الإسلام والمواطَنة.. تعارض أم احتواء؟

الإسلام والمواطَنة.. تعارض أم احتواء؟

إذا كان التطور الغربي لم يعرف المواطنة إلا بعد الثورة الفرنسية، بسبب التمييز على أساس الدين، بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أساس العرق، بسبب الحروب القومية، وعلى أساس الجنسية، بسبب التمييز ضد النساء، وعلى أساس اللون في التمييز ضد الملونين، فإن المواطنة الكاملة، في الحقوق والواجبات، قد اقترنت بالإسلام، وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى - في المدينة المنورة - على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالإنسان في الرؤية الإسلامية، هو مطلق الإنسان.. والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم.. والخطاب القرآني موجه أساسا إلى عموم الناس.. ومعايير التفاضل هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع. 

لقد وضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في السنة الأولى للهجرة.. ففي أول دستور لهذه الدولة تأسست الأمة على التعددية الدينية، ونص الدستور الصحيفة على أن «اليهود أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وأن لهم النصرة والأسوة مع البر من أهل الصحيفة.. ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.. على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصرة على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم..».
مفهوم المواطنة: في اللغة العربية يعتبر مفهوم «المواطنة» هو المفاعلة بين اثنين فأكثر، قد يصبحون عشرات أو مئات أو ملايين يتفاعلون حول الوطن، فيقتسمون كل الانتماء وكل الحقوق والواجبات، وبذلك يحققون انتماء آخر بعضهم لبعض بالتصاق مع الوطن الذي هو قطب الرحى في هذا الانتماء، ومنهم يتكون الشعب وتتكون الأمة. 
والمواطنون - كما يقول الكاتب سيد محمود عمر في كتابه عن المواطنة - يحملون دلالات أقوى من دلالات الشعب لأن كلمة الشعب لا تشعر بالانتماء وبالارتباط بالأرض وبالآخر إلا عرضا. ولكن المواطنة تشعر بما يوحي به جذر الكلمة لغويا وبما يوحي به مفهومها القانوني والسياسي وما يوحي به التفاعل بين الذين ينتمون إلى الوطن فيأخذون منه ما يعطي من حقوق ويمنحونه مما يتطلب من واجبات. 
والمواطنون يحملون دلالات أقوى من دلالات الأمة تستمد مفهومها أحيانا من الجنس أو اللغة أو الدين، ولو اختلفت أوطانها، أو باعدت التيارات السياسية بين دولها وباعد بينها التكوين الدولي. ولكن المواطنة تقتضي الالتصاق بالوطن كأساس يفرض في الغالب وحدة اللغة وأحيانا كثيرة وحدة العرق ووحدة الدين، ودائما وحدة الحكم ولو في اتحاد فدرالي، ووحدة العلم بكل ما تعنيه من الدفاع عنه والاستشهاد في سبيله. 
إذن المواطنة هي مفاعلة بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه، وهي علاقة تفاعل لأنها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات. ولابد لقيام المواطنة أن يكون المواطن وولاؤه كاملين للوطن يحترم هويته ويؤمن بها وينتمي إليها بكل ما في عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة والأرض التي تمثل وعاء الهوية والمواطنة. وولاء المواطن لوطنه يستوجب البراء من أعداء هذا الوطن. 
ومن هنا تعتبر المواطنة التعبير الاجتماعي لعملية انتماء الإنسان للواقع والموقع الذي يعيش فيه. ولذلك فمواطن من غير وطن تائه، ووطن من غير إنسان مهجور ولا معنى له، والربط بينهما هو المواطنة التي تجعل المواطن مستقرا في وطنه، هادئ البال فيه، كما يجعل الوطن معمورا بالمواطنين الذين يحبون وطنهم ويفدونه بالغالي والنفيس. 

