رابعة العَدويَّة.. أضواءٌ على سيرتها ونهجها الصوفي

رابعة العَدويَّة.. أضواءٌ على سيرتها ونهجها الصوفي

هي أشهر العابدات والناسكات المتصوفات في تاريخ الزهد والتصوف الإسلاميين، يستهل فريد الدين العطار كلامه عنها في كتابه «تذكرة الأولياء» بالقول: «إنها ذات الخدر الخاص المستور بستر الإخلاص، المتقدة بنار العشق والاشتياق، المتحرقة إلى القرب والاحتراق، الفانية في الوصال، المقبولة عند الرجال، كأنها مريم ثانية، صافية صفية، إنها رابعة العدوية».

يقول عبدالرحمن بدوي في كتابه «شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية»: «ليس لنا - ويا للأسف - عن حياتها من الوثائق ما يسمح بتأريخ تطورها الروحي على نحو مفصل أو شبه مفصل، إن مؤرخ التصوف الإسلامي لا يكاد يملك وثيقة واحدة عن سيرة رابعة يستطيع الاطمئنان إليها، وما يزيد الأمر اختلاطاً بالنسبة لسيرتها أن لها سمية أخرى، متصوفة بدورها، معاصرة لها تقريبا، هي رابعة (الشامية) زوجة أحمد بن أبي الحواري.
ونحن لا نكاد نعلم عن حياة رابعة الأولى ونشأتها إلا ما رواه العطار في «تذكرة الأولياء»، والعطار - كما يقول بدوي - رجل جامح الخيال، لا يمكن أن يُطمأن الى أقواله إلا بعد أن تتأيد من المصادر الأخرى. يقول العطار: حكي أن الليلة التي ولدت فيها رابعة لم يكن يوجد في بيت أبيها شيء من المال والمأكول لأنه كان مقل الحال إلى غاية ما يكون، إلى حد ما كان لهم شيء من الدهن يدهنونها به، ولا زيت مصباح يشعل، ولا خرقة يلفونها بها، وكان له ثلاث بنات، ولهذا سماها رابعة، فلما كبرت توفي والداها، وتفرقت أخواتها عنها، ووقع في البصرة قحط عظيم، فرآها ظالم أسرها وباعها بستة دراهم لرجل كان يستخدمها بالمشقة والتعب.
غير أنه ما لبث أن أعتقها، وقيل إنها صارت مطربة، ثم تابت على يد الحسن البصري - علما بأن مسألة لقائها بالحسن أمر مستبعد على الرغم من أن العطار يشير إلى هذا اللقاء أكثر من مرة - واتخذت صومعة في مغارة بعيدة عن الناس.
وفي رواية ابن خلكان أنها كانت مولاة لآل عتيك، وهم بطن من بطون قيس، ولهذا أطلق عليها الجاحظ، وهو أقدم مصادرنا عنها، اسم رابعة القيسية، ومن آل عتيك بنو عدوة، ولهذا تسمى أيضا رابعة العدوية.
ويرى عبدالرحمن بدوي أن نقطة التحول الحاسمة في حياة رابعة الروحية هي الحادثة التي يرويها العطار والتي يذكر فيها أن رابعة بينما كانت تسير ذات يوم تبعها رجل فهربت منه فسقطت على الأرض وانخلعت يدها، فوضعت خدها على الأرض وقالت مناجية ربها: إني ضعيفة غريبة لا أب لي ولا أم، أسير تحت يد ظالم وأنا راضية بجميعها، لكن همي الكبير أن أعرف: أراضٍ عني أم لا؟ فسمعت صوتاً يقول لها: يا رابعة لا تغتمي، فإن لك جاهاً يوم القيامة يغبطك عليه المقربون من أهل السماوات، ثم رجعت إلى بيت سيدها، فكانت تخدمه، وتصوم النهار، وتقوم الليل تصلي ساهرة على قدميها.
