الشيخ يوسف بن عيسى القناعي (1878 - 1973م)

الشيخ يوسف بن عيسى القناعي (1878 - 1973م)

في عام 1943 وجدتني طالبا في المدرسة المباركية, نقلت إليها من المدرسة الشرقية وكان للمدرسة المباركية دوي علمي باهر وصيت أدبي طائر لم يكن مثلهما للمدارس الأخرى بالكويت، وكان أستاذنا في اللغة العربية (1) يحثنا على القراءة ويصطحبنا للمكتبة نقرأ في مختلف الكتب والمجلات الثقافية.
وفي مكتبة المباركية قرأت عن جهود الشيخ يوسف بن عيسى القناعي لتحويل حلم هذه المدرسة إلى حقيقة في العام 1911، فقد دعا رجال الكويت الكرام إلى التبرع لتأسيس مدرسة نظامية وقد تولى إدارتها والتعليم فيها وكان له أثر عظيم في انبثاق الأفكار الحرة والعلوم النافعة في سمائها، كما أشار الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت».

ويذكر القناعي في كتابه الشهير «صفحات من تاريخ الكويت» عن فكرة إنشاء أول مدرسة في الكويت «المباركية» فيقول:
في أثناء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قام السيد ياسين طبطبائي وألقى كلمة، خلاصتها: «ليس القصد من مولد النبي حلاوة المولد وإنما القصد الاقتداء بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الجليلة، ولا يمكننا الاقتداء به إلا بعد العلم بسيرته، والعلم لا يأتيكم اليوم إلا بفتح المدارس المفيدة وإنقاذ الأمة من الجهل».
ومن هنا انبثقت فكرة المدرسة التي تخرج فيها رجال مشاهير في الدولة وساهمت في تطور الكويت من مرحلة الكُتّاب إلى المدرسة النظامية. بل إنه فكر في تطوير المدرسة المباركية بتدريس اللغة الإنجليزية والعلوم والجغرافيا إلى جانب النحو والصرف والتجويد وحفظ القرآن، ولكنه، واجه مشاكل كثيرة، حيث أشاع بعض شيوخ الإصلاح أن هذا لا يجوز.
ولذلك اتفق مع الشيخ عبدالعزيز الرشيد على تأسيس مدرسة الأحمدية التي تقوم بتدريس العلوم الحديثة واللغة الأجنبية فأقبل الطلاب عليها وتخرج فيها الكثير وحققت المدرسة تطوراً في الفكر ونهضة في المجتمع.
ودعا القناعي لفكرة إرسال البعثات العلمية إلى العراق للدراسة فكانت أول بعثة عام 1924م، يذهب الطلاب الكويتيون للدراسة هناك ويعودون بالشهادات العلمية، حتى اتسع الأمر في ما بعد وانفتحت البعثات إلى مختلف الدول العربية والأجنبية.
هذا الرجل استطاع أن يسجل إنجازات كبيرة في تاريخ الكويت تحولت الآن إلى مآثر عظيمة لا يمكن أن يغفلها باحث أو دارس للأدب والتاريخ والحياة السياسية والاجتماعية في الكويت.
ولا شك في أن طفولة القناعي كان لها أثر كبير في نمو ثقافته واستنارة وعيه وإقباله على العلوم الحديثة والنظم التربوية التي سادت هذا العصر.
هل تتصور هذا الرجل الذي ولد في الكويت وعمل مع والده في التجارة التي تنقل البضائع للهند وإفريقيا وسافر معه في رحلاته التجارية بالبحر يحفظ القرآن الكريم وهو مازال في السادسة من عمره؟ بل تعلم بعضا من مبادئ قواعد اللغة العربية والحساب واتجه إلى دراسة الفقه وكان من أساتذته شيوخ وعلماء منهم عبدالله خالد العدساني وعبدالله خلف الدحيان وغيرهما.
كذلك كانت له ثقافته الخاصة التي ساهمت في ارتقاء تفكيره وحرصه على العلم، حيث أقبل على قراءة كتب التاريخ وشعر بأن لديه رغبة في تسجيل أحداث الكويت فقدم كتابه «صفحات من تاريخ الكويت»، للناشئة والأجيال الجديدة، وفي الحقيقة أصبح هذا الكتاب يقتنيه الكبار قبل الطلاب ويهتم به الباحثون قبل القراء.
