المناخ العثماني لـحركة الإصلاح العربية

استنهضت ثورة 1908 الدستورية همم التيارات القومية في الدولة العثمانية. فراحت هذه التيارات تسلك سبيل المبادرة العلنية إلى إعلان أمانيها وتميل إلى توخي الإقدام في سعيها إلى تحقيق مطالبها. وكان من بين هذه التيارات التيار العربي بتنويعات مختلفة فيه. وذاك أن كلّ طرف من أطرافه كان يعتمد لحركته نطاقا أو قاعدة ترابية بعينها. وكان يختلف التصور لمضامين الحركات ولأساس التضامن المعلن في كل منها وطبيعة العلاقة المتوخاة بالدولة العثمانية وبالقوى الدولية الأخرى. وهذه اختلافات لم يخل تحديدها من دور للوجهات الطائفية التي كانت قد جنحت إلى التسيّس وتوزّعت مفاتيحها على القنصليات الأوربية ومراجع الدولة العثمانية نفسها في مدى القرن التاسع عشر.
لم تنشئ إعادة الدستور هذه التيارات القومية. فقد كان القرن الآفل، هو قرن القوميات في أوربا، قد عصف بالدولة العثمانية وأفقدها معظم ممتلكاتها الأوربية. بدأ ذلك بانفصال اليونان عنها في سنة 1830، ثم تسلسلت الخسائر في البلقان. ولم يكن لهذا الغليان أن يستثني الولايات العربية في آسيا وإفريقيا، بل إن ما شهدته هذه الولايات من نزاعات في القرن المذكور يمكن أن يقرأ، في جانب من جوانبه، على الأقل، باعتباره تعبيرًا عن إرهاصات الحركة القومية وعن ردود الأفعال التي استثارتها هذه الأخيرة. وهذا مع أن الحركة المذكورة لم تكن قد استقرّت على صيغة واحدة أو غالبة في هذا العقد الأول من القرن العشرين، وهو ما أشرنا إليه توا. فكانت لاتزال تختلط فيها، بلا شعور بالحاجة إلى الحسم، نزعات عدة من قبيل السورية والعربية واللبنانية، وكان العامل الديني أو الطائفي يجاور فيها عصبية الجماعة القومية.
وكان النهوض الأرمني، على التخصيص، يزداد بروزًا بموازاة الحركة العربية ويلتقيها في بعض المواقع. ويمكن القول إن حركة اتركيا الفتاةب أو اجمعية الاتحاد والترقيب (وهي التي فرضت على عبدالحميد الثاني إعادة العمل بالدستور في حركة يوليو (تموز) 1908 ثم أجبرته على التنحي بعد محاولته الارتداد على تلك الحركة في السنة التالية)، إنما كانت تعبيرًا تركيًا عن النزعة القومية نفسها التي كانت قد استولت على سائر الشعوب والجماعات في نواحي السلطنة. ولم يكن عجبًا أن يأتي هذا التعبير التركي مختلفًا عن سواه في اتجاه حركته. ففيما يتعدى الهوية الإسلامية المعلنة أساسًا للدولة وسببًا لصيغة الخلافة، كان العنصر التركي هو المتغلّب وكانت حركات العناصر القومية الأخرى تواجه، ولو من خلف أستار من الإنكار والملاينة، هيمنته المختلفة الوجوه والنازعة، مع استبداد الشعور القومي، إلى التجذّر والاحتدام. فكان لابد من أن تطغى في الحركة القومية التركية نزعة المحافظة على وحدة الدولة ومركزية السلطة فيه. كانت تزيّن هذه المحافظة، في ما يتعدى تباين الأجنحة في الحركة التركية، ضرورات الدفاع عن أراضي الدولة.. إذ بدا أنها صائرة إلى الإفلات من قبضتها تحت وطأة الحركات القومية المتنامية في الداخل. وفي الجوار كانت تتعاظم المطامع الأوربية الضاربة، فضلا عن خطرها العسكري، في عمق اقتصاد السلطنة وماليتها. هذا إلى اتصال هذه المطامع بحوزات الجماعات من طائفة وقومية، في توقها إلى الحماية إن لم يكن إلى الانفصال. كان الميل الأساسي للحركة القومية التركية إلى وحدة الدولة ومركزيتها، إذن، فيما كان ميل الحركات الأخرى متجهًا إلى القول بالإصلاح اللامركزي مع الرغبة في استبقاء التبعية للدولة أو مع إضمار الرغبة في الانفصال تحت حماية راع أوربي كان معروفًا في كل حالة وكان قد فرض حضوره على الدولة ودوره في عقر ديارها وبين صفوف الجماعات المنتمية إليها.