وذات ليلة رآها سيدها ساجدة تصلي قائلة: إلهي، تعلم أن هوى قلبي على موافقتك وامتثال أمرك، ورضاي في خدمة باب عظمتك، وإن كان أمري بيدي ما فترت عن الخدمة والعبودية ولا استرحت، ولكنك جعلتني تحت يد مخلوق، وبينما كانت لاتزال تصلي رأى سيدها قنديلاً معلقا فوق رأسها بلا سلسلة، وكان النور يملأ البيت كله، فلما اطلع السيد على حالها تفكَّر في أمره، ولما أصبح دعا رابعة فأكرمها وأعتقها.
عند هذا المنعطف يذهب خيال البعض بعيدا، فيفترض أن رابعة لما أُعتقت اندفعت، بفضل الحرية التي وُهِبتها، إلى المشاركة في حياة الدنيا، فانطلقت تسعى لرزقها، فلم تجد غير حرفة العزف على الناي والغناء.
ويحتمل أن تكون إبان هذه الحقبة قد اندفعت - كما يفترض عبدالرحمن بدوي - في طريق الشهوات إلى مدى بعيد. «ويُخَيَّل إلينا - كما يستطرد بدوي - أنها قطعت شوطا طويلا في طريق الإثم،  ولكن هذه «الافتراضات» و«التخيلات» تبقى مجردة من أي دليل يؤكدها، وعليه فإن المماثلة التي يقيمها بدوي بين منحنى حياة رابعة ومنحنى الحياة لدى أغسطينوس (354 - 430م)، ولدى الناسكة الإسبانية تريزا الآبلية (1515 - 1582م) تبقى هي الأخرى بلا دليل، إذ هل يمكننا اعتبار العبارة الصغيرة - التي ذكر فيها العطار أن رابعة، بعد عتقها «صارت مطربة ثم تابت» - دليلا كافيا للتقرير أن هذه الفترة من حياتها تشبه تلك الفترة من حياة تريزا الممتدة من مغادرتها لدير التجسد في آبلا إلى سنة 1555 حين بدأت حياتها الثانية؟ وهل إذا ما جاز لنا الافتراض أن عنف الحياة التقية لدى أوغسطينوس كان لازما لعنف الحياة الحسية التي عاشها قبل تحوله إلى الإيمان، هل يكون من الجائز كذلك إسقاط هذا الافتراض على سيرة رابعة والقول إنها أوغلت في طريق الشهوة الجامحة ما وسعها الإيغال؟
أما رابعة فترد التوبة إلى المشيئة واللطف الإلهيين، يروي القشيري في باب التوبة من «رسالته» أن رجلا قال لرابعة: «إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب عليّ؟ فقالت: لا، بل لو تاب عليك لتبت»، مستعيدة بذلك الآية {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}(التوبة: 118)، علما بأنها كانت دائمة القلق بشأن توبتها، فهي لا تدري ما إذا كانت توبتها مقبولة من الله أم لا، وبهذا يفسر قولها الذي أورده الكلاباذي في كتابه «التعرف لمذهب أهل التصوف»: «أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله»، وهذا القول أورده المناوي في كتابه «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية»، بصيغة قريبة: «استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه».

عهد التنقل في حياة رابعة
بدأ هذا العهد لما ذهبت إلى الحج، علما بأن الوثائق لا تكشف لنا متى تم ذلك وكم كان عمرها، علاوة على أن الروايات المتعلقة بحجها، والتي ينقلها العطار، تبالغ في ذكر الكرامات التي وقعت على يديها، مثل ما رواه العطار من أنها ارتحلت ذات يوم إلى الكعبة وكان معها حمار حمّلته متاعها، فلما بلغت نصف الطريق نفق حمارها، وأراد بعض الناس أن يحملوا أثقالها فما رضيت، وقالت لهم: أنتم اذهبوا فإني ما جئت متوكلة عليكم، فارتحلت القافلة وبقيت رابعة في البادية منفردة، قالت: إلهي! أكذا يفعل الملوك بعبيدهم الضعفاء العاجزين؟ لقد دعوتني إلى زيارة بيتك، وها أنت ذا تدع حماري ينفق في الطريق، وتدعني في الفيافي وحيدة، فما أتمت هذه الكلمات حتى نهض الحمار مليئا بالحياة، فوضعت عليه متاعها ولحقت بالقافلة.