المواطنة والوطنية
إن الوطنية تنبع من حب الوطن والاندماج في مقوماته الأرضية والإنسانية والعقائدية والفكرية والتاريخية والدفاع عنه إلى حد الاستشهاد. وتعني كذلك أن يراعي المواطن سيرة الوطن وهو يتحرك في طريق التنمية الاقتصادية أو طريق التنمية الديمقراطية 
أو في طريق تصحيح مسار الحكم. 
والوطنية هي الإطار الفكري النظري للمواطنة، بمعنى أن الوطنية عملية فكرية بينما المواطنة ممارسة عملية. ومن جهة أخرى فالوطنية تعني الانتماء والولاء الفكري لموقع الوطن الذي يسكن فيه، وتعني المواطنة المشاركة في كل ما يحترم هذا المكان الذي يعيش فيه الإنسان المواطن. 

المواطنة والدولة الحديثة
 الحرية هي أساس الديمقراطية التي (هي حكم الشعب بالشعب وللشعب) وتحقيق الحرية هو السبيل الوحيد لتحقيق الديمقراطية. ومع الحرية والقانون وضمان حقوق الناس بدأ النظام الديمقراطي ينظم نفسه بالدستور والقوانين التنظيمية والمؤسسات المنتخبة. إن الشرعية الديمقراطية كمبدأ أي كغطاء لممارسة الإنسان لحقوق المواطنة يجعلها سابقة على القنوات والمؤسسات التي تمارس فيها وبواسطتها. 
ولذلك يقول نبيل عبدالفتاح في مقاله عن «المواطن والدولة الحديثة» في إيجاز مركز إنه: «لا ديمقراطية دون مواطن وحقوق مواطنة وهذه أزمة الدول المعاصرة». وهذا صحيح إلى حد بعيد، فمفهوم المواطنة هو أحد المكونات الأساسية والمتطورة للمعنى والمحتوى والدلالة في إطار الدول القومية الحديثة والرأسمالية الغربية، ومن ثم أثّر التطور في كليهما على مفهوم المواطنة من حيث الدلالات القانونية إلى الدلالات المدنية والحقوقية إلى مجال الحقوق الاجتماعية. 
ولا شك في أن مفهوم دولة القانون المتداول الآن في الساحة السياسية يكمل مفهوم القانون. ودولة القانون هي الدولة التي تعيش بالقانون وتمارسه تطبيقا في واقع حياتها في كل تصرفاتها السياسية والقضائية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأخلاقية. 
ويكتمل مفهوم القانون بوضوح مفهوم العدالة التي تنفي عمليا كل أشكال الظلم فتحقق بذلك جوهر العدالة. فالقانون وسيلة لتحقيق غاية العدالة والقانون المحقق للعدالة هو إطار من القانون الذي يستهدف العدل. ولقد سما القانون بالمواطنة ووصفها في أعلى مكانة بل في ما يعرف بالقمة من القوانين. 

حقوق المواطنة وحقوق الإنسان
 حقوق الإنسان بقرارات دولية تكاد تسود العالم بكل دولة ومواطنها. أما حقوق المواطنة فتضعها دولة معينة لمواطنيها بقوة القانون، فهي حقوق قانونية محددة متجسدة يمكن المطالبة بها بقضايا في المحكمة. 