على أن النزعة المركزية التركية لم تبرز على الفور، بعد 1908. وإنما برزت النزعة الدستورية والسعي إلى استعادة الوحدة بين الأقوام والملل في مواجهة الأخطار الداهمة من الجهة الأوربية. وهذه أخطار متنوعة كانت، فضلاً عن إقامة بعضها بين ظهراني السلطنة، تقترب، بوجهها العسكري، من عاصمة السلطنة، وتوشك، لولا خشية الدول الأوربية من التذابح في ما بينها حول سرير االرجل المريضب، على الإجهاز عليها.
هذه الغلبة للوجه الدستوري لانقلاب 1908، في الأعوام الثلاثة التي تلته مباشرة، قابلها من الجهة العربية، إقبال النخب الكثيف نسبيًا على الانتساب إلى اجمعية الاتحاد والترقيب وفتح النوادي لها في المدن العربية وتعليق الآمال على سعيها الإصلاحي. غير أن البروز السريع، من جهة الضباط الاتحاديين لبوادر التعصب والأثرة، وكذلك عوامل التنازع والتنافس التي كانت فاعلة في صفوف النخب العربية نفسها، حملت كثيرًا من الأعيان والمتنورين على الانحياز إلى الجهة التركية التي بدت أكثر اعتدالاً في مقاربتها مسألة القوميات ومسألة الإصلاح. وقد تمثلت هذه الجهة تباعًا بحزب االأحرارب وبحزب االحرية والائتلافب. وقد أتيح لهذا الأخير أن يسيطر على الحكم مدة قصيرة من الزمن، قبل أن يطيحه انقلاب جديد - سنعود إليه - دبّره الاتحاديون. وكان ذلك في عهد أصبحت فيه الصدارة العظمى والوزراء بؤرة السلطة الفعلية بعد أن كفّت يد السلطان عن هذه الأخيرة وأصبح مقامه أقرب إلى أن يعدّ رمزيًا. وهذا مع العلم أن ضباط اجمعية الاتحاد والترقيب لم يكونوا قد أقدموا، في أوائل العهد الدستوري، على الاستيلاء المباشر على السلطة، بل هم اكتفوا بتشكيل نوع من جهاز المراقبة أو جماعة الضغط، موظفين نفوذهم الحاسم في توجيه عمل الصدارة العظمى والوزراء، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
أدوار أوربية
والواقع أن بريطانيا العظمى لعبت الدور الأول، طوال القرن التاسع عشر، في حماية الدولة العثمانية من التمزّق النهائي بين مخالب الدول: تلك المحاذية لتخومها الأوربية أو القريبة إليها شأن روسيا واليونان والنمسا والمجر وصربيا، وتلك البعيدة قليلاً أو كثيرًا شأن فرنسا وبروسيا قبل تحقق الوحدة الألمانية، ثم إيطاليا وألمانيا بعد توحيدهما. ولكن هذه الحماية لم تمنع انكماش السلطنة المتزايد في أوربا وقد نشأت من بعضه دول جديدة، شأن بلغاريا وصربيا، وحصل بعضه الآخر لمصلحة دول قائمة. وكانت بريطانيا بجبروتها، في تلك المرحلة، في طليعة المستفيدين من تهالك التاج العثماني. فمدّت يدها إلى ممتلكات السلطان في إفريقيا وآسيا: إلى مصر التي احتلتها سنة 1882 وإلى عدن والسواحل العربـــية للـخلـــيج، حيث بسطت حمايتها ونفوذها شيئًا فشيئا. وكان هذا الدور العثماني لبريطانيا يأخذ في حسبانه ما سبقت الإشارة إليه من تعذر اقتسام الدولة العثمانية النهائي بمعزل عن حرب أوربية واسعة النطاق.
