القضاء في الإسلام
يعتبر النظام القضائي الإسلامي من أعظم النظم القضائية المكتوبة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، إذ إن تطبيقات النظام القضائي الإسلامي قد ولدت بميلاد رسالة الإسلام, كما أن فقهاء المسلمين دوَّنوا نظاماً قضائياً دقيقاً أفرزوه في مدوناتهم وكتبهم القضائية ورسائلهم الفقهية. وقد انتهج نهجهم فقهاء القانون المعاصرون، ولا نكاد نجد فرقاً شاسعاً بين النهجين إلا في الآراء والمسائل المستحدثة حالياً.
1- تعريف القضاء لغة:
معنى القضاء هو الحكم، وهي كلمة مفردة وجمعها أقضية، والقضاء مصدر وفعله قضى يقضي وفاعله قاض. وللقضاء معانٍ كثيرة في اللغة وهو الحكم والأمر والإلزام والمنع والانتهاء والفراغ والأداء، فيأتي بمعنى الحكم؛ قال الله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} - سورة طه الآية رقم 72
. ويكون بمعنى الأمر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} - سورة الإسراء آية رقم 23.
ويكون بمعنى العهد؛{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} - سورة الإسراء آية رقم 4. ويكون بمعنى الحكم والأداء: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُم}ْ - سورة البقرة آية رقم 200. وهذه المعاني السالفة تدور كلها حول إنهاء الشيء أو الفراغ منه قولاً أو فعلاً وأحكاماً.
2- تعريف القضاء شرعاً:
وفق تعريف الأحناف فالقضاء هو الفصل في الخصومات وقطع المنازعات. وعند المالكية هو الإخبار عن حكم شرعي والإلزام به. وعند الشافعية هو رفع الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله.
وبرغم اختلاف الفقهاء في تعريف القضاء فإن هذه التعريفات تدور جميعاً حول فكرة واحدة هي أن القضاء فصل للخصومات بتبيان الحكم الشرعي فيها والإلزام، فالقضاء كاشف عن حكم الله ولا ينشئه.
3- تعريف القضاء عند رجال القانون:
باستعراض تعريفات رجال القانون للقضاء نجدها لا تخرج عن معناه في الفقه الإسلامي، بالرغم من أن بعض الفقهاء ذهبوا في تعريف القضاء مذهباً شكلياً، ومنهم من ذهب مذهباً موضوعياً. إلا أن فكرهم ذهب إلى أن القضاء عبارة عن تنظيم رسمي يهدف إلى الفصل في المنازعات وفقاً للقانون بأحكام قضائية تتسم بالإلزام.
مشروعية القضاء
تعددت مصادر التشريع الإسلامي التي أوردت مشروعية القضاء، وهي الكتاب الكريم والسنُّة والإجماع.
1- مشروعية القضاء في الكتاب الكريم:
دلت آيات كثيرة، في القرآن الكريم، دلالة قاطعة على وجوب القضاء؛ من مثل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} - سورة المائدة آية رقم 48. وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} - سورة النساء آية رقم 105. وقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} - سورة ص آية رقم 26. فهذه الآيات المحكمات جاءت مؤكدة على وجوب القضاء وكان يتولاه الأنبياء.
2- القضاء في السنُّة:
أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية القضاء سواء بأقواله أو بأفعاله؛ فقد قال، صلى الله عليه وسلم،: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها».
وأما الوجوب بأفعاله صلى الله عليه وسلم فقد جلس الرسول وقضى بين الناس في كثير من الأمور، ولذلك يكون أول قاض في الإسلام كما أمر صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بالقضاء وأرسل العديد منهم إلى الأمصار لتولية القضاء نيابة عنه. وقد فعل ذلك مع علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعتاب بن أسيد.
3- القضاء بالإجماع:
الإجماع هو اتفاق الفقهاء على حكم شرعي لواقعة لا يوجد لها حكم في الكتاب والسنُّة. وقد أجمع فقهاء الإسلام منذ صدر الإسلام على مشروعية القضاء وضرورته ولم يوجد اختلاف لأحد على ذلك، وقد تولى الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم القضاء واهتموا به، وأصبح من مظاهر سيادة الدول وسلطة من سلطاتها.
الحكم في الدخول للقضاء
فالقضاء ضرورة يحتّمها العيش في المجتمع، ولذا فقد جعله الله أمراً واجباً وأمر به رسله وأنبياءه وجعله منصباً نبوياً تولاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأولاه لأصحابه فباشروه بأنفسهم، وعهدوا به لأحسن الرعية علماً وورعاً وتقوى، فهو فريضة محكمة، وسنّة متبعة بل هو من أقوى الفرائض وأشرف العبادات، فالقضاء بالحق هو كشف للعدالة، وبالعدل قامت السماوات والأرض، ولذلك فلا شرف في الدين بعد الخلافة أشرف من مهمة الفصل بين الناس في خصوماتهم واعتداءاتهم لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين}َ - سورة فصلت آية رقم 33. وقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}َ - سورة المائدة آية رقم 42.