الحقوق في مجال المواطنة الليبرالية الاجتماعية
 فكون الفرد مواطنا تمنحه المواطنة حقوقا متساوية مع كل من عداه من المواطنين، وأبرز هذه الحقوق التي تمنحها المواطنة، ومن أهم موضوعاتها ثلاثة هي: 
1- الحقوق السياسية: تتمثل في حق التصويت والترشيح في الانتخابات. 
2- الحقوق الاجتماعية: تتمثل في الحقوق التي تضمن الرفاهية والأمن الاقتصاديين. 
المواطنة والمساواة الاجتماعية: وتتمثل في معنيين، هما ما يأتي: 
المعنى الأول: المساواة في الثروة المادية, فهي ليست مبدأ مطلقا ولا معيارا صارما، ولكنها مفهوم نسبي، وإن للاقتصاديات تأثيرا كبيرا في الحقوق السياسية بحيث يصعب التمييز بين القوة الاقتصادية والقوة السياسية، فيؤثر مستوى الثروة المادية في مواطنة المرأة بطريقة أخرى. فالفقر في المجتمع الرأسمالي يقلل من قيمتها، ولا يحظى المرء بالاحترام لأنه ببساطة ينقصه المال ولا يسمع صوته، ولا رأيه لأنه صوت خاسر.   
المعنى الثاني: المساواة في المشاركة الاجتماعية، فإنها تؤثر في مواطنة الفرد المواطن ومستوى ونوع المشاركة الاجتماعية كلاهما مهم في هذا الخصوص. فمن خلال الممارسة الاجتماعية يتعلم الناس كل أنواع المهارات التي تنعكس فتفيد إلى حد كبير في ممارسة المواطنة الديمقراطية. 
وجميع الحقوق السابقة لا تحتاج إلى مجرد الإثبات والتقرير بالدساتير والقوانين، وإنما هي في حاجة ماسة إلى الممارسة ممن قررت لأجله هذه الحقوق من المواطنين. فإن ممارسة هذه الحقوق تمثل جزءا حاسما من ممارسة المواطنة التي تنبع منها هذه الحقوق، فإن لم تتم ممارستها فإنها ستظل في الدساتير والقوانين (حبرا على ورق)، بل ربما لا تساوي في القيمة الورق الذي كتبت عليه، خاصة في ما يتعلق بالمرأة التي لا تمارس حقوقها الرسمية المقررة لها في الدساتير والقوانين بالمستوى نفسه الذي يمارسه الرجل، ولذلك يقول الكاتب سيد محمود في كتابه عن المواطنة: «إن المرأة بذلك ليست مواطنة مساوية للرجل بعد، لأن مواطنتها ناقصة في ممارستها ولن يتمكن من الوصول إلى المواطنة الفعالة الكاملة والمتساوية بين الجنسين كوسيلة لزيادة احترام النساء إلا إذا حدثت ممارسة النساء بالمشاركة في صنع القرار ونجحت في القيام بهذا، وهذا هدف وغاية مرجوة تحقيقها». 

المواطنة بين المفهوم والممارسة
 ولكي يتجلى وضع المواطن بين مفهومها النظري إلى ممارستها من المفهوم النظري إلى المشاركة والممارسة الفعلية، وتتمثل هذه القيم المحورية في أربعة مرتكزات - كما يوضحها الشيخ عبدالحميد محمد علي - هي: 
أولا: المساواة: وتنعكس على العديد من الحقوق مثل التعليم والعمل والجنسية والمعاملة المتساوية أمام القانون والقضاء. 
ثانيا: الحرية: وتنعكس في العديد من الحقوق مثل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التنقل داخل الوطن، وحرية الحديث والحوار والمناقشة مع الآخرين حول مشاكل المجتمع حاضره ومستقبله، وحرية تأييد أو الاحتجاج على قضية أو موقف أو سياسة ما تتعلق بالوطن في شئونه الداخلية أو الخارجية.
ثالثا: المشاركة: تتضمن العديد من الحقوق مثل الحق في تنظيم حملات الضغط السلمي على بعض المسئولين لتغيير السياسة أو البرامج أو بعض القرارات، وممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي المنظم: كالتظاهر والإضراب حسبما ينظمها القانون، وتأسيس والاشتراك في الأحزاب السياسية أو النقابات أو الجمعيات الأهلية أو تنظيمات أخرى خاصة بخدمة المجتمع أو طائفة من أفراده. 
رابعا: المسئولية الاجتماعية: وتتضمن العديد من الواجبات، كواجب دفع الضرائب، وتأدية الخدمة العسكرية للوطن، واحترام حرية وخصوصية الآخرين، واحترام القانون. 
وهكذا ومن كل ما سبق يتبين أن المواطنة ليست مجرد مجموعة من النصوص والمواد القانونية التي تثبت مجموعة من الحقوق لأعضاء جماعة معينة وتفرض عليهم مجموعة من الواجبات، ولكنها ممارسة نشاط داخل المجتمع، ولا تتم بشكل عرضي أو مرحلي، بل هي عملية تتم بشكل منتظم ومتواصل وبطرق صغيرة وعديدة وبتفاصيل لا تعد، هي جزء من نسيج حياتنا اليومية. 
 ولذلك فالوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الأساسية في تهيئة المواطن للمواطنة، مما يستوجب ويتطلب ضرورة التربية على ثقافة المواطن بكل ما تحمله من قيم وما تحتاج إليه من مهارات. ومن هنا تأتي علاقة المواطنة الوثيقة والمهمة بالتربية والتعليم إذا أردنا تحقيقها على وجهها الأمثل والأكمل مفهوما وممارسة. 