على أن هذا الدور البريطاني أخذ يواجه، بعد 1908، ما ذكرناه من نزوع القوميين الأتراك ممثلين، على الخصوص، بحركة اتركيا الفتاةب وضباطها، إلى استعادة المنعة والاستقلال للدولة العثمانية وإخراجها من دائرة النفوذ السياسي والمالي لبريطانيا وفرنسا خصوصا، فضلا عن حماية سلامتها الإقليمية. فقد كانت هذه الأهداف ماثلة في صميم الحركة التي واجهت، في آن معًا، طغيان عبدالحميد في الداخل وعجزه حيال القوى الأوربية المتربصة بالدولة. وقد راح النافذون الجدد في الدولة من العسكريين خصوصًا يبدون ميلاً متزايدًا إلى محالفة ألمانيا والتقرّب منها باعتبارها قوة أوربية، متعاظمة الشأن العسكري والاقتصادي من غير نزعة توسعية ظاهرة. هذا فيما بقي لبريطانيا وفرنسا مؤيدون بين المدنيين من الاتحاديين. وكانت هذه الموازنة للنفوذ البريطاني - الفرنسي بدور ألماني قد ظهرت في الواقع منذ أواخر القرن التاسع عشر، أي في عهد عبدالحميد. ولكنها راحت تزداد وضوحًا بعد خلع االسلطان الأحمرب ثم استيلاء جماعة االاتحاد والترقيب مباشرة على السلطة. وكان هذا الميل الألماني للحركة القومية التركية يقابل ميولاً فرنسية أو بريطانية تتوزّع على الحركات القومية الأخرى أو فروعها، ومنها فروع الحركة العربية. وكان يشي، على نحو مسبق، بصورة الاستقطاب الأوربي الذي لن يلبث أن يتخذ صورته القتالية الجلية في الحرب العالمية الأولى.
حقوق الرعايا ومحنة الدولة
يلقي هذا الاستقطاب ضوءًا آخر على بروز وجهتين متخالفتين في الساحة العثمانية، بعد الثورة الدستورية. الأولى وجهة الدفاع عن سلامة الدولة واستنقاذ ما يمكن استنقاذه من استقلالها وهيبتها في المجال الدولي، والثانية وجهة ضمان الحقوق والحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور والاستجابة لدواعي الإصلاح التي كان بروزها محتومًا في ظل الوضع الدستوري الجديد وفي المرحلة التي كانت قد بلغتها الدولة بما كانت تنطوي عليه من نزعات وتيارات. وقد رأينا الوجهة الأولى تملي بناء سلطة مركزية متماسكة وضبط القوى النازعة إلى الانعزال أو الانفصال والمائلة، فوق ذلك، إلى ممالأة الدول الأوربية المعتبرة موضوع حذر ونفور. وهذان (الحذر والنفور) سيصبحان عداء سافرًا بعد حين. هذا فيما كانت الوجهة الأخرى تدفع إلى الساحة العامة مطالب واضحة الصفة القومية أصبح يجملها عنوان الإصلاح اللامركزي، وبين ما ينجم عن هذا الإصلاح أو يتصل به الارتفاع بشأن اللغة القومية في التعليم وفي المعاملات وحصر الخدمة العسكرية، أيام السلم، في بلاد المنشأ... إلخ. فضلا عن لبّ هذه الصيغة المتمثل في تعظيم صلاحيات المجالس العمومية في وجه سلطة الولاة وفي التوزيع اللامركزي للموارد العمومية. ولم يأنف أصحاب هذه الوجهة من المطالبة باستقدام خبراء أوربيين يعيدون تنظيم الإدارات والخدمات في ديارهم ويواصلون الإشراف عليها، إلى أن يتاح لأبناء البلاد أن يقوموا بهذا الدور بالكفاية المطلوبة. ولقد قيّض لهاتين النزعتين مدى زمني لم يتجاوز بضع سنوات تواجهتا فيه كرًا وفرًا قبل أن تتغلب الأولى على الثانية وتسحقها مؤقتا أو تخرجها من نطاق الولاء للدولة برمته، وذلك في العشايا القريبة للحرب العالمية الأولى وفي غدوات نشوبها.