فالقضاء فرض واجب لقوله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} - سورة النساء آية رقم 135، ولكنه فرض كفاية يسقط عن المجتمع إذا قام به البعض وإنه فرض عين على الحاكم، إذ يتعين عليه القيام بالولاية العامة تيسيراً للناس، والقضاء جزء من هذه الولاية، لهذا كان القضاء واجباً على الحاكم ويلزم القيام به بنفسه أو أن يعهد به للغير ممن يَحسُن خلقهم وتعلو مكانتهم العلمية والذهنية، وإن الحاكم أو الإمام مسئول أمام الله عن اختيار أحسن الرعية لتولي القضاء، وقد يكون القضاء واجباً وقد يكون مندوباً وقد يكون مكروهاً وقد يكون حراماً، فإذا كان الفرد صالحاً للقيام به ولا يوجد من هو أصلح منه فيكون واجباً عليه، ويكون مندوباً إذا كان هذا الفرد صالحاً ولكنه أصلح به من غيره، ويكون مباحاً إذا استوى الفرد مع غيره في الصلاحية للقيام بالقضاء، وإذا كان الفرد صالحاً لكن يوجد مَن هو أصلح منه يكون مكروهاً، وإذا لم يكن الفرد صالحاً للقضاء فإن توليته تكون حراماً. وعلى ذلك فقد انتهى إجماع الفقه إلى أن حكم القضاء يعتبر واجباً كفائياً بحيث إذا تولاه من هو أهل له سقط عن الآخرين, وذلك بقولهم «القضاء واجب كفائي», وليس واجباً عينياً، فالواجب العيني يكون متعيناً على كل المكلفين وإن الذي يتولى القضاء يسمى قاضياً.
مسئولية القضاء
فالدخول في القضاء محنة وبلية ومن دخل به فقد عرَّض نفسه لها، لأن التخلص منه عسير والهروب منه واجب، ولاسيما في هذا الوقت وطلبه حمق وإن كان حسبة، ولقد أولى الإسلام القضاء المسئولية الكبرى أمام الله والمجتمع، فقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكين»، فقيل: يا رسول الله، وما الذبح؟ قال: «نار جهنم». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا نستعمل على عملنا من أراده». وقوله صلى الله عليه و سلم: «من ابتغى القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، وُكل إلى نفسه، ومن أُكره عليه، أنزل الله عليه ملكاً يسدده ومنه من مال إلى الإمارة وكل إليها، ومعناه لم يعن على ما يتعاطاه والمتعاطي أبداً مقرون به الخذلان، فمن دعى إلى عمل، أو إمامة في الدين فأقصى نفسه عن تلك المنزلة، وهاب أمر الله، رزقه الله المعونة. وهذا مبني على من تواضع لله رفعه الله.
فمن الواجب على كل من ابتلي بالقضاء أن يكثر من التذلل لله والمراقبة له عند أمر أو نهي والأخذ بالشفقة على العباد، وقد روى الليث بن سعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي ولاية فأحسن فيها أو أساء أُتي به يوم القيامة، وقد غلت يمينه إلى عنقه، فإن كان عدلاً في أحكامه، أطلق من أغلاله وجعل في ظل عرش الرحمن، وإن كان غير عدل في أحكامه، غلّت شماله إلى يمينه فيسبح في عرقه حتى يغرق في جهنم»، وقوله صلى الله عليه و سلم: «القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة واثنان في النار، قاض علم الحق وقضى به، وقاض علم الحق ولم يقض به، وقاض لم يعلم الحق ولم يقض به». وإنه لما علم سلفنا الصالح ما في القضاء من ابتلاء ومحنة فقد فرّ عنه الكثير منهم وامتنعوا عن الجلوس للقضاء.
وقد نقل عن عثمان بن عفان أنه قال لعبدالله بن عمر بن الخطاب: اقض بين الناس، قال: لا أقضي بين رجلين ما بقيت. قال: لتفعلن ذلك فإن أباك كان يقضي. قال: «أبي كان أعلم مني وأنقى».
كذلك ما نقل عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت عندما دعاه هبيرة للقضاء فأبى، فحبسه وضربه أياماً، كل يوم عشرة أسواط وهو متمسك بإبائه إلى أن تركه.