قرأ مؤلفات كبار علماء اللغة والدين ومشاهير الأدب والشعر وقد تأثر بأفكار كبار رجال الدعوة والإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي، وسافر إلى الأحساء والبصرة ومكة المكرمة ليواصل دراسته ويقرأ هناك على العلماء حتى حقق تفوقاً في علوم القرآن واكتسب علماً غزيراً وعزم على نشره بالكويت.
ولذلك افتتح مدرسة خاصة لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية والحساب ووقف أمام تلاميذ الكويت المعلم الوحيد في المدرسة ينشر العلم والثقافة ويحلم بنهضة كبرى لوطنه الكويت، فكانت فكرة تأسيس أول مكتبة أهلية إنجازا آخر لهذا الرجل المفكر والمصلح وأحد رواد النهضة وذلك في العام 1923م.
إنجازات هذا العلامة لا تتوقف، فكان أول من ساهم في المجلس التشريعي الأول 1921 والمجلس التشريعي التالي عام 1938 ثم بعد زيارة له بالبحرين شاهد تجربة دائرة البلدية هناك فقام بتأسيسها بالكويت، وكانت أول دائرة حكومية في العام 1930 وأصبح عضواً في المجالس البلدية التي أنشئت عقب تأسيس البلدية، كما كان عضواً في أول مجلس للمعارف ومديراً فخرياً.
أصبح الشيخ القناعي من رواد النهضة ومؤرخاً لأحداث الكويت ومديراً للمعارف يخطط للمشاريع العلمية ويرسل البعثات للخارج، بل إنه تولى القضاء بعد رحيل الشيخ عبدالله خلف الدحيان ولم يلهث ويركض خلف هذه المناصب ولكنها عُرضت عليه من قبل حاكم الكويت في ذلك الوقت الشيخ أحمد الجابر الصباح، حتى أن القناعي اعتذر في بداية الأمر عن قبول القضاء.
كلما فكرت في حياة هذا الرجل أصابتني الدهشة لمسيرته الثقافية والعلمية وإنجازاته ومشاريعه لتحقيق أفكاره التي اتسمت بالحكمة والتجربة الحياتية العميقة والخبرة بطباع النفوس وأحوال الناس والمعرفة بتاريخ منطقة الخليج والعالم الإسلامي.
فلم تكن هناك مشكلة إلا وتجمعوا حوله للاستنارة بآرائه الموضوعية وأحكامه العادلة وفضائله الاجتماعية ومآثره الإنسانية، إنه أحد الرجال الذين عاشوا من أجل الكويت دون أن تكون له مآرب شخصية أو نوازع ذاتية.
وترى ديوانه بعد صلاة العصر مزدحماً بالشعراء والمثقفين وأصحاب القضايا والباحثين عن فتوى لأمر ما، فقد كانت آراؤه سديدة ورؤيته نابعة من الفقه الإسلامي وكتاب الله والسنّة المحمدية دون تطرف أو تعصب أو مبالغة في الأحكام.
ولا يمكن أن ننسى أنه شاعر موهوب رغم أن اتجاهاته كانت في الأغراض الدينية والإخوانيات والموعظة والدعوة إلى العلم ومهاجمة أصحاب العقول المتجمدة الذين يرفضون  التنوير والثقافات الجديدة والاطلاع على تجارب الشعوب التي تقدمت في الحياة.