في مضمار المحافظة على سلامة الدولة، كانت السنوات التي تلت حركة 1908 سنوات شؤم عظيم. وبدا أنها تكذّب مزاعم أصحاب الحركة لهذه الجهة. وهو ما دفع جماعة االاتحاد والترقيب إلى التقدم لقيادة الدولة مباشرة، سالكين سبيل الانقلاب الموصوف، ولكن من غير أن يبطلوا على الفور سائر ما جاءت به الثورة من حريّات وحقوق. وخلاصة ما شهدته السنوات الثلاث التي تلت ثورة يوليو (تموز) 1908 أن خسائر الدولة العثمانية من ممتلكاتها الأوربية فاقت ما كانت الدولة قد خسرته في العهد الحميدي كله. بكرت كريت إلى إعلان انضمامها إلى اليونان، وقامت في ألبانيا ثورة واضحة المنحى القومي وعادت روسيا تهدّد المضائق، وتسعى إلى تنشيط الحركة الأرمنية. وكانت العلاقات مع بريطانيا قد ازدادت صعوبة بعدما أقيلت وزارة كامل باشا المعتبر مقربًا إلى البريطانيين. كذلك تمنّعت فرنسا، بما لها من مصالح اقتصادية ضخمة في البلاد العثمانية، عن منح الدولة قرضًا جديدًا، مبدية حذرًا من الشحنة القومية التي أطلقها الانقلاب. وهذا قبل أن تجهز الحرب البلقانية على مقدونيا وتراقيا الغربية فتقتسمهما بلغاريا واليونان وصربيا.
على أن أكثر ما صدم الأهالي في الولايات العربية كان الهجوم الإيطالي على السواحل الليبية في خريف 1911، ثم إعلان إيطاليا، بعد سيطرتها على الساحل، ضمّ طرابلس وبنغازي إلى ممتلكاتها. ومع أن المقاومة العثمانية ما لبثت أن اشتدّت واشتركت فيها عناصر عربية ومنعت القوات الإيطالية من التوغل في الداخل الليبي، فإن عرب الولايات الآسيوية وجدوا في العملية الإيطالية دليلاً على عجز الدولة عن حمايتهم وسببًا للتفكير في تدبير مستقلّ لشئون بلادهم، التي لم يكن النفوذ الفرنسي والبريطاني ولا مطامح هاتين الدولتين خافيين فيها. ذاك قلق زاد فيه قصف الدوارع الإيطالية لبيروت، في مساق الحرب الليبية نفسها، وتدميرها سفنًا عثمانية في مرفأ المدينة. وعلى خلاف ما قد يفترض لم يكن الإصلاحيون العرب يضمرون عداء لبريطانيا وفرنسا، بل معظمهم يعوّل على رعايتهما وعونهما في مواجهة طالبي الإصلاح للدولة، وكانوا ينشئون علاقات مع ممثلي الدولتين في عواصم الولايات لم يكن توزّعها بريئًا من الاعتبارات الطائفية. وهذا مع ميل غالب عند المسلمين إلى الإصلاح مع البقاء في كنف السلطنة، ومع ميل مسيحي، كاثوليكي خصوصًا، غالـــب أيضًا، إلى نوع من الانفصال.