وفي رواية أخرى، للعطار أيضا، أن رابعة رجعت (من الحج) إلى البصرة، واشتغلت هناك بعبادة الله تعالى سنة، ولما جاء موسم الحج نقل الشيخ أبو علي الفارمذي (407 - 477 هـ) أنها قصدت الكعبة ثانية، ودخلت البادية فكانت تتقلب على جنبيها في الطريق حتى بلغت عرفات بعد سبع سنين، ويفترض - بناء على هذه الرواية - أن رابعة قد انصرفت عن اتخاذ المطايا في طريقها إلى الحج، لكن هذا يجب أن يُنسب إلى مرحلة متأخرة لما أن دخلت في دور الزهادة الكاملة.

معالم الطريق الصوفي عند رابعة
1 - التهجد وقيام الليل: 
كل المصادر تجمع على أنها كانت تقوم الليل كله، يقول ابن الجوزي في كتابه «صفة الصفوة» في كلام منقول عن عبدة بنت أبي شوّال، وكانت من خير إماء الله تعالى، وكانت تخدم رابعة، قالت «عبدة»: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين! وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور، قالت: فكان هذا دأبها حتى ماتت.
ويقول السراج في «مصارع العشاق» بعد سلسلة من الأسانيد تنتهي عند مسمع بن عاصم قال «مسمع»: «قالت لي رابعة العدوية: «اعتللت علة قطعتني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أياما أقرأ جزئي إذا ارتفع النهار، لما يذكر فيه إنه يعدل بقيام الليل، قالت: ثم رزقني الله، عز وجل، العافية، فاعتادتني فترة في عقب العلة، وكنت قد سكنت إلى قراءة جزئي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل».
ويتابع السراج روايته فيذكر أن رابعة رأت في المنام على إثر ذلك حلما مغزاه أنها بانقطاعها عن قيام الليل جرت عليها غضب السماء وكادت تفقد بهذا ما حصلته من قبل بتهجدها، ولهذا أقبلت عليها الحورية التي رافقتها في تجوالها في الجنة إبان هذه الرؤيا، وقد رأت انصراف الوصفاء عنها، تؤنبها بهذين البيتين:
صلاتكِ نورٌ والعبادُ رُقودُ
ونومُكِ ضِدٌّ للصلاة عنيدُ
وعُمْرُكِ غُنْمٌ إن عَقلتِ ومهلةٌ
يسيرُ ويفنى دائماً ويبيدُ
قالت رابعة: «ثم غابت من بين عيني، واستيقظت حين تبدى الفجر، فو الله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي وأنكرت نفسي، قال «مسمع»: ثم سقطعت رابعة مغشيا عليها».
وفي السياق عينه يروي الشيخ الحريفيش في كتابه «الروض الفائق في المواعظ والرقائق» عن رابعة أنها كانت إذا صلت العشاء قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت: إلهي أنارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها فإذا كان وقت السحر وطلع الفجر قالت: إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذ النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزى؟ فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك.
ويذكر أبوالقاسم النيسابوري في كتابه «عقلاء المجانين» أن رابعة زارت حيونة الأهوازية، فلما كان جوف الليل حمل رابعة النوم، فقامت إليها حيونة، فركلتها برجلها وهي تقول: قومي قد جاء عرس المهتدين، يا من زيّن عرائس الليل بنور التهجد.
ورابعة - وصحبها - في هذا لم تكن تفعل غير ما سنّه القرآن وأتت به السنّة، فالآيات التي تحث على التهجد وقيام الليل عديدة، منها {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} (الإسراء: 79)، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (الفرقان: 64)، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} (الإنسان: 26)، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} (المزمل: 20)، {يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}(آل عمران: 113)، والأحاديث النبوية التي تحض على التهجد وقيام الليل كثيرة هي الأخرى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم»، وقول عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقوم حتى تفطّر قدماه»، وقول المغيرة: «إن النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى تَرِمَ قدماه - أو ساقاه - فيقال له: فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا؟».
