محمد النّويهي .. وثورةُ الفِكر الديني
قليلون هم المفكرون الذين استطاعوا مد أعينهم أبعد من حدود عصرهم، وكانت لهم رؤية تجاوزوا من خلالها الأفق الضيق لفيزياء الزمان والمكان اللذين فشلا في تقييد أفكارهم التي تلبست جناحاً فطارت إلى أزمنتنا المعاصرة لتحلل الداء الذي أصاب حضارتنا العربية فأوقفها عن النمو والتطور.
من ضمن هؤلاء الدكتور محمد النويهي، الملقب بمحمد رشاد النويهي، الذي ولد في 20/4/1917 بقرية ميت حبيش البحرية - مركز طنطا، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول (القاهرة حالياً) بقسم اللغة العربية، متتلمذاً على يد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، صاحب التأثير الأكبر في حياته والذي تنبأ له بالنبوغ والتفوق.
علاقة طه حسين بالنويهي بدأت بتقديم الأخير بحثاً عن الصيد في الشعر الجاهلي سنة 1938، وفي العام الدراسي التالي قدم النويهي لطه حسين، بحثا آخر عن سينية البحتري ادعى فيه أن حرف السين يلائم بجرسه الخاص في المواضع التي ورد فيها في القصيدة جو الحزن والذكرى الآسية، وحصل النويهي في العام نفسه على درجة الليسانس، ورشحه أستاذه طه حسين ليشغل كرسي اللغة العربية بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، وظل أثناء إقامته بإنجلترا، يراسل أستاذه طه حسين ليستمد منه التوجيه والإرشاد والنصح وليطلعه على مستجدات حياته ودراساته، إلى أن حصل في عام 1942 على الدكتوراه من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن، وذلك عن دراسة أعدها عن الحيوان في الشعر العربي القديم.
عاد النويهي إلى مصر في العام 1947، وعرضت عليه جامعة فاروق الأول، أن يكون من أعضاء هيئة التدريس بها بدرجة أستاذ مساعد، لكنه رفض وسافر إلى الخرطوم، وأنشأ بها قسماً للغة العربية، وظل يدرس بها لمدة تسع سنوات، أثمرت عن عدد من المؤلفات في الدراسات النقدية والأدبية.
سافر النويهي إلى أمريكا كأستاذ زائر بجامعة هارفارد بقسم الأدب واللغات الشرقية في العام 1967 وحتى نهاية 1968، ثم استقدمته جامعة بريستون الأمريكية كأستاذ زائر للأدب العربي عام 1972، وامتد نشاطه حتى اختارته منظمة اليونسكو عام 1977 مستشاراً خاصاً لمشروع أعدته حول المرأة والأسرة.
وكشأن كل مفكر جاد، وكاتب نزيه، عانى النويهي في آخر حياته جهالات أدعياء الثقافة وجهلائها، حتى أصيب بجلطة في الدماغ أقعدته الفراش، إلى أن جاءه الأجل في فبراير من العام 1980، حيث ودعته قريته إلى مثواه الأخير.
استطاع النويهي أن يضع يده على إحدى تلك العقبات التي وقفت دون استكمال مشروع حركات التحرر الوطني التي ظهرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ورغم أن كتابه الذي وضعه بعنوان «نحو ثورة في الفكر الديني»، لتحليل الأزمة الحضارية التي شغلت بال مفكري هذا العصر، إلا أن المدهش أن الرجل نجح في تجاوز عصره ومدّ رؤيته إلى واقعنا المعاصر وكأنه يعيشه، وبتحليل دقيق ورؤية علمية، استطاع النويهي أن يجيب عن سؤال «ما العمل؟»، من أجل إنجاز مشروع حركات التحرر الوطني التي عاشها، وثورات الربيع العربي التي نعيشها، ورأى أن التغيير الحقيقي للمجتمعات لا يمكن أن يتم بإزالة الحكام السابقين، أو تغيير القوانين التي تفرض سطوة الموجودين منهم، وإنما يحدث التغيير الحقيقي إذا استطاعت الثورة أن تُدخل تغييراً أساسياً على وعي المجتمع نفسه، بتغيير نظرته إلى العلاقات الأساسية بين الإنسان والواقع، وبين الإنسان والإنسان، وذلك في عملية تطهير شاملة عميقة تضرب جذور عللنا ونقائصنا ومخازينا، يحققها مفكرو المجتمع ومثقفوه، يقومون من خلالها بفحص الآراء السائدة والتقاليد الراسخة والعادات المتوارثة، فينفون عنها ما يجدون أنه لم يعد صالحاً للعهد الجديد، ويقومون بحركة إقناع للمجتمع يستخدمون فيها كل وسائل التعبير الفكري والفني وكل أساليب الجدل العلمي، أما مجرد التغيير السياسي للأفراد أو الأنظمة، فليس كفيلاً في حد ذاته بإنجاز التغيير المطلوب.
