مشاهدات حاج عثماني في مكة

مشاهدات حاج عثماني في مكة

بدأ المسلمون بأداء فريضة الحج في العام التاسع للهجرة أي في العام التالي لعام الفتح، وأصبح المسلمون يتوافدون إلى مكة من كل فج عميق، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ليؤدوا فريضتهم، فمنهم من يأتيها براً ومنهم من يأتيها بحراً، ومن ثم جواً. 

وكانت تصل مكة قوافل أربع: الأولى من بلاد المغرب مروراً بمصر, وهي قافلة برية، والثانية من مصر, وهذه القافلة تحمل معها كسوة الكعبة، والثالثة قافلة الشام وتضم الحجَّاج القادمين من تتاريا وما حولها وتركيا والأناضول وأرض كنعان، أما القافلة الرابعة فهي قافلة الهند، وتحمل بضائع قيمة ومختارة يشتري منها الحجاج على مختلف جنسياتهم في مكة. وتصل هذه القوافل إلى مكة قبل عيد الأضحى بستة أيام على الأقل. ولا شك في أن محامل الحجاج كانت تتعرض لكثير من الأهوال والمتاعب والمشاق، فلا يكاد يصل الحاج إلى مكة ويؤدي الفريضة ومن ثم يعود إلى دياره إلا رأى الموت نصب عينيه مرات ومرات. وهذه الأحداث والمخاوف لابد أن تجد طريقها إلى مذكّرات الحجَّاج وحكاياتهم ومروياتهم، فقد يقوم الحاج بسرد رحلته وتكراره شهوراً ودهوراً. كثرٌ هم من دونوا رحلاتهم وأسهبوا في وصف الطريق والقافلة والأماكن التي مروا بها وشعائر الحج والمصاعب التي واجهتهم أثناء أدائها، لكننا نجد اختلافاً بين مدوناتهم من الناحيتين الشكلية والبنيوية، فبعضهم اعتمد الوصف الدقيق والعين المتتبعة لكل أثر صَغُرَ أم كَبر، ثم مرَّ مرور الكرام على ذكر الشعائر الدينية، والبعض الآخر ذكر شعائر الحج واستفاض بالشرح والوصف لكل جزئياتها ولم يأتِ على ذكر الرحلة إلا بعموميات يسيرة، ومنهم من عرض مسائل فقهية وبيَّن الآراء والفتاوى فيها، ومنهم من تحدَّث عن الطبيعة واهتمَّ بالمكان وبالثروات الباطنية وبالنشاط الاقتصادي وغير ذلك.. ومنهم من قدم لنا كل ما سبق، وخير مثال الرحالة العثماني أوليا جلبي الذي زار الكثير من البلدان ورأى آلاف المدن ولكنه شعر بالحزن والكآبة لعدم قيامه بالحج وزيارة الأماكن المقدسة، فحزم أمره، وأعد عدته للقيام بالرحلة الرابعة عشرة والأخيرة في حياته ألا وهي رحلة الحجاز ومصر فاستراح عدة أشهر وأعد غلمانه، ورافق قافلة الحج التركية  في موسم حج سنة (1082هـ /1671م)، والتي كانت تضم حجاج كل دول البلقان واستانبول. وشاهد ووصف لنا مراسم توديع القافلة وتسليم الجمل الذي يحمل المحمل وكيف أن السلطان بنفسه وفي معيته الصدر الأعظم وشيخ الإسلام قد حضر هذه المراسم، وقد كانت فرقة الموسيقى السلطانية تعزف أمام قصر السلطان قبل موعد قيام القافلة بزمن طويل لإعلام الجميع باقتراب موعد قيام القافلة، فيقدم الأمراء والأثرياء وأهل الخير والمشتاقون لزيارة البيت هداياهم لتكون في عهدة أمير القافلة، حيث يوصلها لأهل مكة والمدينة ومجاوري الحرمين الشريفين.