2 - استذكار الموت: 
هي الأداة الثانية من أدوات العبادة لدى رابعة بعد التهجد وقيام الليل، ولهذ اتخذت مشجب قصب طوله قدر ذراعين، عليه أكفانها، كيما تتأمله على الدوام فتتعظ بمعانيه، وتجتلب أحوال الخوف والإغماء والبكاء، يقول المناوي: «وكان كفنها لم يزل عندها، ويجدون محل سجودها كالماء المستنقع من كثرة البكاء»، ولقد كان عصرها عصر بكائين، خصوصا أصدقاءها أمثال رياح بن عمرو القيسي الذي «كان إذا دخل المسجد بكى، وإذا دخل بيته بكى، وإذا دخل الجبانة بكى، فيقال له: أنت دهرك في مأتم؟ فيقول: يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا»، وكانت سميتها رابعة الشامية تقول في المنحى نفسه - في ما نقله عنها زوجها أحمد بن أبي الحواري وأثبته ابن الجوزي في «صفة الصفوة»: «ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي يوم القيامة، وما رأيت الثلج إلا ذكرت تطاير الصحف، وما رأيت الجراد إلا ذكرت الحشر».
3 - موقفها من الزواج: 
عاشت رابعة في جو يدعو فيه الصوفية إلى التجرد، أي إلى عدم الزواج، لأن الزواج يتنافى مع الوفاء بالحياة الروحية وما تقتضيه من مجاهدات، وانقطاع لله، وانصراف عن الدنيا، وإماتة للشهوات، فها إننا نجد الحسن البصري، وهو رائد حركة الزهد في ذلك العصر، لا يرى الزواج بالنسبة إلى الزاهد، بله إلى العبد الصالح، قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا في الدنيا لم يشغله بأهل ولا ولد».
كذلك نرى أبو نعيم في «حلية الأولياء» ينقل عن رياح بن عمرو القيسي قوله: «سمعت مالك بن دينار يقول: لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة».
ولم يختلف موقف رابعة عن موقف هؤلاء، ولذلك وجدناها تحرص على عدم الزواج، فترفض خطبة عبدالواحد بن زيد، وخطبة محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة لها، فالخطبة الأولى أشار إليها عين القضاة الهمداني (490 - 525 هـ) في «شكوى الغريب»، كما ذكرها الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين»، يقول عين القضاة: «وخطبها عبدالواحد بن زيد، مع علو شأنه، فهجرته أياما حتى شفع له إليها إخوانه. أما الخطبة الثانية فقد رواها الزبيدي فقال: «وخطبها محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة على مائة ألف، وقال: لي غلة عشرة آلاف في كل شهر، أجعلها لك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد، وأن كل مالك لي، وأنك شغلتني عن الله طرفة عين»، وروى هذا الخبر، على نحو أكمل، كل من المناوي في «الكواكب الدرية» وابن خلكان في «وفيات الأعيان».