الوعي والتطور
منشأ المشكلة هو أن الوعي الأخلاقي والقيمي للأفراد، عادة ما يخلف عن ملاحقة التطور المادي والسياسي الذي يطرأ على مجتمعه، هكذا يصل النويهي في تحليله للأزمة الموجودة في عصره، وهي الأزمة التي لا تختلف عما يعانيه مجتمعنا الآن، ويتقدم النويهي في تحليله إلى أن يقرر بمنتهى الوضوح والجرأة أن التغيير لابد أن يبدأ من الدين، أي فهم الفرد للدين ودوره في حياته والمجتمع، وما هو من صميمه، وما هو خارج عنه، وذلك لحماية الدين نفسه من أن يستغله الإنسان في غير ما أنزل إليه، في ثورة فكرية شاملة تستهدف حماية الدين عن أن تتخذه القوى الرجعية مطية للتعويق والجمود بما تتبناه من فهم منحرف لنصوصه، بحيث تغالي في مدلولها وتفسيرها بما يلائم مصلحتها، وهو التفسير الذي يبرر ظهور الفوارق الطبقية الكاسحة بين الطبقات، والذي أدى إلى تعميق حدة الفقر والجهل والخوف في مجتمعاتنا، وظهور طبقة انتهازية صاعدة أرادت أن تستبقي التفاوت السحيق بينها وبين كل طبقات المجتمع، وحبسه على أمل العدل الذي سيناله في ملكوت السماء في الدار الآخرة، يضاف إلى ما سبق أن الناس في مجتمعاتنا العربية لايزال الاعتبار الديني يغلب على كل اعتبار عندهم، ولاتزال وجهة النظر الأولى التي ينظرون بها إلى كل رأي جديد يُذاع عليهم، أو مذهب جديد يُدعون إليه، هي وجهة النظر الدينية؛ هم لا يسألون عن هذا الرأي في ذاته صواباً أم خطأ، نافعاً أو ضاراً، بل يسألون أولاً: هل هو مطابق للدين أم مخالف له؟
النويهي يتبنى مشروعاً جذرياً يتناول علاقة الناس بالدين وفهمهم له ومدى وعيهم به ودوره في حياتهم، كي لا يكون همّ الناس الأول أن يسألوا عن الرأي مطابقاً للدين أم مخالفاً له، وإنما سيبحثون عن مدى كونه صالحاً لمجتمعهم من عدمه.
هل يعني هذا أن يشرع مثقفونا في اقتلاع العقيدة الدينية من قلوب الناس؟! يعود النويهي مؤكدا أن إفراغ الإنسان من المعنى الديني، هو محض محاولة «كيخوتية» أثبتت فشلها في الثورتين الفرنسية والروسية، ويدعو مفكرينا إلى محاولة أرشد وأنفع، تتلخص في الحرص على تأكيد ما للدين من رسالة في الحياة الإنسانية تنشد الارتقاء بالإنسان وإعادة بث السلام النفسي في روحه.
ولو صدّقنا هؤلاء الذين ينادون بالجمود باسم الدين لما كانت بنا حاجة إلى إضاعة الوقت الطويل وبذل الجهد المضني وإنفاق الأموال الطائلة في تعلم العلوم الحديثة واكتساب التكنولوجيا ودراسة المذاهب السياسية والاجتماعية والقانونية والفلسفية، ولعل هذا ما يرمون إليه حتى يريحونا من العناء وينقذونا من التلوث بتلك العلوم والفنون والمذاهب الأجنبية الكافرة، ثم إننا لو قبلنا كلام هؤلاء لأثبتنا على الإسلام التهمة نفسها التي يرميه بها أعداؤه، بأنه دين رجعي لا ينظر إلى الأمام ولا يدفع الإنسانية إلى هذا النظر، بل يكتفي بالعودة إلى الوراء، ويعتقد أن الأزمنة الغابرة قد بلغت حد الكمال، وأن ما علينا سوى العودة إلى أحضان ذلك الماضي الذهبي بكل أوضاعه وثقافته وظروفه، وبهذا نكون قد ألغينا العقل البشري، فلا حاجة بنا إلى معرفة أو اختراع أو تفكير، بل كل ما نحتاج إليه إذا اجتاحتنا مشكلة، أن نرجع إلى أقوال المذاهب الفقهية، حتى نعثر على الحل المطلوب.