وممن أبى تولية القضاء في عهد أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدالرحمن بن معاوية فقيه يدعى مصعب بن عمران؛ إذ وقع اختيار الخليفة عليه وعرض عليه القضاء فأبى قبوله وتعذر بأعذار تعيقه عنه، فحمله الخليفة على القبول، وأصر مصعب على الرفض، فغضب الخليفة وهاج وأطال الإطراق ثم رفع رأسه إليه, وقال: اذهب عليك العفا وعلى الذين أشاروا بك. ومما يحكى عن مسلمة بن زرعة أنه قال: رأيت في الأندلس قاضياً يدعى مهاجر بن نوفل القرشي ما رأيت مثله في العبادة والورع ولقد بلغني في موته أعظم العجب. أخبرنى به ثقات من أهل بلده. وذلك أنه لما مات دفن في مقبرتهم ليلاً، فلما أهيل التراب عليه سمعوا من القبر كلاما فاستمعوا له فسمعوه ينادي: أنذركم ضيق القبر وعاقبة القضاء. قال فكشفوا عنه وظنوه حيا فوجدوه مكشوف الوجه ميتاً بحالته التي قُبر بها.
ويوجد العديد ممن أبوا تولي القضاء خوفاً ورهبة لا يسع المقام لذكرهم جميعاً، ونسأل الله لنا ولهم العافية والمغفرة.
الترغيب في القضاء
فالقضاء أمر ضروري ولازم لحياة الأمم ورقيها وإسعادها، ذلك أن طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق وقلّ من الناس من ينصف غيره من نفسه ويلتزم نداء ضميره فهو ينزل بغيره ما لا يرتضيه لنفسه.
فالقضاء يصلح بين الناس وفيه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وبالقضاء تعود الحقوق إلى أربابها ويردع الظالم عن غيه وتصان الأعراض وتحفظ الأموال ويضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، فيعيش الناس في مأمن على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم.
والقضاء أمن اجتماعي، وتأمين وحماية للشريعة وأنظمتها ولا يستقيم أمر الناس من دونه.
لذا فقد أنزله الله تعالى منزلة سامية وشرَّفه بتولي الأنبياء بأنفسهم ومن بعدهم الخلفاء وأنه لا شرف في الدين بعد الخلافة أشرف منه لقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} - سورة ص آية رقم 26.
وقد مدح الله عز وجل أنبياءه الذين يتولون وظيفة الحكم بما في التوراة من الهدى والنور، بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} - سورة المائدة آية رقم 44.
ونظرا لما للقضاء من منزلة عظيمة وقدسية بالغة وثواب جم في الآخرة فقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من النعم التي يباح الحسد عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق، وآخر آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعمل بها». وقد ورد عن سلفنا الصالح ما يفيد إجلالهم واحترامهم للقضاء، فهذا عمر بن الخطاب يقول في رسالته التي بعثها إلى أبي موسى الأشعري: «القضاء فريضة محكمة وسنّة متبعة». وما ورد من قول الإمام مسروق بن الأجدع الهمزاني «لأن أقضي بقضية فأوافق الحق أحب إليّ من رباط سنة في سبيل الله». وما قاله الفقيه الشافعي محمد بن أحمد القرشي «الحمد لله الذي قسَّم أرزاق الخلائق وآجالهم، ورتب لكل منهم منزلة ورتبة، وجعل أجلّ المناصب الدينية منصبي القضاء والحسبة»، وما ورد عن أبي الحسن بن عبدالله النباهي فقيه الأندلس من قوله «خطة القضاء في فقهنا عند الكافة من أسمى الخطط، فإن الله تعالى رفع درجة الحكام وجعل إليهم تصريف أمور الأنام، يحكمون في الدماء والأموال والحلال والحرام، وتلك خطة الأنبياء، ومن بعدهم الخلفاء، فلا شرف في الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء».
وقد توارث قضاة الإسلام إكبار منصب القضاء، ففي بعض الحالات النادرة في التاريخ الإسلامي جمع قليل من القضاة بين كل من ولاية القضاء وبين الوزارة، وكان من بين هؤلاء الوزراء عبدالرحمن بن بشر الذي خاطب القاضي ابن هشام قاضي القيروان، في شأن تنفيذ حكم قضائي أصدره، وأثبت في خطابه صفتيه كوزير وقاض، مقدماً ذكر الوزارة على القضاء، فلما قرأ القاضي ابن هشام كتابه، رمى به ولم ينفذه وقال كلمته الخالدة «ما عهدنا وزراء القوم تنفذ أحكامهم». ويعني بقوله أن أحكام الوزراء لا تنفذ، أي لا تكون لها حجية الحكم المقضي به بلغة عصرنا، ومن ثم ومادام ابن بشر قد خاطبه بصفته وزيراً لا قاضياً فقط، فإنه يكون في حل من إهدار حكمه.