وصف الرحلة
وفي وصف دقيق وممتع يصف لنا الكاتب رحلته منذ أن قامت من استانبول حتى انتهى من أداء شعائر الحج، ويقدم لنا شعور المسلم المؤمن في مواجهة الصعاب وكيف أن القافلة كانت تتحمل ما لا يطاق من برد وجوع وعطش وهي تعبر الصحراء القاحلة. كل ذلك من أجل الشوق إلي بيت الله الحرام، وكثيرا ما كان يتحفنا ببعض أشعاره الجياشة وتضرعاته وتوسلاته في الحرم النبوي وأمام أستار الكعبة الشريفة، وينقل لنا ذلك الإشراق النفسي الذي يشعر به كل مؤمن يسعده الله بزيارة بلده الحرام، إلى آخر الكلام الجميل الذي يردده كل من زار مكة المكرمة وعرف مشقة السفر إليها، فلما أحل بها فاض قلبه بنور ومحبة وشوق أنسته ما لقي من نَصب وجعلته يتمنى لو استطاع أن يزورها كل حين. 
وتعنينا من أوصافه للحرمين الشريفين وما فيهما من تحف وعدد المآذن والأبواب والأعمدة والشبابيك وأطوال كل منها، وتعريف كامل ومستفيض بسكان البقيع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما يصف لنا وصفًا دقيقًا كل ما كان يصادفه من قلاع وحصون ومساجد وتكايا، ويعرفنا بأقطاب العلم، ووصفا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والتشكيلات العسكرية والتقسيمات الإدارية للشام والحجاز. 
ويحدثنا عن أهل مكة وفضائلهم وجميل أفعالهم ومكارمهم، ويقف طويلا عند إطعامهم الفقراء ويعطينا صورة عن مساكين مكة الذين يعيشون دوما على الصرة التي يبعث بها السلطان العثماني، وعلى القمح والرز اللذين يرسلان إليهم من مصر ثم اليمن والزيلع ومن الأماكن الأخرى، ويصف حمامات مكة وما بها من رخام ونقوش وزخارف بديعة وعددها لتصل إلى مائة وتسعة وأربعين حماما ما بين عام وخاص، كانت سببا في أن تجعل مظهر سكان مكة «لائقا نظيفا وكأنهم ليسوا من بني البشر.. فوجوههم تتسم بالبشر وتعلوها الابتسامة»، ويصف «أطباخ مكة»، بأنها نظيفة وشهية، وأن أشهرها الهريسة، كما أشار إلى أن الفواكه الموجودة بها هي الحبحب والبطيخ والعنب والخوخ التي تجلب من مدينة العباس، وأن البلد الأمين لا يخلو من الفواكه صيفًا ولا شتاء. ويذكر أن مكة المكرمة تحيط بها خمس عشرة مزرعة، وهي الأماكن التي يتسامر فيها الأشراف، وبها تثمر أشجار النخيل والرمان والخوخ والليمون والطرنج والعنب والنبك، ويصف أنواع العطورات ولاسيما الورد والريحان والبخور.
ويصف أمزجة الأهالي في مكة المكرمة بأنهم يتعصبون بسرعة، وأن معظمهم ضعفاء البنية بسبب تأثير الحرارة الشديدة والمياه عليهم، وأنهم لا يشتغلون بالعلم، وإنما كلهم تجار، وأشار إلى وجود 1300 محل تجاري في البلد الأمين، وثلاثة مجمعات للأسواق، وهي سوق الشام، والسوق القريب من باب السلام، والثالثة قريبة من الثانية، وتحوي خمسين دكانا، وأن معظم دكاكينها مخصصة للأقمشة والعطارة، وأن بها أنفس المجوهرات والعطورات، إلا أنه اشتكى من غلاء أسعارها.
وأشار إلى أن أهالي مكة مسرفون مبذرون بسبب الثراء الذي يمتازون به، وأن رجالها مغلوبون على أمرهم في وجه النساء، وأنهن لا يطبخن الطعام في منازلهن. 
ويمتدح نساء مكة بالجمال واللطافة وخفة الروح، ما يجعلهن كحوريات الجنة, فهن «ملائكيات المظهر على سماهن ملاحة البشر، ما يجعلهن يتبخترن كالطواويس في حدائق الجمال طاهرات عفيفات المظهر والمخبر.. لهن جاريات حبشيات؛ الواحدة منهن في سمرة العنبر الخام يتعطرن بأجود أنواع العطر الفوَّاح وما إن تمر إحداهن بالقرب من الرجل حتى ينفذ العطر إلى أعماق دماغه». 

مشاهدات من مكة
ويقدم لنا مشاهداته عن عادات أهل مكة في تجهيز الجنائز والصلاة عليها ودفنها في مقبرة المعلا، وأنهم يحترمون الميت كثيرا، مشيرا إلى أنهم يزورون هذه المقبرة في يومي الإثنين والجمعة، وأنهم يكثرون من قراءة القرآن الكريم، كما أفاض أوليا جلبي في الحديث عن مقبرة المعلا وأشهر المدفونين فيها في الإسلام.
ويكثر جلبي من الحكايات التي سمع بها في مكة وخاصة عن المجاورين وهم في العادة من كبار الشيوخ الذين يقررون ترك بلادهم وقضاء بقية أعمارهم مجاورين في مكة، وقبل كل هذا لا ينسى أن يصف لنا شعوره كحاج إلى بيت الله طاف مع الطائفين وكبرَّ ورجا ودعا وسعى وصلى، وحين وقف أمام الحجر الأسود حال بينهما خلق كثير فانتظر فرجة ليدنو منه ويقبله، لأن مَنْ هُوَ خيرٌ منهُ قبله؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي قال: «والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رسول الله قبلك ما قبلتك». ويصلي جلبي في مقام إبراهيم وفي حجر إسماعيل، ورأى كيف تحنو الوجوه عليه وكيف تحنو الجباه الشماء على غيره، لأنه وحده ذو الجلال والإكرام، وجاء دوره في السعي بين الصفا والمروة ليسعى بينهما ويصف لنا مشاهد العطاء ما بين ابن يسعى بأمه وأب يحمل ابنه لنستشعر الهيبة في مشاهداته حين يدخل بنا إلى البيت العتيق لنجد أنفسنا معه في بيت لكل الناس ولكل الأجناس، وما إن يدخلوه حتى تذوب فروق اللون والجنس ويصبحوا بنعمة الله إخوانا. كل إليه مشوق.. كل به يطوف من كل فج عميق, إليه يهرعون مهرولين وزاحفين بين حثيث الخطى في خفة وقعيد محمول على محفة،  وقد لا تسعف اللغة لاختلافها وتفاوتها فتنوب العيون والأيدي في التعبير. ويتم جلبي طواف الوداع  بقوله: «اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام وإن جعلته فعوضني عنه بالجنة يا أرحم الراحمين». لنرى معه كيف إذا استبد الشوق بالمسلم إلى البيت العتيق فإنه لا يعرف الصعب أو المستحيل .