المواطنة من منظور إسلامي
 لقد تأسست المواطنة بالإسلام في الدولة الإسلامية، عندما جمعت الأمة أهل الديانات المتعددة، على قدم المساواة، لأول مرة في التاريخ، وعندما بدأت العلاقات بين سلطة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين من يدينون بالنصرانية «نصارى نجران عام 10 هـ» فقررت لهم الدولة الإسلامية بالعهود الموثقة كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، وكان شعارها هي «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».
ولقد نص العهد على أن «لنجران وحاشيتها وسائر من ينتحل النصرانية في أقطار الأرض، جوار الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم، على أموالهم وأنفسهم وملتهم.. وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم.. أن أحمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين ما كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي.. لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.. وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء في ما لهم وفي ما عليهم». 
ويضيف المفكر والكاتب محمد عمارة في مقاله «عهود الحق»: «عندما أباح الإسلام زواج المسلم من الكتابية (اليهودية والنصرانية) أسس ذلك على شرط احترام عقيدتها الدينية احتراما كاملا.. ولابد في الزواج من رضا الأهل». ولقد جاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران عن هذا الزواج «ولا تحملوا من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين.. لأن ذلك لا يكون بطبيعة قلوبهم.. إن أحبوه ورضوا به.. وإذا صارت النصرانية عند المسلم، فعليه أن يرضى بنصرانيتها، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها، وأخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينها، فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله، وهو عند الله من الكاذبين». 

بناء وترميم دور العبادة
 بل لقد بلغت آفاق المساواة في حقوق المواطنة الحد الذي نص فيه عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النصارى على مساعدة الدولة الإسلامية لهم عند الحاجة، في بناء دور عبادتهم وترميمها.. وجاء في هذا العهد والميثاق النبوي:  «ولهم إن احتاجوا إلى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد (أي دعم وإعانة) من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم ولا يحملون إلا قدر طاقتهم وقوتهم على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يُكلفون شططا، ولا يتجاوز بهم أصحاب الخراج من نظرائهم..». 
وكل حقوق المساواة في المواطنة التي قررها الإسلام لغير المسلمين في الدولة الإسلامية «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.. وحماية الأنفس والدماء والأموال والأعراض وأماكن العبادة والحريات هي في مقابل الولاء الكامل للوطن، والانتماء الخالص للمجتمع والدولة والأمة، وهي واجبات على كل المواطنين، المسلمين منهم وغير المسلمين». 
وفي تقرير هذه الواجبات نص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «وأشترط عليهم أمورا يجب عليهم في دينهم التمسك والوفاء بما عاهدتهم عليه، منها ألا يكون أحد منهم عينا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوي منازلهم عدو للمسلمين ولا يساعدون أحدا من أهل الحرب على المسلمين بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعونهم.. وأن يكتموا على المسلمين ولا يظهروا العدو على عوراتهم..». 
كذلك نص عهد الرسول الكريم للنصارى على الحرية الدينية.. فجاء فيه: «ولا يجير أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام»، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46). ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد..». 
ولم تقف الدولة الإسلامية عند أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وإنما شملت حتى من يدينون بالديانات الوضعية من المجوس والزرادشت والبوذيين والهندوس وغيرهم. ومن الملاحظ في ما سبق أن الواجبات كانت في مقابل الحقوق، فكما يتمتع المواطنون بالحقوق لابد أن يؤدوا ما عليهم من واجبات إزاء وطنهم الذي متعهم بهذه الحقوق، وتلكم هي المواطنة المتعادلة. 
وهذا ما لاحظناه في ما سبق حيث انطبقت تلك القاعدة على المتدينين من غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية، والذين أفاض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقوق كاملة، إذ قرر لهم حماية الأنفس والدماء والأموال والأعراض وأماكن العبادة. 