وكان هذا الميل الأخير الذي راح يستلهم النموذج المصري في ظلّ الاحتلال البريطاني، يصل عند البعض إلى حد القبول (وحتى المطالبة) باحتلال فرنسي للبلاد. هذا الميل الانفصالي كان لابدّ أن يزداد قوة وانتشارًا حين عمدت الدولة في صيف سنة 1912 إلى الاستسلام الكلي للمطالب الإيطالية في ليبيا، وذلك تحت وطأة الخطر الداهم الذي مثلته الحرب الوشيكة في البلقان. أنهت الدولة أيضًا العصيان الألباني، وقد تميّز من بين ما كانت تواجه أوربا بكونه تمرّد شعب مسلم على دولة الإسلام. أنهته بالإقرار للألبان بالاستقلال مع استبقاء تبعية مسلميهم الدينية للسلطان.
وكانت هاتان الهزيمتان يتعذّر بقاؤهما بلا تأثير في مواقف الرعايا العرب، مسلمين ومسيحيين، من الدولة العثمانية.
الفرصة البلقانية
كانت دول البلقان قد مهّدت لاستئناف الهجوم على الدولة العثمانية بأحلاف عقدتها في ما بينها. فحصل تفاهم يوناني بلغاري في ربيع 1911 وتلاه توافق صربي بلغاري في مطلع 1912 تبعته بعد أشهر معاهدة بين هاتين الدولتين نظّمت سلفًا تقسيم مقدونيا العثمانية وشفعت باتفاق دفاع مشترك يوناني بلغاري في وجه الدولة العثمانية. أخيرًا انضمّ الجبل الأسود إلى هذا الحلف العريض بتوقيعه في خريف 1912 اتفاقين عسكريين مع بلغاريا وصربيا. كانت مقدونيا مدار الحرب التي اندلعت في أواسط أكتوبر ووصلت بسرعة إلى أبواب أدرنة وهي خط الدفاع الأخير عن استانبول نفسها. هذا بينما كانت القوى المتحالفة تقتسم مقدونيا وتستردّ اليونان ما تعتبره تابعًا لها من الجزر.. فتخسر الدولة في غضون أسابيع جناحها الأوربي، إلا أقلّه المؤدي مباشرة إلى العاصمة، وتفقد أدرنة نفسها ولكن لتستردّها بعد حين.
لم يكن حزب االاتحاد والترقّيب في السلطة إذ ذاك، بل كانت في يد حزب االحرية والائتلافب. فشكّل هذا الأخير وزارة جديدة برئاسة كامل باشا، آملاً أن يتمكن الرجل من استدراج دعم بريطاني في مواجهة هزيمة بدت صاعقة. وفي المفاوضات التي بدأت في لندن في الأسابيع الأخيرة من العام 1912، وذلك بعد توقف القتال بسعي بريطاني، استمات الجانب العثماني للاحتفاظ بأدرنة وبالجزر الإيجية مقدّمًا تنازلات كبرى في ما يتصل بما تبقّى. ولكن الاتحاديين رفعوا، مع ذلك، لواء المقاومة، آخذين على الوزارة ملاينتها الأعداء. وفي 23 ديسمبر 1913، دخل أنور أحد الأبطال الأسطوريين للثورة الدستورية قاعة مجلس الوزراء شاهرًا مسدسه وأجبر الصدر الأعظم كامل باشا على الاستقالة. هذه الاستقالة عدّت نكسة لآمال العرب الإصلاحية. ومذ ذاك انفردت جماعة االاتحاد والترقيب مباشرة بالسلطة ليبقوا فيها إلى نهاية الحرب العالمية الأولى ويتحمّلوا المسئولية التاريخية في خضم الحوادث التي أفضت إلى انهيار الدولة العثمانية.
