أدهم،‭ ‬وهو‭ ‬االائتلافيب‭ ‬الميل،‭ ‬قد‭ ‬شجّع،‭ ‬بخلاف‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬إنشاء‭ ‬الجمعية‭ ‬وتعهد‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬مطالبها‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭. ‬وكانت‭ ‬اللائحة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬الجمعية‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1913‭ ‬قد‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬جهد‭ ‬لاستيعاب‭ ‬لائحة‭ ‬ذات‭ ‬مشرب‭ ‬مماثل‭ ‬وضعها‭ ‬الحزب‭ ‬اللامركزي‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭. ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حمل‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الخليل‭ ‬لائحة‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬جمعية‭ ‬بيروت‭. ‬

وعليه‭ ‬طلعت‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬بأوفى‭ ‬صيغة‭ ‬للإصلاح‭ ‬المركزي‭ ‬أعلنت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭. ‬ولم‭ ‬يفت‭ ‬هذه‭ ‬اللائحة‭ ‬إعلان‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬استقدام‭ ‬مستشارين‭ ‬ومفتشين‭ ‬أوربيين‭ ‬لتوجيه‭ ‬دفة‭ ‬الإدارات،‭ ‬وذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬أبناء‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بهذا‭ ‬العبء‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬المرغوب‭. ‬وهذا‭ ‬مطلب‭ ‬ذكرنا‭ ‬أن‭ ‬أعضاء‭ ‬الجمعية‭ ‬المسيحيين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الصلة‭ ‬بالقناصل‭ ‬الأوربيين،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬بقنصليات‭ ‬فرنسا،‭ ‬كانوا‭ ‬يشدّدون‭ ‬عليه‭. ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬استلهمها‭ ‬المؤتمر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ببضعة‭ ‬أشهر‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الجمعية‭ ‬البيروتية‭ ‬هم‭ ‬سليم‭ ‬علي‭ ‬سلام‭ ‬وأيوب‭ ‬تابت‭ ‬وأحمد‭ ‬طبارة‭ ‬وألبير‭ ‬سرسق‭ ‬وأحمد‭ ‬مختار‭ ‬بيهم‭ ‬وخليل‭ ‬زينية‭ ‬بين‭ ‬حضور‭ ‬المؤتمر‭ ‬الفاعلين‭.‬

ماطلت‭ ‬المراجع‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬تقبّل‭ ‬مطالب‭ ‬الإصلاحيين‭ ‬العرب‭ ‬وراوحت‭ ‬في‭ ‬ردّها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القمع‭ ‬والتملّص‭ ‬والقبول‭ ‬الجزئي‭ ‬ثم‭ ‬المماطلة‭ ‬في‭ ‬التنفيذ‭. ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ (‬وإن‭ ‬على‭ ‬تفاوت‭) ‬مع‭ ‬الواليين‭ ‬أدهم‭ ‬وحازم‭ ‬اللذين‭ ‬تعاقبا‭ ‬على‭ ‬بيروت‭.. ‬ثم‭ ‬مع‭ ‬حلّ‭ ‬الجمعية،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬مع‭ ‬المراوغة‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬وعود‭ ‬أعطاها‭ ‬أركان‭ ‬الاتحاد‭ ‬والترقي‭ ‬لعبدالكريم‭ ‬الخليل‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬الأستانة‭. ‬كان‭ ‬منحى‭ ‬التتريك‭ ‬هو‭ ‬المعبّر‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬الفعلي‭ ‬للاتحاديين‭. ‬وكانت‭ ‬نذر‭ ‬الحرب‭ ‬تتكاثر‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬أوربا‭ ‬ويزداد‭ ‬وضوحًا‭ ‬أن‭ ‬مصير‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أصله‭ ‬سيحسم‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الأوربية‭. ‬وإذ‭ ‬ذاك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬يعلق‭ ‬على‭ ‬الأعواد،‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬تقريبًا‭ ‬على‭ ‬المؤتمر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬رئيس‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الزهراوي،‭ ‬والمفاوض‭ ‬على‭ ‬مقرراته‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الخليل‭ ‬ونفر‭ ‬آخرون‭ ‬من‭ ‬حملة‭ ‬قضية‭ ‬الإصلاح‭ ‬اللامركزي‭ ‬والحقوق‭ ‬العربية‭ ‬كان‭ ‬بينهم‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسين‭ ‬البارزين‭ ‬لجمعية‭ ‬بيروت‭ ‬الإصلاحية‭ .