حق المواطنة والجزية
 ولقد جرى العرف الإسلامي على تسمية غير المسلمين المقيمين في المجتمع الإسلامي بأهل الذمة و(الذميين)، ويرى الكثيرون أن هذا الوصف قد بات في حاجة إلى المراجعة، فإن معيار قسمة الناس على أساس أديانهم يلغي قيمة الوطن الذي يجب أن يظل ملكا للجميع سواء الذين يدافعون عن العقيدة أو الذين يدافعون عن التراب، غير أن المسلمين صاروا شركاء في أوطان المسلمين، وإن ديار المسلمين ينبغي أن تظل ملكا للمسلمين وغير المسلمين من غير تسلط ولا أفضلية من أحد على أحد، لأنه لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه وعمله الصالح. فغير المسلمين المقيمين في الدولة الحديثة مواطنون فيها لهم من الحقوق ككل المسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين. 
 خلاصة القول إن تعبير أهل الذمة لم يعد مُعبرا عن الواقع الراهن لأن جميع أبناء الدولة مواطنون يستمدون حقوقهم ويتحملون واجباتهم بناء على صفة المواطنة التي ترفض التمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وفي ما يخص الجزية التي كانت تدفع من قبل أهل الذمة نظير حمايتهم في المجتمعات الإسلامية، وقبل أن ينخرطوا في الجيوش العربية والإسلامية، فقد أصبحت غير ذات معنى وفقدت وظيفتها، وهذا وهو الرأي الراجح عند كثير من الفقهاء وخاصة الأحناف والزيدية، والقاعدة المشهورة (الحماية بالجباية). 
ومن هنا سقطت الجزية في العصر الحديث حيث زالت العلة وهي الحماية، فلا داعي إلى الجزية، وعلى ذلك فتسقط الجزية إذا زالت أسبابها بزوال الحماية، وخصوصًا أن أصحاب الديانات الأخرى صاروا ينخرطون في فريضة الجهاد والدفاع عن الوطن مشاركين المسلمين كما هو حادث الآن في الدولة الحديثة، حيث يجند المواطنون جميعا بصرف النظر عن دينهم. 
الفكر السياسي الإسلامي والمواطنة: إن الفكر السياسي الإسلامي لا يعترض على مفهوم المواطنة بل يستوعبه ويعترف به، ويؤكد عليه، فهو من حيث الإحساس والشعور إحساس إنساني وبشري طبيعي، وهو أيضا يرتب واجبات على الإنسان كما أنه يرتب حقوقا لهذا المواطن، ولكن الإسلام فضلا عن اعترافه بهذا يعطي للمفهوم اتساعا بحيث يصبح مفهوما أكثر شمولا، فالمواطنة الصالحة ليست حكرا على مكان دون آخر، بل إن ممارستها مطلوبة في كل زمان ومكان، في الداخل والخارج. 
ولعل أبرز من أعطى لمفهوم الوطنية المنبثقة من المواطنة اتساعه الإنساني نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «ليس منا من دعا إلى العصبية» (رواه أبو داود في سننه «جزء من حديث») فالإسلام تجاوز مضمون هذا الحديث من المفهوم السياسي الضيق إلى المفهوم الإنساني الشامل الواسع. 
فإن الإسلام يعطي مفهوما إنسانيا للمواطنة ينصهر فيه الولاء والانتماء من الجزء إلى الكل، بحيث لا يتوقف امتداد الولاء أو الانتماء عند حدود العائلة أو القبيلة أو البلدة أو حتى الدولة، وإنما يتسع ليشمل كل شيء من مكان الوطن وزمانه من دون حدود لمعنى السياسة والجغرافيا مما يعرف إسلاميا بدار الإسلام.  وهكذا سما الإسلام بالمواطنة مرتقيا بممارستها الوطنية فوق التعددية الثقافية والتي كانت من أبرز المشكلات التي تواجه الوطنية فتحولت في المجتمعات الإسلامية إلى ما يُعرف بتلاقي الثقافات وتوافق الأفكار، مما أنتج مواجهة رشيدة وفريدة ومبكرة لمشكلة التعددية. 
وإذا كانت المواطنة وحقوقها قد عرفها الغرب في العصر الحديث على أنقاض الدين، بعد انتصار العلمانية على الكنيسة الغربية، ولذلك جاءت مواطنة علمانية.. فإن الإسلام هو الذي أنشأ المواطنة وشريعته هي التي قررت حقوقها، وبذلك ضمنت القداسة لهذه الحقوق، حتى لا تكون «منحة» يسمح بها حاكم ويمنعها آخر.. وبعبارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله فهو عند الله من الكاذبين». 
وكذلك قرر الإسلام في دستور دولة المدينة، أن الشريعة الإسلامية.. كما هي ضامنة للحقوق والواجبات في المواطنة، فإنها هي المرجع عند الاختلاف. فنص هذا الدستور على «أنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله». 
هكذا أبدع الإسلام الدين والدولة والحضارة، كامل المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.. عندما كانت الدول والحضارات الأخرى لا تعترف بالآخر.. فالمواطنون في أثينا كانوا هم الرجال، الأحرار الملَّاك الأشراف من اليونان، ومن عداهم برابرة ليست لهم أي حقوق.. وكذلك كانت الحال عند الرومان.. لكن الإسلام هو الذي قرر وقنن وطبق كامل المساواة بين الرعية والأمة في الدولة الإسلامية، وفي تكافؤ الفرص.. وفي حرمة الأنفس.. والدماء.. والأعراض.. والأموال.. والعقائد.. والحريات.. ولذلك فتحت الأبواب الواسعة أمام مختلف الملل والنحل والمذاهب فشاركوا في بناء الحضارة الإسلامية وصنع التاريخ الإسلامي. 
ويلفت المفكر محمد عمارة النظر إلى أنه إذا كانت السنة النبوية هي البيان النبوي للبلاغ القرآني.. فإن هذه العهود النبوية التي قننت حقوق المواطنة وواجباتها هي «سنة نبوية قولية»، تحولت بالتطبيق إلى «سنة عملية» أيضا.. وأمام هذه السنة النبوية لا مجال إلى اجتهاد يخالفها بصرف النظر عن مقام صاحب الاجتهاد المخالف». 