وعلى ذلك فإن المنزلة التي أضفاها المسلمون على القضاء تدل على أسبقيتهم على النظم الحديثة في إجلال القضاء، إذ إنه أهم سلطات الدولة، فأساس القضاء هو العدل وهو أساس الملك.
التمييز بين القضاء والفُتيا
توجد صلات وثيقة بين القضاء والإفتاء، فقد اعتمد المسلمون منذ بداية رسالة الإسلام على الفتوى عن طريق السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء، وإنه لما كان القاضي والمفتي يستنبطان حكم الله من الأدلة الشرعية للواقعة المعروضة عليهما، وعلى ذلك قامت وزارات العدل في العديد من البلدان بإنشاء إدارة للفتوى ملحقة بوزارة العدل ويكون المفتي فيها تابعاً لوزارة العدل إدارياً ومالياً، لكن من البيّن وجود اختلاف بين القضاء والفتيا كما يوجد اتفاق بينهما.
1- الفرق بين القضاء والإفتاء يعرف الإفتاء بأنه الإخبار عن حكم الشارع في أمر من الأمور، فالمفتي إذا سئل عن حكم حادثة يستقرئ الأدلة ويتبع مقتضاها ويخبر الخلائق بما ظهر له من غير زيادة ولا نقصان، هذا إن كان المفتي مجتهداً، فإن كان مقلداً نظر في مذهب إمامه ونقل للسائل حكم الحادثة منه، والإفتاء مشروع بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} - سورة النحل آية رقم 43، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتي عن الله بوحيه المبين وكانت فتاواه مشتملة على فصل الخطاب وجوامع الأحكام، وهذا المعنى يتوافق مع تعريف القضاء، ويختلف معه كما سلف أن أوضحنا في تعريفنا للقضاء.
وتتمثل أوجه الخلاف كالآتي:
1- إن القضاء ملزم ويتحتم قبول الحكم فيه ويغلب أن يكون الحكم بين طرفين ويجبر المتخاصم على قبول الحكم وتنفيذه، أما الفتوى فتكون إيضاحاً لحاله من دون خصوم ومن دون إلزام، ولا يجوز للمفتي أن يلزم سائله.
2- إن دائرة الإفتاء أوسع من دائرة القضاء، فالفتوى شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، أما القضاء فيفصل بين خصمين هما طرفا الدعوة.
3- على القاضي أن يتبع الحجج وهي البينة والإقرار بجانب الأدلة الأخرى، أما المفتي فلا يعتمد على الحجج وحدها، فالقاضي له أن يفحص أقوال الخصوم وأدلتهم، أما المفتي فلا يتعرف لحيل المستفتين ولا مكرهم.
4- للمفتي أن ينيب مفتياً آخر، أما القضاء فلا يجوز للقاضي أن يمتنع عن الحكم ويطلب من الخصوم التوجه لقاض آخر.
5- المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي، لأنه لا يلزم بفتواه وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله أو رفضه، أما القاضي فإنه يلزم بقوله، لذا فحكمه يتميز بالإلزام.
أوجه الاتفاق بين القضاء والإفتاء
1- أنزل الفقهاء الفتوى والقضاء منزلة رفيعة واهتموا بهما اهتماماً عظيماً، فاعتبر المفتي وارثاً للأنبياء. بل ذهب البعض إلى اعتبار المفتي قائماً مقام النبي، كذلك القضاء فهو من رسالات الأنبياء، وقد منحه الإسلام مكانة رفيعة وقدسية بالغة.
2- إن الإفتاء فرض كفاية، وكذلك القضاء، فإذا طرحت قضية للإفتاء وجب على جميع العلماء أن يبينوا حكم الشرع فيها، وإذا امتنعوا أثموا جميعاً، وإذا أفتى عالم واحد سقط الفرض عن الباقين، كذلك القضاء.
3- من المبادئ الأساسية التسوية بين الخصوم في القضاء، كذلك يجب التسوية بين المستفتين، فلا يجب الميل لأحد معيَّن سواء في الإفتاء أو القضاء فيستوي الغني والفقير والقوى والضعيف.
4- يجب على القاضي ألا يحكم وهو غضبان، كذلك يجب على المفتي ألا يفتي في قضية معروضة عليه وهو غضبان أو عطشان، أو لديه أي شيء مما يؤثر في حواسه.
5- كذلك يجب على القاضي ألا يتساهل في قضية معروضة عليه، وأيضاً يجب على المفتي ألا يتساهل في قضية معروضة عليه.
6- كما أنه يجب على الحاكم والإمام أن يتفقد أحوال القضاة والمفتين، ويجب التفتيش على المفتين والقضاة .