ولو نظر هؤلاء في كتاب الله لوجدوا أن آيات الأحكام لا تتجاوز 500 آية في أشد الإحصاءات تكثراً، ومن المعروف أن الحدود التي وضعها القرآن لم تزد على 5 حدود، هي: السرقة والقذف وقطع الطريق والزنا والقتل، ولو تضمن القرآن والسنّة معاً كل شيء في التشريع، لما احتاج المسلمون إلى أقوال الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، ولو كان هذا كافياً لما احتاج المسلمون إلى اجتهادات التابعين، ولو كان هذا كافياً لما احتاج المسلمون إلى اجتهادات المذاهب الفقهية، بعد أن تغيَّرت حياة المسلمين في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستجدت مسائل كثيرة لم تكن في زمن الخلفاء الراشدين، ثم تغيَّرت حياتهم في الحجاز عنها في الشام، إلى الدرجة التي جعلت الشافعي يغيِّر مذهبه في سفرته من العراق إلى مصر وأخذ ينشر مذهبه الجديد، ويجادل مخالفيه، ويعلِّم طلاب العلم، بعد أن أعاد تصنيف كتاب «الرسالة» الذي كتبه للمرة الأولى في بغداد، ولا عجب إذن في أن نرى المسلمين وقد أخذوا قوانين الأعاجم من بلاد الفرس والروم، عندما فتحوا تلك البلاد واستقر بهم الحال فيها، وصار إليهم حكمها وتدبير شئونها، فأخذوا عنهم التشريعات التي وضعوها في القضاء والدواوين والجيش والنقد والبريد، ولم يقولوا وقتها إنها بلاد كافرة، ولم يدَّعوا أنهم يستمدون تشريعاتهم من القرآن، رغم أنه كان حياً بين ظهرانيهم.
لقد اكتفى الإسلام بتنصيب الغايات الأخلاقية السامية وحث المسلمين على أن يحاولوا تحقيقها في كل تشريع يسنونه بقدر ما تمكنهم ظروفهم وأحوالهم من هذا، وترك لهم وضع الوسائل والطرق التي يصلون بها إلى تلك الغايات، وقد تجلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وذلك في معرض حديثه مع مجموعة من الصحابة في حديث تأبير النخل الشهير، عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يأبرون النخل (أي يلقحونه)، فقال «ما أظنه يغني شيئاً»، فتركوه، فخرجت نخلتهم بسرا، أي رديئة، فراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قولته «إنما أنا بشر.. أنتم أعلم بأمور دنياكم» (صحيح مسلم).
ولعل هذا يثير مشكلة الفصل بين سلطة الدين في الأخلاق والعقائد، وبين حدوده في شئون المعاش مثل الملكية وفوائد الأموال المودعة في البنوك والمواريث والبيع والشراء والزواج والطلاق، ويأتي موقف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عندما أوقف العمل بسهم «المؤلفة قلوبهم»، ليدلل على هذا الفصل، وكان سهم المؤلفة قلوبهم هو السهم الذي يُدفع من أموال الزكاة إلى زعماء القبائل وشيوخ العشائر، اتقاءً لشرهم، إلا أن عمر رأى أن الإسلام قد أصبح في غنى وعز عن استمالة قلوب هؤلاء بأموال المسلمين، فأقدم في شجاعة لا يجاريه فيها كثير من مدعي التجديد الآن، على إلغاء فرض من فروض الله بالنظر إلى المصلحة التي أولاها عمر اجتهاده، مستنداً في ذلك إلى أن أوامر القرآن ونواهيه لا تؤخذ دائماً على الإيجاب والتحريم كما يظن البعض، بل تتنوع هذه الأوامر والنواهي إلى درجات متفاوتة من الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم، وهو ما تعارف عليه علماء الأصول بعد ذلك بالأحكام الخمسة.
إذن ذهب عمر بن الخطاب إلى أن يبطل تشريعاً عندما وجد أن الظروف قد تغيَّرت ولم تعد تسمح بتطبيقه، ولم يكن ليفعل هذا لولا أنه فقيه عالم بمبدأ المصلحة العامة، التي تُعد إحدى الغايات التشريعية التي قام عليها الإسلام، وما فعله الخليفة الثاني كان ضمن مدى اقتناعه بأن أحوال أمته قد تغيَّرت عن السياق العام الذي أتى فيه النص القرآني، بما يفرض تعديل التشريع ليناسب السياق الجديد.
النويهي يصل في تحليله النهائي إلى أن هذا التغيير الجذري في فهم علاقتنا بالدين هو ما نحتاج إليه اليوم بشدة، بعدما بات الاقتصار على الإصلاح الجزئي غير كافٍ، ومن دون ذلك لن يتسنى لنا التغيير المطلوب في سائر ميادين العلم والثقافة والفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، إلا بعد تغيير فهم الناس لماهية الدين وأثره في حياتهم ومجتمعاتهم .