صحف وجمعيّات
عند هذه النقطة، أي حرب البلقان وعواقبها المباشرة في ميادين القتال وفي العاصمة، تحسّن العودة إلى الوجه الآخر من المساق الثوري الذي أطلقته حركة 1908، وهو الوجه المقابل، بل المعاكس، للسعي التركي إلى تقوية السلطة المركزية وإلى التعبئة وراء الجيش والمحافظة على السلامة الإقليمية للدولة. ذاك وجه الحريات التي أتاحت إنشاء الجمعيات وتكاثر الصحف في العاصمة وفي قواعد الولايات وتصاعد الدعوة إلى الإصلاح اللامركزي، بما في ذلك تعزيز مكانة اللغة الخاصة بكل قومية. فالواقع أن ظروف الأشهر الأخيرة من عام 1912 والأولى من عام 1913 هي ما يأذن بفهم التحرّكات العربية التي انتهت إلى انعقاد المؤتمر العربي في باريس في يونيو 1913. وهي أيضًا ما يأذن بفهم سياسة الدولة حيال العرب ومطالبهم. وهذه سياسة تطوّرت من المسايرة، وحتى التشجيع، إلى المراوغة في الوفاء بالوعود، ثم إلى مواجهة الإصلاحيين بالقمع. وهذا موقف ستؤدي ظروف الحرب العالمية الأولى إلى تفاقمه، فتصل به إلى تقديم عدد كبير من قادة الجمعيات الإصلاحية العربية إلى ديوان الحرب العرفي، ثم إلى تعليق بعضهم على المشانق في كل من بيروت ودمشق.
في مجال الصحافة، كان لسان الحركة الإصلاحية في بيروت جريدتا االمفيدب لعبدالغني العريسي واالاتحاد العثمانيب للشيخ أحمد طبّارة وكلاهما سيكون سنة 1916 بين مَن أرسلهم الديوان العرفي إلى المشانق. وفي دمشق نطقت باسم الإصلاحيين جريدة االمقتبسب لمحمد كرد علي. وأما الجمعيات فيجب أن يذكر في طليعتها االمنتدى الأدبيب، في الأستانة نفسها، وكان رئيسه المحامي عبدالكريم الخليل. وكان االمنتدىب عند تأسيسه، غداة ثورة 1908، ملتقى للطلاب العرب، ثم ما لبث أن أصبح بؤرة للنشاط السياسي القومي العربي، وكان لرئيسه دور مهم في متابعة المطالب التي سيتمخّض عنها مؤتمر باريس العربي، وهو أيضًا من الذين أرسلهم ديوان جمال باشا العرفي إلى المشانق في أول دفعة شهدت إعدامها ساحة البرج في بيروت.
على أن برامج الإصلاح العربية تمخّضت عنها الجمعيات التي تشكّلت بين أواخر 1912 وأوائل 1913 في قواعد الولايات العربية وفي بعض المغتربات. وكان قد صدر قانون للجمعيات في صيف 1909 استوحى قانون 1901 الفرنسي لجهة تشريع الانتظام وتسهيل إجراءاته. ولكنه ضيّق من حرية الانتظام السياسي وخصوصًا ذلك الذي يتخذ العنصر أو القومية أساسًا له. وأما الجديد الذي أطلق حركة تشكيل الجمعيات العربية مع تجدّد الحرب في البلقان، فكان، فضلاً عن انشغال الدولة بالحرب، وتضعضع سطوتها الداخلية وحاجتها إلى الهدوء على جبهة الولايات، أن خسارتها ممتلكاتها الأوربية أحالتها، على وجه التقريب، إلى دولة ثنائية القومية يمثل سوادها العنصران التركي والعربي، ويتخللها عناصر أخرى أقليّة. وكان العرب والترك يبدوان شبه متساويين فيها لجهة الثقل السكاني مع تفاوت فادح بينهما لجهة القبض على مقاليد السلطة والحضور السياسي والإداري في مؤسسات الدولة. وكان هذا التفاوت قد نحا إلى الازدياد مع هيمنة الاتحاديين على الحكم ونزوعهم إلى التشدّد في التعبير عن عصبيتهم التركية أو الطورانية وفي إخراجها إلى حيّز الفعل.