وكان يستمع إلى الحضور ويناقش معهم القضايا السياسية السائدة في تلك الفترة ويقرأ عليهم بعضاً من أشعاره، فيقول لحاكم الكويت الشيخ عبدالله السالم يهنئه في عيد الاستقلال:
أهنيكَ في عيد التحرّرِ كلما
بدا طالع للشمس في كل مشرقِ
وأرجو لك التوفيق مادمت سالما
تقوم بعدل في البلاد وتتقي
وإني أهنّي الشعب فيك لأنه
يرى أنك الماء الذي منه يستقي
ويعبّر عن مشاعره الوطنية حينما فكر عبدالكريم قاسم بضم الكويت للعراق في العام 1961 فقال:
خدعوك يا عبدالكريم بقولهم
أنت الزعيم الأوحدي العالمُ
والحق أنك أحمق بل جاهلٌ
مستكبر مستهتر، بل ظالمُ
ومن أشعاره الاجتماعية عن مكانة الأم وحبه لها يقول:
هنيئاً للذي تحميه أمٌ
يراها بالغداة وبالأصيلِ
يحييها بلطف واحترامٍ
وعطفٍ كالشفيقِ على العليلِ
ومن أروع القصائد التي يصف فيها كفاح الكويتيين أثناء الرحلات بالسفن عبر الهند وإفريقيا يخاطب جبلا اسمه «سلاما» يقع بالقرب من مضيق هرمز، حيث تمر بجواره سفن التجارة، وقد عاش القناعي التجربة ورسم صورة تسجل مشاهد للتراث البحري الكويتي وتصف رحلة الأجداد وكفاحهم وكيف استطاعوا مقاومة البحر وأهواله، وعن صفات أهل الكويت الذين يتسمون بالكرم وإغاثة المنكوب والعطف على اليتامى والمساكين. فكتب يقول:
بربك حدثيني يا سلاما
عن الآباء بالسفن القدامى
أَهُمْ أمثالنا في كل حال
أو امتازوا بفضل قد تسامى؟
وهم مروا عليك مع التحايا
بطول حياتهم عاما فعاما
وسموك بهذا الاسم لما
نجوا من لج بحر قد تطامى
هلمي يا سلاما واصْدقيني
ولا خوف عليك ولا ملاما
فقالت: إنهم أوفى بعهد
وأحنى للضعيف ولليتامى
وأكرم منكم للضيف حتى
غدوا في مسمع الدنيا كراما
وأشجع منكم إن صال عادٍ
على الوطن العزيز وإن ترامى
ومؤلفات هذا الرائد مازالت لها قيمتها الأدبية والتاريخية وتعتبر مرجعاً لكثير من الباحثين والطلاب والدارسين والقراء، هذا رجل استطاع أن يحفر اسمه بحروف من نور في تاريخ الكويت، ولا يمكن أن تكتب عن تاريخ رجال الكويت سواء من المفكرين أو من الشعراء أو الأدباء أو المؤرخين، دون أن تتوقف أمام إنجازات الشيخ القناعي لأنه يشمل كل هذه الاتجاهات.
وأتمنى أن نعيد طباعة مؤلفاته حتى لا تظل في المكتبات دون أن يدرسها طلاب الكويت ويستلهمون العظات والمواقف الكبيرة ويتعلمون أجمل دروس الوطنية والولاء للكويت الحبيبة.
فهناك المذكرة الفقهية: وهي رسالة موجزة عن قضايا الفقه الإسلامي، وكذلك كتاب «الملتقطات» الذي احتوى على بعض المعلومات التي أعجب بها الشيخ القناعي وحاول أن يقدمها للقراء من أشعار وحكم وأقاصيص تمدنا بالدروس الأخلاقية والفائدة الذهنية.
أما كتابه «صفحات من تاريخ الكويت» فقد قرأته كثيرا ليس فقط للاطلاع على أحداث الكويت ولكن للتعرف على الجانب الإنساني والثقافي للمجتمع ورجاله خلال تلك الفـترة، والكتاب يتميز بالمصداقية لأنه كتب عن أحداث عاصرها وساهم فيها، ويقول في مقدمة الكتاب: «فهذه نبذة يسيرة من تاريخ الكويت ألفتها لأبناء المدارس مبتدئا فيها من صباح الأول، وختمتها بوفاة مبارك بن صباح سنة 1334 وأرجأت تاريخ من بعده إلى وقت آخر إن سنحت لي الفرصة، وقد اعتمدت فيها على ما شاهدته ثم النقل عن الآباء فنقل الآباء عن أسلافهم».
وكان رحيل العلامة الكبير في يوم الخميس السادس من يوليو 1973 عن عمر ناهز الستة والتسعين عاما، وقد بكت عليه المدارس التي ساهم في تأسيسها وطلابه الذين درَّس لهم ومنحهم حرية الفكر وتعلموا منه الدرس الأول في الحياة، الإيمان العميق بالله والأخذ بالعلم والتطور والحضارة.
لا شك في أن هناك جوانب كثيرة في حياة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي قد أكون أغفلتها ولكن أعتقد أن لدينا كتباً كثيرة تتحدث عن سير الرجال العظام في تاريخ الكويت، وعلينا أن نقدم هذه الكتب إلى الأجيال الجديدة لتكون على اطلاع دائم برجال الكويت الأشداء الذين ساهموا في نهضتها العلمية والثقافية.
رحم الله الشيخ القناعي وأسكنه فسيح جناته رجلاً لا يُنسى في تاريخ الكويت.