أما ما يُحكى عن زواج رابعة فيرجح أنها أسطورة نشأت عن الخلط بين رابعة الشامية زوجة أحمد بن أبي الحواري وبين رابعة البصرية العدوية موضوع كلامنا، قد روى الشيخ الحريفيش في «الروض الفائق» أنه لما مات زوج رابعة العدوية استأذن الحسن البصري في الدخول عليها، هو وأصحابه، فأذنت لهم وأرخت سترا وجلست وراءه، فقال لها أصحابه: إنه قد مات بعلك ولابد لك من زوج، وقد انقضت عدتك، فاختاري من هؤلاء الزهاد من شئت، فقالت: نعم، حبا وكرامة، من هو أعلمكم حتى أزوجه نفسي؟ قالوا: الحسن البصري، فقالت له: إن أجبتني عن أربع مسائل فأنا لك أهل، فقال لها: سلي أنا أجيبك إن وفقني الله تعالى، قالت: ما يقول الفقيه العالم إذا أنا مت، هل خرجت من الدنيا مسلمة أم كافرة؟ فقال: هذا غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قالت: فما يقول إن وضعت في القبر، وسألني منكر ونكير، أفأقدر على جوابهما أم لا؟ قال: وهذا أيضا غيب، قالت: فإذا حُشر الناس في القيامة وتطايرت الكتب، فيُعطى بعضهم كتابه بيمينه ويُعطى بعضهم كتابه بشماله، أفأعطى أنا كتابي بيميني أم بشمالي؟ قال: وهذا أيضا غيب، قالت: فإذا نودي في الخلائق، فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن أي الفريقين أكون؟ قال لها: وهذا أيضا غيب لا يعلمه إلا الله، فقالت له: فإذا كان الأمر كذلك وأنا في قلق وكرب من هذه الأربعة، فكيف أحتاج إلى الزوج وأتفرغ له؟
فهذه الرواية التي تثبت أن رابعة كان لها زوج - والتي أوردها العطار كذلك ولو بصورة أقل تفصيلا من رواية الحريفيش - غير صحيحة، كما يرى الدكتور عبدالرحمن بدوي، لأنها تتحدث عن الحسن البصري، والحسن ولد سنة 21 هـ، وتوفي سنة 110 هـ، في حين أن رابعة ولدت سنة 95 أو 99 هـ، وتوفيت سنة 180 أو 185 هـ، ومن المستحيل أن يلتقيا في الظروف التي ذكرت في روايتي الحريفيش والعطار.
وكذلك ما رواه عبدالرحمن الجامي في كتابه «نفحات الأنس»، من أنها كانت إذا طبخت قدرا قالت لزوجها: «كله يا سيدي فما نضج إلا بالتسبيح»، يُعتبر خبرا خاصا برابعة الشامية زوجة أحمد بن أبي الحواري.
وكذلك ما رواه ابن الجوزي في كتابه «صفة الصفوة» عن رابعة إذ قالت لزوجها: «لست أحبك حب الأزواج، وإنما أحبك حب الإخوان»، هو خبر خاص برابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري، وهو ما أشار إليه ابن الجوزي في روايته.
وعليه، فإن رابعة لم تتزوج قط، وموقفها من الزواج تعبّر عنه هذه الأبيات المنسوبة إليها، والواردة في كتاب «الروض الفائق»:
راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً
وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه
فهو محرابي إليه قبلتي
إن أمت وجداً وما ثم رضا
واعنائي في الورى واشقوتي
يا طبيب القلب يا كل المنى
جد بوصل منك يشفي مهجتي
يا سروري وحياتي دائماً
نشأتي منك وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جمعا أرتجي
منك وصلا فهو أقصى منيتي

فرابعة إذن قد رفضت الزواج من منطلق مذهبها في المحبة وزهدها في الدنيا.
4 - موقفها من مسألة الحب الإلهي: 
تأتي نظرية رابعة في الحب لتؤيد نظريتها في الزواج، فلقد نذرت رابعة نفسها لحب الله. والواقع أن كلمة «حب» أو «محبة» بدت غريبة لما استعملت لأول مرة في المصطلح الصوفي، وفي هذا يقول المستشرق لويس ماسينيون في كتابه: «بحث في أصول المصطلح الفني للتصوف الإسلامي»: كان عبدالواحد بن زيد يرى أن كلمة «عشق» هي الوحيدة المعترف بها في التحدث عن الله، وكان يرفض كلمة «محبة» على أساس أنها أثر لا يليق من آثار اليهودية والمسيحية، مستندا في ذلك إلى الآية {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18)، مؤمنا كل الايمان بالعشق الإلهي، في ما مال مالك بن دينار ومضر القارئ وذو النون المصري إلى اللفظ «شوق»، بيد أن كلمة «حب» أو «محبة» التي اختارها أبان بن أبي عياش ويزيد الرقاشي وجعفر الصادق ورابعة العدوية هي التي انتهت بالظفر والسيادة بفضل معروف الكرخي والمحاسبي.