عائد المواطنة «صمام الأمان»
 ولذلك يؤكد الباحث نبيل زكي أن عائد المواطنة واحترامها وتطبيقها يعتبر «صمام الأمان» في عالمنا العربي والإسلامي الآن، وخاصة أن منطقة الشرق الأوسط تضم أوطانا عربية وإسلامية تمزقها صراعات طائفية ومذهبية وتدمرها جرائم ومجازر يرفع أصحابها - زورا وتضليلا - شعارات دينية، ولم تعد المصادمات تقتصر على أطراف مسيحية وإسلامية، وإنما على الشيعة والسنة ومشاحنات قومية وعرقية بين تركمان وأكراد، وقد تتفجر بين أكراد وعرب، وتتصدع دول وتتساقط وتنهار كيانات وتتفتح أبواب النيران عندما يتقاتل أبناء الوطن الواحد. 
ومن هنا كانت أهمية التأكيد على مفهوم المواطنة وقيمتها ومبادئها فالكل أبناء، والكل متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات ولا تفرق بينهم عقيدة ولا دين، ولا تعرف المنطقة عبر التاريخ انقساما دينيا أو طائفيا إذا كانت تحت ظلال المواطنة، ولو عادت كما كانت في السابق لوجدت المخرج مما هي فيه .