وفي باريس واستانبول ثم بيروت، كانت قد تألفت، بين 1911و1913، جمعيتا االفتاةب واالعهدب السريّتان. وهما جمعيتان سيبقى لهما شأن كبير إلى ما بعد الحرب الكونية. ولكن ما يعنينا هنا هو الجمعيات التي رفعت علنًا شعار الإصلاح. وأهمّ هذه اثنتان هما احزب اللامركزية الإداريةب في القاهرة واالجمعية الإصلاحيةب في بيروت. وقد تأسستا بين أواخر 1912 وأوائل 1913، مستفيدتين من المناخ الذي أشاعته وزارة احزب الحرية والائتلافب بصدارة كامل باشا. وهذا مناخ لم تتجاوز مدته ستة أشهر انتهت بإطاحة الاتحاديين هذه الوزارة بالقوة،
من أفول «الجمعية» إلى انعقاد المؤتمر
عمد الوالي الاتحادي النزعة أبوبكر حازم إلى حل جمعية بيروت، في أوائل أبريل 1913. فأثار ذلك إضرابًا عامًا في المدينة اشتركت فيه الصحافة، إذ ظهرت الصحف خالية إلا من قرار الحلّ هذا. وكان الوالي السابق أدهم، وهو االائتلافيب الميل، قد شجّع، بخلاف ذلك على إنشاء الجمعية وتعهد الدفاع عن مطالبها في العاصمة. وكانت اللائحة الإصلاحية التي وضعتها الجمعية في يناير 1913 قد انطوت على جهد لاستيعاب لائحة ذات مشرب مماثل وضعها الحزب اللامركزي في القاهرة. وذلك بعد أن حمل عبدالكريم الخليل لائحة القاهرة إلى جمعية بيروت.
وعليه طلعت هذه الأخيرة بأوفى صيغة للإصلاح المركزي أعلنت في تلك المرحلة. ولم يفت هذه اللائحة إعلان الرغبة في استقدام مستشارين ومفتشين أوربيين لتوجيه دفة الإدارات، وذلك إلى أن يتمكن أبناء البلاد من الاضطلاع بهذا العبء على النحو المرغوب. وهذا مطلب ذكرنا أن أعضاء الجمعية المسيحيين من ذوي الصلة بالقناصل الأوربيين، وخصوصًا بقنصليات فرنسا، كانوا يشدّدون عليه. هذه الصيغة هي التي استلهمها المؤتمر العربي في باريس بعد ذلك ببضعة أشهر. وقد كان ستة من أعضاء الجمعية البيروتية هم سليم علي سلام وأيوب تابت وأحمد طبارة وألبير سرسق وأحمد مختار بيهم وخليل زينية بين حضور المؤتمر الفاعلين.
ماطلت المراجع العثمانية في تقبّل مطالب الإصلاحيين العرب وراوحت في ردّها ما بين القمع والتملّص والقبول الجزئي ثم المماطلة في التنفيذ. وقد بدأ هذا المنحى (وإن على تفاوت) مع الواليين أدهم وحازم اللذين تعاقبا على بيروت.. ثم مع حلّ الجمعية، وأخيرًا مع المراوغة في تنفيذ وعود أعطاها أركان الاتحاد والترقي لعبدالكريم الخليل بعد عودته من باريس إلى الأستانة. كان منحى التتريك هو المعبّر عن الموقف الفعلي للاتحاديين. وكانت نذر الحرب تتكاثر في سماء أوربا ويزداد وضوحًا أن مصير الدولة من أصله سيحسم في الحرب الأوربية. وإذ ذاك لم يكن غريبًا أن يعلق على الأعواد، بعد ثلاث سنوات تقريبًا على المؤتمر العربي في باريس، رئيس هذا المؤتمر عبدالحميد الزهراوي، والمفاوض على مقرراته عبدالكريم الخليل ونفر آخرون من حملة قضية الإصلاح اللامركزي والحقوق العربية كان بينهم بعض المؤسسين البارزين لجمعية بيروت الإصلاحية .