لكن لا شيء يؤكد أن هذا كان بالفعل مذهب عبدالواحد بن زيد، ولاسيما أن ماسينيون لا يورد نصا أو مصدرا يستند إليه، علاوة على أن كلمة «حب» قد وردت في القرآن بيانا لإمكان قيام صلة بين الله والعبد في أكثر من آية {يأَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (المائدة: 54)، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)، في حين أن لفظ «العشق» لا أثر له في القرآن، وما يقال على القرآن يقال كذلك على السنة: فالأحاديث التي ورد فيها لفظ «الحب» عديدة: «إن الله يحب سمح البيع»، «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله لقاءه»، «ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» (الحديث القدسي)، «إذا أحب الله عز وجل العبد قال لجبريل: يا جبريل، إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله تعالى قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض»، «اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك»، بينما لا نكاد نعثر على حديث واحد ورد فيه لفظ «العشق».

عشق أم محبة؟
وفضلا عن هذا فإن المعنى اللغوي أدعى إلى اتخاذ كلمة «محبة» أو «حب» بدلا من «عشق»، لأن العشق اسم لما جاوز الحد في المحبة، فإذا كان لا يجوز استخدام لفظ «محبة»، فكيف يجوز استخدام ما فضل عنها وزاد؟ ولهذا نجد ضياء الدين الكمشخانوي، في كتابه «جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم»، يقول: «ولا يوصف العبد بالعشق لله تعالى لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة»، غير أن استخدام لفظ «عشق» ليس مستبعدا بنظرنا على نحو كلي، فالغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» يرى فيه تأكيدا للمحبة، ولذلك قال: «فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته، والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة، ولذلك قالت العرب إن محمدا قد عشق ربه لما رأوه يتخلى للعبادة في غار حراء».
وعليه فإن مفهوم الحب الإلهي الذي أدخلته رابعة إلى التصوف الإسلامي يجب ألا ينظر إليه باعتباره غريبا عن الإسلام أو دخيلا عليه، وأشهر ما نسب إليها في الحب هذه الأبيات:
أحبُّكَ حبين: حب الهوى
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ويذكر أبوطالب المكي، في كتابه «قوت القلوب في معرفة أحوال المحبوب»، أن أهل البصرة وغيرهم، ومنهم جعفر بن سليمان وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبدالواحد بن زيد، قد حملوا عن رابعة هذه الأبيات التي تميز فيها بين نوعين من الحب: حب الوداد أو الهوى، والحب الخالص، فالأول حب ناقص، ومعنى حب الهوى كما يشرحه المكي: أي رأيتك فأحببتك عن مشاهدة اليقين، لا عن خبر وسمع وتصديق من طريق النعم والإحسان، فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك عليّ، ولكن محبتي عن طريق العيان، فقربت منك وهربت إليك، فاشتغلت بك لما تفرغت لك وانقطعت عمن سواك. وقد تبنى الزبيدي في «اتحاد السادة المتقين» شرح المكي هذا إذ قال: «وقد تكلم صاحب القوت على هذه الأبيات بكلام ساطع الأنوار يعرفه من رزقه وينكره من حرمه»، من ثم أورد في تعليقه علي شرح المكي كلام الشاعر الذي يشبه كلام رابعة:
فرّغت قلبها اشتغالاً بذكري
وكذا كل فارغ مشغولُ
غير أننا نرى أن المحبة التي هي من طريق العيان، والتي يتحدث عنها المكي، تنطبق على نوع الحب الثاني، أي الحب الذي هو أهل له، وهو الحب الذي «تنكشف فيه الحجب» فيرى المحب وجه محبوبه، ولذلك قال الغزالي في تعليقه على أبيات رابعة: «ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وبحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها وهو أعلى الحبين وأقواهما، ولذة مطالعة الربوبية هي التي عبّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حكيا عن ربه تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
وفي هذه الأبيات إشارة كذلك إلى مقام الذكر، وحقيقة الذكر هي كما يقول الكلاباذي: «أن تنسى ما سوى المذكور في الذكر»، فهو نسيان كل شيء وذكر شيء واحد هو الله.
إن الحب الذي تتحدث عنه رابعة هو الهدف من العبادة عندها، ولذلك كانت تقول في دعواتها: «إلهي إذا كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بها، وإذا كنت أعبدك طمعاً بجنتك فاحرمنيها، أما إذا كنت أعبدك حباً بك فلا تحرمني من مشاهدة وجهك».
5 - الأنس والخوف والرجاء: 
أحوال أشارت إليها رابعة وتوقف عندها الصوفية مطولا بعدها، ففي الأنس تقول:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وفي الخوف والرجاء تقول:
وزادي قــــلـــــيـــــــل مــــــــــا أراه مبـــــلّـــــغــــي
أللزاد أبــــكـــي أم لـــطـــــول مــــســــــافـــــتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى
فأين رجائي فيك؟ أين مخافتي؟
6 - تاريخ وفاة رابعة: 
يذكر ابن الجوزي في «شذور العقود» أن وفاتها كانت في سنة 135 هـ، وهذا ما أشار إليه ابن خلكان دون أن يؤكده، وممن ذكر هذا التاريخ ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»، والمرتضى الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين». وثمة رواية ثانية تقول إن تاريخ وفاتها سنة 180 هـ، وصاحبها الذهبي، ومن الذين تابعوه على هذا التاريخ المناوي في «الكواكب الدرية»، فقال: «ماتت، رضي الله عنها، سنة ثمانين ومائة، وقيل غير ذلك»، وثم رواية ثالثة تقول إنها توفيت سنة 185 هـ. ذكر ذلك ابن خلكان، علما بأن الروايتين الأخيرتين متقاربتان وبالتالي لا خلاف جوهريا بينهما، والباحثون المحدثون وعلى رأسهم لويس ماسينيون، في كتابه «بحث في أصول المصطلح الفني للتصوف الإسلامي»، وعبدالرحمن بدوي ومرغريت سميث، يميلون إلى الروايتين الأخيرتين، مستدلين بالبراهين التالية:
أولا: صداقتها المشهورة لرياح بن عمرو القيسي المتوفى نحو سنة 180 أو 185 هـ.
ثانيا: التقاؤها بسفيان الثوري الذي أتى البصرة بعد سنة 155، فلو كانت رابعة توفيت سنة 135 هـ لما صح اجتماعها به.
ثالثا: حكاية خطبة والي البصرة محمد بن سليمان الهاشمي لها، وهو كان واليا على البصرة سنة 145 هـ وتوفي سنة 170 هـ.
رابعا: صلتها الوثيقة بعبدالواحد بن زيد المتوفى سنة 177 هـ.
ولا شك في أن هذه الحجج تعد حاسمة لاستبعاد سنة 135 هـ، لكنها لا تسمح لنا بالاختيار بين سنتي 180 و185، وعليه فإن رابعة توفيت إما سنة 180 أو 185 هـ.
أما قبرها فقيل إنه بظاهر القدس على رأس جبل يسمى الطور أو طور زيتا، وهذا كان رأي ابن خلكان، وابن شاكر الكتبي في كتابه «عيون التواريخ»، والمقدسي في كتابه «مثير الغرام»، والسيوطي في كتابه «إتحاف الأخصّا في فضائل المسجد الأقصى»، ومجير الدين الحنبلي في كتابه «الأنس الجليل».
غير أن ثمة رأيا آخر، نرجح أنه الأصح، وهو رأي ياقوت الحموي الذي يقرر في كتابه «معجم البلدان» أن قبر رابعة العدوية إنما هو بالبصرة، وأما القبر الذي في القدس فهو لرابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري «وقد اشتبه على الناس»، وما يؤكد ذلك أنه لم يثبت أن رابعة قد رحلت إلى الشام لكي تموت هناك وتدفن في بيت المقدس، أما سبب الاشتباه فمرده إلى الخلط الذي حصل بين رابعة العدوية البصرية ورابعة الشامية زوجة أحمد بن أبي الحواري المتوفى سنة 235 هـ، هذا الخلط الذي لم يسلم منه بعض من أهم من كتب في هذا الموضوع كأبي الفرج بن الجوزي وعبدالرؤوف المناوي .